عضو الامانة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري

الدولة الأمنية في الحياة السياسية السوري

                                      تجربة ووقائع (2)

الثمانينات عقد أسود 

   جاءت عاصفة الثمانينات وتداعياتها، لتشكل ذروة التوحش الذي أظهرته دولة التسلط الأسدية بجوهرها الأمني (أمان التحكم والتنكيل بالناس وتأمين الاستمرار) وقدرتها على الإفلات من أية قيود وطنية أو حدود دستورية وقانونية أو معطيات أخلاقية وإنسانية خلال حملاتها السياسية والعسكرية على الشعب من خلال مواجهتها لنشاط النقابات المهنية وحراكها ونتائج مؤتمراتها. وضد الفعل السياسي للأحزاب ونشطاء المعارضة الديمقراطية التي بدأت بالتشكل والظهور. حيث نشأ ” التجمع الوطني الديمقراطي ” كتحالف من خمسة أحزاب قومية يسارية برئاسة الدكتور جمال الأتاسي. وكان حزبنا من المؤسسين لهذا التجمع عام 1979. فتم حل المجالس المنتخبة للنقابات وإيداع قادتها في السجن لأكثر من عشر سنوات. وتم تعيين مجالس جديدة، حولت النقابات إلى دكاكين أمنية تتلقى التعليمات التي تمثل إرادة السلطة وتخدم توجهاتها. وتمت ملاحقة أحزاب التجمع واعتقال المئات من قادتها ونشطائها، لأنها نددت بما فعله النظام وحملته المسؤولية، ودعت للتغيير الوطني الديمقراطي. وكان لحزبنا نصيب وافر من اعتقالات 1980 لأنه هاجم علناً وبقوة القانون 49 الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي للإخوان المسلمين. وطالت الاعتقالات منظمات سياسية معارضة أخرى كرابطة العمل الشيوعي (حزب العمل الشيوعي لاحقاً).

   أما أحداث حماة 1982 فتلك حكاية أخرى، عندما أطبقت السلطة بقواتها المسلحة على المدينة وارتكبت المجازر الموصوفة من أعمال هدم وقتل واغتصاب وتشريد. فكانت ذروة التوحش الذي مر على شعبنا وبلادنا في تاريخها الحديث. دمرت المدينة، وقتل الشعب وشرد، والضحايا بعشرات الآلاف. والسجون تغص بالسياسيين من مختلف الأحزاب والاتجاهات السياسية، لأن السياسة صارت فعلاً محرَّماً ومجرَّماً. وهنا لا أجد أصدق مما قاله الصحفي الفرنسي ميشيل سورا في كتابه ” الدولة المتوحشة ” الذي يتحدث عن سورية في تلك المرحلة، ودفع حياته ثمناُ لرأيه وموقفه: ” الواقع أن هذا المجتمع تمزقه تناقضات تستغلها الدولة وتهيجها، وذلك لعدم وجود المنفذ السياسي. وهي تفعل ذلك بطريقة تمنع قيام أي إجماع شعبي منظم ضدها “. هذا ما كان عليه الوضع السوري في الثمانينات.

   خلال أحداث حماة اتصل البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بحافظ الأسد شاكياً من أن كنيسة جديدة وهامة في مدينة حماة يجري قصفها وتهديمها بسبب احتماء بعض أبناء المدينة المستضعفين فيها. فجاءه الجواب: نبني لكم كنيسة بديلة، وقفل الخط.

   سجون تغص بالمعتقلين من مختلف المناطق والطبقات الاجتماعية والانتماءات القومية والدينية والعشائرية دون أي محاكمة. باستثناء المحاكم الميدانية التي كانت تعقد دورياً في سجن تدمر، لتحكم بالإعدام عشوائياً والتهمة جاهزة: القيام بأعمال إرهابية والانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين. وتبقى مجزرة سجن تدمر التي نفذها رفعت الأسد في حزيران 1980 وصمة عار أبدية، تكشف وجهاً من الوجوه البربرية المتعددة لنظام آل الأسد. حين أدخل سرايا الدفاع على مهاجع السجناء بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية والمتفجرات، وقتلت أكثر من ألف سجين، في سابقة سورية تذكر بجرائم الهولوكوست.

