أولاً: الأوضاع الداخلية السورية وتطوراتها

 1: الأوضاع الداخلية والتطورات الميدانية:

أ-منذ بداية هذا العام، لم تشهد الأوضاع الميدانية تبدلات نوعية في حركة القوى على الأرض، لكن الاحتلال الروسي وميليشيا الأسد لم يتوقفا عن شن هجماتهما على مختلف المناطق الخارجة عن سيطرتهما. تحاول روسيا عبرها إيصال رسالة مفادها أنها تستطيع العمل على أكثر من ملف في الوقت ذاته. من جهة أخرى تصدَّرت الاغتيالات المشهد، وكان نصيب درعا 40% من الضحايا، و21% في دير الزور، و16% في حلب، كما رصد الانتهاكات المستمرة بمقتل (7) اشخاص تحت التعذيب، ثلاثة منهم في سجون قسد.

ب-شهدت محافظة درعا منذ آذار الماضي تصعيداً جديداً، ودارت مواجهات عنيفة في عدد من مناطقها، أسفرت عن مقتل وجرح العديد من ضباط وعناصر النظام. يأتي هذا التصعيد بعد (6) أشهر من اتفاق التسوية الجديد الذي رعته روسيا بين اللجنة الأمنية للنظام واللجنة الممثلة للأهالي. لكن النظام كعادته لا يلتزم بأي تسوية ويبدأ بالاعتقالات والاغتيالات والتضييق على الأهالي، لتذهب مصالحات الروس أدراج الرياح، وعودة الاغتيالات المتبادلة بين كل الأطراف في ظل الفوضى وانتشار السلاح، وخروج المظاهرات في ذكرى الثورة، كلها دلائل الى استمرار ضعف قوة النظام العسكرية والأمنية، لكنه مستمر بالانتقام، من عناصر التسويات وبعض قيادات الفصائل السابقين الذين ما زالوا مصدر قلق وتهديد لسلطته مالم يتم اعتقالهم او اغتيالهم.

ج-إن موجة الاحتجاجات التي عمَّت مدينة السويداء وأريافها، كان صاعقها المفجر معاناة الناس وتردي مستوى أحوالهم المعيشية أسوةً بإخوانهم في مناطق أخرى، لكن تجربتهم مع النظام وفَّرت لهم دليلاً قاطعاً أن ليس لديه ما يقدمه لهم أو لغيرهم سوى ماكينة الحرب والقمع والنهب والفساد وتمكين الغزاة من استنزاف موارد البلاد، في ظل عجزه عن تأمين رغيف الخبز خارج بطاقته “الذكية”، ودفع البرد والجوع والغلاء عن أهلها واستمرار انقطاع الكهرباء والغاز والمحروقات في بلدٍ يحلم الجميع بمغادرته، تشهد على ذلك الطوابير على أبواب الهجرة والجوازات. إن توسع دائرة الاحتقان الشعبي وخروج بعض الموالين عن صمتهم وانضمامهم إلى صفوف الاحتجاج أكثف تعبير عن رفض أهل المحافظة للواقع الذي فرضه النظام عليهم، كما يعكس إصرارهم على مقاومة سياسة امتهان كرامات الناس وإذلالهم، ووضع حد لظواهر الخطف والقتل والسلب، ونشر المخدرات. لمواجهة هذه الاحتجاجات أرسل النظام تعزيزات عسكرية إلى المحافظة بحجة نزع سلاح العصابات التي أطلقتها أجهزة الأمن نفسها، وهي من تدير نشاطاتها. فالمهمة الحقيقية لهذه التعزيزات الأمنية هي تقطيع أواصر المحافظة وتحويل معاناة الناس إلى أمر واقع ونشر أجواء الخوف والإرهاب تمهيداً لتطويق النشطاء المطالبين بأبسط حقوق الناس المشروعة. فالأجهزة الأمنية هي التي تنسق مع العصابات المسلحة للإيقاع بالمعارضين واعتقالهم، وهي التي تثبت دور الحواجز الأمنية في إدارة التشبيح وفرض الأتاوات، وكأن السلطة تعمل على توفير كل عوامل الانفجار. السويداء قالت كلمتها بوصفها جزءاً من الثورة السورية التي خرجت من أجل الحرية والكرامة والعدالة ووجَّهت بتحركها السلمي ضربة موجعة لأكاذيب النظام عن حماية الأقليات، مطلقةً رسالتها السياسية في رفض نظام العبودية وحكم المافيات ودولة الميليشيات وشراذم الاحتلال، مؤكدةً من جديد على الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة التي ما زالت هي مفتاح الخلاص من نظام الإبادة والتوحش والتهجير.

