كان مقال ميشيل كيلو قبل الثورة ببضع سنوات عن النعوات في مدينة اللاذقية أحد تجليات فكر سياسي اجتماعي ثاقب كان يتمتع به الراحل الكبير؛ ففي المقال عرّى بشجاعة وذكاء نادرين ما أفرزته طائفية النظام من استقطاب حضري ريفي كان من آثاره ظاهرة الاختلاف الواضح والجوهري بين نعوات أبناء مدينة اللاذقية ونعوات أبناء ريفها، ففي الأولى تجد عبارة المرحوم الحاج وتجد عبارة ” أبناء المرحوم الطبيب والمهندس والمحامي،..، بينما في نعوات الريف عبارة “أبناء المرحوم المقدم والعقيد و…..
عسكر النظام الطائفة وجعل المؤسسة العسكرية والاستخباراتية عالمها الجديد.
كان ميشيل ذا رؤية ثاقبة لا أبالغ بالقول إنها أقضّت مضجع النظام الذي يؤرقه التسلل إلى جذره الخبيث بينما قد لا يحفل بانتقادات تمس ظاهر فساده.
وفي رواية الراحل الكبير عن الطفل الذي ولد في معتقلات النظام بعد رمزي كبير يشير إلى طبيعة نظام فريدة من نوعها في وحشيتها وقسوتها واستثنائية ضلوعها في الجريمة.
في رحيل المناضل ميشيل كيلو وما خلفه من رد فعل حزين اشترك فيه معارضو نظام الاستبداد على اختلاف توجهاتهم ما يؤكد اتفاقًا على قيمة الرجل الرمزية، فهو وإن كان قد سبّب في حياته جدلًا بين مؤيدين له وخصوم حفر في الوجدان الجمعي الثائر صورة للوطني الحقيقي الذي لم يغير ثوابته ولم يتخل عن مطلب الحرية، ولم يتراجع عن مقارعة الاستبداد.
يجدر بحدث رحيل رمز كميشيل كيلو أن يكون محرّضًا على مراجعة شاملة للنموذج وليس الاكتفاء بكتابة المرثيات على الرغم من الحزن العميق الذي يلفنا كلنا بسبب رحيله.
كان أنموذج اليساري الديمقراطي الذي يتخذ من ياسين الحافظ مرجعية في التوجه اليساري الديمقراطي قد أخفق في الانفكاك من أسر المنظومة التي ينتمي إليها حاله حال معظم اليسار السوري، فعلى الرغم من أن الديمقراطية مثلت شعار المرحلة للجميع إذا ما استثنينا المتطرفين الإسلاميين فإنها بظلالها العلمانية الليبرالية ظلت مفارقة لواقع السوريين وظلت تحلق في عالم المثل وخطابات النخب.
لا أقول هذا تنكرًا لمحاولات أنموذجنا المخلصة منذ زمن بعيد في محاولات تجذيرها عبر النشاط السياسي والثقافي، ولكن ما أعنيه أنها كانت مفهومًا يراد له أن يتنزل على واقع تظن النخب أنها قد قبضت عليه وحددت نقاط ارتكازه من دون التبصر العميق في المفارقة بين المنظومات المهيمنة في هذا الواقع، وبين لوازم المفهوم الجديد الميتافيزيقية وجذره المنبثق في سياق مغاير.
لا أحتاج إلى تكليف نفسي مؤونة جهد كبير لدعم المسطور آنفًا بالحجة القاطعة فسلوك النخبة السورية وخطابها عبر السنوات التي تصرمت من عمر الثورة السورية كفيل لوحده بإثبات مفارقة رؤاها للواقع.
لم أجد مبررًا لاحتجاج الراحل الكبير على قولي إن ياسين الحافظ مفكر مهم ولكنه ليس فيلسوفًا ولا غضبه لانتقادي لليسار إلا في افتراض بقايا قيود أيديولوجية لا تزال حاكمةلردود الفعل.
ولم أجد مبررًا لاحتجاجه مرة أخرى عندما أعدت ترتيب نظم المعرفة الإسلامية بوضع العرفان أولًا والبيان ثانيًا والبرهان ثالثًا في مقال منشور على عكس صنيع محمد عابد الجابري، وأقول إنني لم أجد مبررًا ليس للاحتجاج من حيث هو، ولكن لأن الاحتجاج قام على أساس أن في هذا مجافاة للعقلانية التي قامت عليها الفلسة الغربية، وهو ما يفصح عن إرادة لفرض منظور معين للعقلانية مستورد على سياق له منظومته الخاصة وعقلانيته المغايرة.
ميشيل كيلو -في النهاية- رجل كبير يستحق البحث المعمق وقد جمعنا قاسم مشترك هو مطلب الحرية، وقد ترك لنا إرثًا كبيرًا من فكره وتاريخه النضالي، وسيظل رمزًا وطنيًا للأجيال، وقد حفر بثباته اسمًا كبيرًا في عقل ووجدان كل ثائر سوري.
وداعًا ميشيل كيلو، وداعًا أيها الرمز.