د- مجزرة التضامن ومرسوم العفو: تابع العالم بكثير من الذهول والشعور بالصدمة، أخبار وتفاصيل واحدةٍ من آلاف المجازر التي ارتكبتها ميليشيا الأسد بحق عشرات المدنيين في مخيم التضامن الدمشقي، والتي نشرتها صحيفة “الغارديان” البريطانية مرفقاً بفيديو يصور عناصر من ميليشيا الأسد ومخابراته وهم ينفذون عملية قتل وحرق جماعي جرَت في عام 2013، لواحدٍ وأربعين ضحية من المدنيين العزَّل ثم رميهم في حفرة الموت التي أُعِدَّت مسبقاً لهذا الغرض. أن هذه المجزرة المروِّعة كشفت للعالم طبيعة نظام الأسد الإرهابية والفاشية، كما كشفت صمت وحجم التواطئي المجتمع الدولي على جرائم الأسد، والتي تصنَّف كجرائم حرب طائفية وتطهير عرقي وفق المنظمات الحقوقية.

  مجازر الأسد وحلفائه في التوحُّش والجريمة ليست جديدة على مسامع وأنظار السوريين، فقد خَبِروها عبر السنوات الماضية، إلا أن نشر تفاصيلها من قبل صحيفة “الغارديان” يأتي في إطار تحرُّك غربي هدفهُ رسالة ضغط سياسي على بوتين، كورقة تكشف جرائمه وجرائم حليفه الأسد على وقع جرائمه في أوكرانيا. كما تقدم هذه المجزرة المروعة زخماً جديداً في تحريك ملف جرائم نظام الأسد أمام العدالة الدولية. خاصةً أن الولايات المتحدة في ذكرى الثورة أطلقت توعُّداً بكشف وملاحقة ملفات عن جرائم الأسد وفتح باب المحاسبة أمام المحاكم الدولية.

 لقد أعاد نشر وقائع مجزرة التضامن، تسليط الضوء من جديد على القضية السورية على مختلف المستويات بعد أن ظن الأسد أنه استطاع طيَّ جرائمه إلى الأبد، والبدء بمرحلة إعادة تأهيله بمساعدة حلفائه، فالملف الحقوقي والقانوني وما يثيره من تفاعلات على مستوى الرأي العام، أصبح له تأثير كبير على توجهات المجتمع الدولي ومصدر إحراج للقوى الفاعلة،  لذلك سارع النظام ولأول مرة للإفراج عن بضع مئات من المعتقلين حتى الآن، في حين يبلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرياً أكثر من مائتي ألف، والهدف طبعاً محاولة احتواء تداعيات المجزرة والعمل على تغييبها عن الأنظار من خلال إشغال الناس بأخبار العفو والمفرج عنهم وحرف انتباههم عن المجزرة وتفاصيلها، فمرسوم العفو جاء بمثابة قنبلة دخانية تحجب مشهد المجزرة وتغطيها بأخبار الإفراجات. هذا من جهة ومن جهة أخرى يحاول النظام تضليل المجتمع الدولي بأنه يعمل على تنفيذ مطالب الدول الفاعلة في الملف السوري ويستجيب لضغوطها في الإفراج عن المعتقلين، كما يتلاقى مع مبادرة بيدرسون خطوة مقابل خطوة، علماً أن ملف المعتقلين ملف فوق تفاوضي. إلا أن شواهد على الأرض أكدت أن أجهزة المخابرات تعمدت المماطلة والتأجيل في عملية الإفراج لتتمكن من مفاوضة الأهالي وعقد مساومات مالية معهم مقابل الإفراج عن ذويهم، كما أنها اعتقلت عدداً من أهالي المعتقلين، لكنَّ اللافت للنظر كان في أوضاع المفرج عنهم وأشكالهم التي توحي بأنهم قادمون من دهاليز الموت، فقد عَلَكَ السجن وجوههم وأشكالهم وسحقَ ذاكرتهم وسفحَ كرامتهم، حيث كانوا يتوسّلون الناس بحثاً عن ذويهم، وبعضهم تجرأ وتحدث في الإعلام عما تعرض له من تعذيب يفوق تصوَّر البشر واحتمالهم. 

ه-في ظل انشغال روسيا في حربها ضد أوكرانيا، تعمل طهران كل ما بوسعها على تعزيز حضورها من جهة وإعادة الانتشار لميليشياتها تجنباً للاستهداف الإسرائيلي والتحالف الدولي من جهة أخرى. فقد شهد النشاط العسكري الروسي في سوريا تراجعاً نسبياً منذ إعلان الحرب على أوكرانيا، وتهتم إيران اليوم بتوسيع مساحة نفوذها في معظم الجغرافيا السورية وملء الفراغات التي تتركها روسيا، وتواصل نشر ميليشياتها وإرسال المزيد من الآليات العسكرية والأسلحة الثقيلة ومنصات الصواريخ والمسيرات وأجهزة الاتصال، وكذلك افتتاح مقرات لقيادة عمليات يشرف عليها الحرس الثوري الذي عزز مؤخراً (120) موقعاً ومقراً عسكرياً جديداً في أرياف حمص الشرقية وبادية حماه والرقة ودير الزور وحلب لكل من لواء” فاطميون” وحركة النجباء وعصائب أهل الحق وحزب الله اللبناني ولواء الباقر السوري، كما تم زيادة عديدها بنحو (5000) عنصراً. كما وضعت إيران يدها مؤخراً على مستودعات (مهين) الاستراتيجية بعد أن أخلاها الروس، ووسَّعت نفوذها في مطار “النيرب” العسكري، وأنشأت معسكرات تدريب للمتطوعين الجدد. وقد وفَّر الاتفاق الأخير بين قيادات من الحرس الثوري وقادة الفرقة الرابعة فرصة انشاء (11) مقراً قيادياً مشتركاً في كل من “حسياء” وتدمر و “مهين” و “القريتين” و “السخنة” و “الكم” و “الطيبة” (شرقي حمص)، و “السلمية” و “السعن” و “أثريا” و”الشيخ هلال” شرقي حماه وأصبحت إيران عبر حزب الله تسيطر على خط متصل بطول (300) كم وعرض (120) كم في عمق البادية السورية، يمتد من جبال القلمون و”عرسال” مروراً ب “دير عطية” و”النبك” وصولاً لشرقي حماه وحلب حتى مطار النيرب.

و-يغذي النظام آلته الحربية وميليشياته وأجهزة مخابراته من الأموال المنهوبة التي يتحصل عليها من الشعب، أما المظاهر التي يراها المواطن السوري في مناطق النظام من وجود أسعار مختلفة لنفس السلعة بين سعر مدعوم آخر غير مدعوم عبر البطاقة الذكية نفسها، وسعر ثالث حر خارج البطاقة، وآخر تحدده السوق السوداء التي تمتلئ بكل السلع المطلوبة بأسعار خيالية، وهو ما يفسر وجود أسواق تديرها آلة الحرب، وتنطبق سياسة التسعير هذه على كل السلع من مشتقات نفطية وخبز وأرز وسكر وزيوت وغيرها. ومن جهة أخرى يواصل النظام وبإصرار عملية ضخمة لإعادة هندسة المدن والبلدات والسكان وفق أهداف التغيير الديمغرافي في أرياف دمشق وفي محافظة حلب وعدد من المحافظات الأخرى، ذلك باتباع سياسة تسوية مناطق المعارضة بالأرض، ووضع اليد على أملاك الغائبين والمهجرين وإقامة مشاريع سكنية جديدة تعتمد فكرة إحلال سكان جدد مكان السكان الأصليين، وربط الأحياء الجديدة بالأحياء المحسوبة على حاضنة النظام.

ز-تبقى إيران هي المستفيد الأكبر من حالة الجمود السياسي والانهيار الاقتصادي في سوريا، فهما يشكلان البيئة المثالية لتحقيق المزيد من الانتشار والسيطرة، فإيران اليوم هي العصب الرئيسي لاستمرار النظام اقتصادياً ولو بحدوده الدنيا عبر خطوط ائتمان مفتوحة، تسترد إيران أثمانها من السيطرة على الأرض وعلى موارد البلاد وقضم أجزاء من سيادتها وتسهيل عملية التشيُّع وتجنيد الشباب في الميليشيات من جهة، ونشر المخدرات من جهة أخرى في سباق مع الزمن لبناء أوسع بيئة صديقة وموالية لها في مناطق تواجدها وسيطرتها. 

2: في التطورات الاقتصادية والاحوال المعيشية:

أ-تكشف التقارير الاقتصادية ومراكز الابحاث المتتبعة للشأن السوري، حقيقة الوضع الكارثي الذي وصل إليه الاقتصاد على يد عصابة الأسد في ظل الانخفاض الكبير والمتزايد للواردات وتوقف عجلة الانتاج في مختلف القطاعات الاقتصادية، وأن الجزء الأساسي من موازنة عام 2022 يعتمد على زيادة الضرائب والرسوم بنسبة تزيد عن 70% من الواردات، إضافةً إلى خلو هذه الموازنة من أية إشارة لرصدٍ مالي لتوليد الاستثمارات أو خلق فرص عمل جديدة، لتحريك عجلة الاقتصاد المشلول. كما تشير هذه التقارير بوضوح إلى أن التضخم المالي هو من أكبر المشكلات في بنية الاقتصاد السوري حيث بلغ أكثر من 200% خلال العالم الماضي فقط. وأن الفقر والجوع ومظاهر اضطراب الأمن الغذائي التي يعانيها السوريون عموماً يقف وراءها تآكل القيمة الشرائية والبطالة وسيطرة مافيات الأسد على السوق السوداء، وأن انهيار سعر صرف الليرة يؤدي لتضاعف الأسعار لعشرات الأضعاف بحيث يعجز الناس عن تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم ولو لأيام للبقاء على قيد الحياة. ومما يجدر ذكره أن حالة الانهيار الاقتصادي ومستوى الافلاس لخزينة الدولة، دفعا النظام لاعتماد كل اشكال الجباية المالية غير القانونية التي توفرها اجراءات تعسفية والتي لا تعدو أن تكون في جوهرها عملية سطو منظم على مدَّخرات الغير، واستيلاءاً غير شرعي على ما تبقى في جيوب السوريين، لأنها تتخذ شكل الخوَّات والأتاوات التي لا يمكن التهرب منها، عندما تصدر عن المكتب السري التابع للقصر الجمهوري، أما وسيلته لتخفيف العجز وتوفير السيولة النقدية اللازمة فهي التمويل بالعجز وإصدار سندات الخزينة واستمرار آليات النهب الداخلي وطباعة العملة الورقية دون رصيد، ورهن ما تبقى من مقدرات البلاد أو بيعها كطريقة لسداد الديون المتراكمة .

ب-لعل ما يفاقم أزمة الاقتصاد السوري ويزيد من معاناة الناس في معيشتهم، هو انكشاف هذا الاقتصاد بشكل مباشر على الأزمات الاقتصادية الخارجية دون حوامل داخلية تحميه، الأمر الذي يجعل تأثير هذه الأزمات سريعاً ومباشراً، وكارثياً على المستوى المعيشي، فموجة ارتفاع الاسعار عالمياً بسبب أزمة النفط والغاز -على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا-  أضافت إلى حالة التضخم والإفلاس معضلات جديدة فوق التي يعانيها الاقتصاد أصلاً، فبعد إعلان موسكو قرار الغزو أخذت أسعار السلع والمواد ترتفع بشكل سريع في الأسواق السورية وصولاً لبعض الاختناقات الكبيرة والنقص في الكميات المطروحة ولاسيما بمشتقات القمح والمواد الغذائية والزيوت النباتية، والسبب ليس جشع التجار واحتكاراتهم، بل مافيات القصر التي تسيطر على استيراد جميع المواد الغذائية.

ج-على صعيد الأحوال المعيشية تواصل تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الغذاء العالمي رصد وقائع الأحوال المعيشية السورية. إذ لا زالت سوريا تتصدر قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم بواقع من (93% إلى 95%) تحت خط الفقر و50% منهم تحت خط الفقر المدقع (أقل من دولار يومياً). كما يعاني أكثر من 60% من السكان (أي 13 مليون) من حالة انعدام أمن غذائي، وبلغ عدد السوريين المحتاجين للمساعدة الإنسانية ما يقرب من 15 مليون شخص أي ليس لديهم ما يكفي من الطعام. الوصف لم يعد مجازياً لمعيشة السوريين بل حقيقة يعيشونها في يومياتهم حين يتجرعون كل صنوف الإذلال والإهانة وسط إغراقهم في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي من تأمين رغيف الخبز حتى ركوب الباص، وسط تآكل سرطاني لقدرتهم الشرائية وارتفاع جنوني لأسعار سلعهم جعلهم عاجزين عن تأمين لقمة عيشهم. تستمر هذه الحالة لسنوات طويلة مع غياب أي أفق لحلها أو معالجتها نظراً لارتباط كل الحلول بالحل السياسي المصادر من القوى المتدخلة في الشأن السوري، هذا يضعنا أمام احتمالات لكارثة حقيقية لأنها سياسة ممنهجة لدى النظام وحلفائه. وقد حذَّر برنامج الأغذية العالمي من أزمة غذائية تلوح في الأفق في عدد من الدول وعلى رأسها سوريا، منبهاً إلى مخاطر تفاقم المجاعة فيها.

د-إن الاوضاع المعيشية في مناطق النظام تسير من سيء إلى أسوأ لأسباب لم يعد يجهلها أحد. إلا أن السبب الطاغي اليوم أنه لم يعد يوجد في هذه المناطق دولة أو مؤسسات، ولا حتى حكومة أو نظام حكم قائم، بل مجرد عصابات ومافيات لا هم لها إلا زيادة وتائر النهب والسطو على مؤونة السوريين، ويقف على رأسها بشار الأسد الذي يصب كل اهتمامه على استمرار سلطته وبالتالي استمرار معاناة الناس، مما يعني أن كرسي السلطة وتمسك الأسد به هو السبب الرئيس لاستمرار ويلات البلاد ومحنة أهلها، وليس العقوبات كما يدعي.

ه-أصبح السؤال ماذا تبقى لنا كي نأكل بعدما صارت الخضار مادة للتصدير وحذفناها من قائمة مشترياتنا، أما بقية المواد فلم يعد من السهل إدراجها ضمن قائمة مأكولات المواطن بعد أن أصبحت حاجة الأسرة لتغطية نفقاتها الغذائية الشهرية حوالي مليون ليرة سورية وبقي دخلها أقل من 100 ألف. ما زاد الأمور سوءاً ووسَّع دوائر الاحتقان هو قرار السلطة إزالة الأكشاك في طرطوس ودمشق، التي كانت تعيل آلاف العائلات من ذوي الجرحى والقتلى والمعاقين في معارك الأسد ضد شعبه. أما الطبقة الوسطى في سورية فتكاد تنقرض وسط انهيارات متسارعة لقيمة العملة وتآكل القدرة الشرائية لدى شرائح واسعة من السكان وسط لهيب الأسعار، مما زج بمعظمهم في حالة انعدام الأمن الغذائي، لتصل نسبة العائلات العاجزة عن تأمين قوتها اليومي إلى 94% من السكان.

3: في ذكرى انطلاقة الثورة السورية المجيدة:

أ-حَفلت وقائع ذكرى انطلاقة الثورة السورية المباركة بعشرات التظاهرات والوقفات الثورية والاعتصام في العديد من دول العالم، وفي عدد من المحافظات السورية، جددت التمسك بأهداف الثورة وإسقاط النظام وبوحدة السوريين أرضاً وشعباً، ففي 15 آذار انطلقت التظاهرات في إدلب ومناطق متفرقة من ريف حلب وريف دير الزور، إلى جانب مظاهرة حاشدة مركزية في إدلب تؤازرها مظاهرات أخرى في كل من (الباب وأعزاز وأخترين ومارع)، ووصلت حتى بلدة “الغربة” الخاضعة لسيطرة قسد. رددوا فيها شعارات تندّدِ بالنظام وبقسد معاً واستمرارية الثورة ضدهما. كما تضامنت الثورة السورية مع الشعب الأوكراني عبر التظاهرات في معظم مناطق الشمال السوري رفعت أعلام أوكرانيا مرفقة بشعارات التضامن والتأييد ومطالبة بإنزال اقصى العقوبات بحق المجرم بوتين. أما يوم الجمعة 18 آذار فقد توجه متظاهرو درعا البلد بالخروج بتظاهرة كبيرة من المسجد العمري للتأكيد على رمزيته وعلى ثوابت الثورة وعلى استمراريتها رغم القبضة الأمنية التي يحاول النظام فرضها على أحياء درعا البلد، أما في مدينة “طفس” (الريف الغربي)، وفي بصرى الشام فقد أحيى المتظاهرون الذكرى على طريقتهم مؤكدين تمسكهم بأهداف الثورة وطاف علمها في عدد من الأحياء الأثرية وهتفوا مؤكدين المضي قدماً في دروب الثورة حتى تحقيق أهدافها. أما في دير الزور فقد خرج الأهالي في مظاهرات كبيرة في “الشحيل” و”الشعيطات” ومدن أخرى حاملين علم الثورة ومجددين المطالبة بإسقاط النظام. أما في “سلقين” و “ترمانين” و”جسر الشغور” و”الاتارب” بريف حلب فقد أكدت مظاهرتها التمسك بثوابت الثورة ووحدة الشعب والأرض، وأن لا عودة للمهجرين ولا إفراج عن المعتقلين ولا خلاص للشعب السوري من القتل والتدمير إلا بإسقاط هذا النظام ورحيله عن سوريا.

ب-هذه السنة كانت الحرب في اوكرانيا منصة أحيت وقائع وآلام الثورة السورية، فأخبار الكوارث والمآسي الآتية من أوكرانيا أعادت للمأساة السورية حضورها إلى الواجهة وإلى ضمير ووجدان الرأي العام، حيث ظهرت فيه سوريا للمرة الأولى أمام المجتمع الدولي أنها كانت حقل التجارب الذي اختبر فيه بوتين كل سيناريوهات القتل والتدمير والتهجير، وأصدرت بهذه المناسبة خمس دول أساسية في حلف الناتو (اميركا- بريطانيا- فرنسا-المانيا- ايطاليا) بياناَ خاصاً بالمسألة السورية هو الأقوى منذ سنوات، أسقط الصمت الذي غلف ما ارتكبته روسيا من جرائم في سوريا مسلطاً الضوء على سلوكها المتوحش، كما أصر البيان على وجوب إحالة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية المرتكبة في سوريا إلى المحاكم الدولية، داعياً إلى إفشال كل المحاولات الهادفة للتطبيع مع نظام الأسد . أما (المجلس العربي) _ وهو منظمة غير حكومية يرأسها الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي وتضم عدة شخصيات عربية هدفها الدفاع عن ثورات الربيع العربي وترسيخ ثقافة الديمقراطية والمواطنة في المنطقة­_ فقد أكد في بيان له عن الذكرى عن دعمه الكامل لحق الشعب السوري في تقرير مصيره والتخلص من الاستبداد، وانتزاع حقه في الحرية والكرامة والسيادة والعيش بكرامة داعياً السوريين جميعاً للتمسك بثوابت الثورة وقيمها الخالدة واستمرار الضغط على المجتمع الدولي لإنهاء أزمة اللاجئين والمعتقلين.

4: في التطورات السياسية:

أ-يبدو أن إدارة بايدن كسابقاتها ماتزال حريصةً على تجميد الملف السوري، مع مواصلة إدارة الصراع وإطالة أمد الأزمة، مع إطلاق بعض التصريحات الدبلوماسية الغامضة، وهي ما تزال نضع نصب عينيها إفشال المخطط الروسي في فرض تسويته الخاصة للأزمة التي تحفظ لموسكو المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية في سورية.

رغم ما حققته روسيا ميدانياً لصالح عصابة الأسد، لكنها بقيت عاجزة عن إنجاز تسوية سياسية، وهذا يعني أن احتمالات التصعيد لم تنته بعد، وتظهر تطورات الجنوب في درعا والسويداء وغيرها أن الجمر ما زال تحت الرماد.  والاحتلال الروسي يصر على رؤيته للحل السياسي الذي يضمن بقاء الأسد للحفاظ على مكاسبه في سوريا، ومخاوفه من رحلة استنزاف تدفعه لعرض الورقة السورية في إطار صفقات ومقايضات مع الغرب في القضايا العالقة. إلا إن تمسك الولايات المتحدة وحلفائها بالحل السياسي وفق قرار 2254، يفشل العروض الروسية.

ب-تبدو زيارة الأسد إلى دولة الإمارات وكأنها تحمل مضموناً أكبر من قيمتها السياسية والدبلوماسية، فقد كانت أشبه بحالة استدعاء لإجراء مباحثات، أرادت منها دولة الامارات المتحدة أن تربطه إلى خصرها في سياق الاستعدادات الجارية لإعادة تشكيل خرائط سياسية جديدة في المنطقة في ضوء تداعيات الغزو الروسي والاستقطاب الدولي الحاد والتوقع المرتقب لتوقيع الاتفاق النووي مع ايران وتداعيات ذلك على المنطقة فالزيارة تأتي من داخل السياقات نفسها التي دفعت إلى عقد قمتي شرم الشيخ والعقبة لإخراج المنطقة من الجمود واستحداث دينامية جديدة تعمل على ملاقاة نظام اقليمي جديد في منتصف الطريق.

ج-في سوريا اليوم وغداً تتجمع المخاطر والتحديات في ضوء التطورات وتداعياتها، فالتقسيم بدأ يحفر مخالبه على الارض، ومعيشة الناس في مناطق النظام أصبحت جحيما لا يطاق وسط انعدام الأفق لأية حلول، والمناطق “المحررة” تتعامل بالليرة التركية، والأمريكان اعفوا مناطق قسد من عقوبات “قيصر”، وسمحوا باستثمار النفط في المناطق الشرقية وتوظيفها عائداته في تنمية المناطق “المحررة”، ويطلبون من قيادة قسد الحوار مع المعارضة، وانشاء حدود فاصلة في مناطق نفوذهم. والأتراك عازمون على ترحيل أكثر من مليون لاجئ وتوطينهم في الشمال السوري، هذه كلها معطيات تؤكد استمرار الأزمة السورية، وتكاثر المخاطر على وحدة البلاد مع احتمال عودة الإرهاب ليضرب من جديد، فالمخاطر في سورية وعليها أكبر بكثير من مخاطر الحدث الاوكراني، اذ ربما يستطيع الغرب تقليم الأظافر الروسية في أوكرانيا، إلا أن إيران يزداد خطرها وتحقق المزيد من مصالحها، بعدما أصبحت هذه المصالح موضع تفهم وتسامح من الغرب في لعبة المقايضات وتوازن المصالح في ظل مفاوضات فيينا المفتوحة.

د-بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، يصعب التنبؤ بوجود أي احتمال لتوافق دولي في سوريا، حيث يزداد التوتر على وقع تطورات الحرب، وهو ما يزيد من مستوى إهمال الملف السوري، إلا إذا أراد الغرب توسيع المواجهة نحو سوريا والسعي لإخراج الروس منها وحرمانهم من مكاسبهم الاقتصادية والاستراتيجية، وبالتالي حرمان الأسد من دعمهم، وبصرف النظر عن مآلات الصراع في أوكرانيا، فإن الساحة السورية تحتمل إمكانية التصعيد بسبب حذر الغرب من توسيع المواجهة على حدود دول الناتو.

26 / 5   / 2022

اللجنة المركزية

لحزب الشعب الديمقراطي السوري

يتبع الفسم الثاني ..

الأوضاع الإقليمية والعربية ومستجداتها