   داهمت المجتمع حالة من السكينة والخوف لم تحصل في التاريخ السوري. فدخل الناس بيوتهم وأغلقوا الأبواب على صمتهم وهمسهم طلباً للأمن والسلامة. وتسيدت الأجهزة الأمنية الحياة العامة في مؤسسات الدولة والبنى الاجتماعية المختلفة. ولم يعد للدستور والقانون أي موقع أو مرتسم على الأرض باستثناء الوجود على الورق في الخزائن والمكتبات. فالأجهزة وجلاوزتها يتصرفون بحرية لم تكن تتوفر لأمثالهم في الدولة السلطانية. وما من دور للمؤسسات الرسمية من برلمان وحكومة وإدارات ومنظمات غير مباركة ما يجري والمصادقة على القرارات والتبشير بالتوجهات المطلوبة. تم ذلك في ظل صمت عربي ودولي مريبين. 

   لقد كشف النظام بوجه عام وحافظ الأسد بوجه خاص عن وجهه الحقيقي، وسقطت كل الأقنعة والشعارات المعسولة والخادعة التي طرحها وقت مجيئه. فلديه مشروع لبناء سلطة حكم وتحكم، وليس إدارة شعب وبناء دولة. والدولة لم تعد دولة السوريين، إنما دولة العصابة الحاكمة والفئة المتنفذة التي تظللها سياسياً وطائفياً، حين ربط حافظ الأسد طائفته بدوره ومصيره الشخصي. فجرى التوسع بإنتاج العنف بكل أشكاله وتجلياته، وجرى استعماله بحرية خارج أي مساءلة، في وقت استمرت فيه السلطة بابتداع أساليب الخداع وإتقانها لإخفاء أهدافها الحقيقية ومصالحها المتجددة. وما كان لهذه المجريات إلا أن تظهر الوضع على حقيقته. حيث السلطة عدو للشعب، والدولة أداة قهر تستعملها لتأمين الاستقرار والاستمرار. وصارت الدولة مصدراً للإرهاب عوضاً عن أن تكون ناظماً للحياة العامة وتوفير الأمن والأمان.

1984 تعرضت للملاحقة وذهبت إلى الحياة السرية، في وقت كانت فيه البلاد مسرحاً مفتوحاً لعبث الأجهزة وعناصرها خارج أي حدود أو قيود. وكان الحصول على بيت للإيجار عملية شبه مستحيلة، حيث فرض على الناس تسجيل عقود الإيجار في الدوائر الرسمية وذلك تحت أنظار المخابرات وبمعرفتهم. وبالتالي لن يوافق أحد على حمل مسؤولية التعامل مع المطلوبين السياسيين وإيوائهم، فالأثمان باهظة. كانت المخيمات الفلسطينية بدمشق (اليرموك – فلسطين – الحجر الأسود) ومخيمات النازحين من الجولان (القدم – سبينة نهر عيشة) هي الوحيدة التي تفتح أبوابها لهم. كان من نصيبي مخيم سبينة جنوبي دمشق. وكان على المتخفي أن يعيش باسم جديد ومهنة مختلفة ومهام مبتدعة مع تاريخ ومنشأ وطريقة حياة مغايرة كلياً لما اعتاد عليه وللحقيقة. فعليك أن تنكر نفسك وتبتدع شخصاً آخر يحل محلك، وتلعب دوره في التعامل مع الآخرين، ليس على المسرح، بل في الحياة القلقة والمتوترة التي فرض عليك أن تعيشها. وازداد الوضع الأمني شدة وضيقاً إثر تفجير محطة الباصات في حمص 1986. فصارت الدوريات وحواجز التفتيش تملأ العاصمة.

   لا ينتهي الأمر بالملاحقة والحياة السرية عند خروج المطلوب من بيته. إذ تصبح أسرته وأولاده موضع المراقبة والمساءلة والتهديد في المحاولة للوصول إليه. ويجري تفعيل خوف المحيط الاجتماعي واستخدامه في ذلك أيضاً. فصارت تستدعى زوجتي لفروع الأمن المختلفة، وأعطيت أرقام هواتف للتواصل معهم وإعلامهم إن عدت إلى البيت أو شوهدت في مكان ما، ففي ذلك أمان لها ولأولادها. وهكذا فعلوا مع آباء وأمهات وإخوة العديد من النشطاء السياسيين المطلوبين. وهنا يبرز السؤال المر عن موقف هذه الدولة من المجتمع، وكيف تنظر إليه، وإلى أين تذهب به؟  وأي مجتمع يريدون حكمه عندما تسلم الأم ابنها للاعتقال، أو تشي الزوجة بزوجها ووالد أبنائها، ليقع بين أيديهم ويذهب لمصير مجهول؟!

1987 اعتقلت في دمشق وأمضيت عامين بمنفردة في قبو الفرع 251 للأمن الداخلي. وكانت فرصة للتعرف على الحياة الداخلية للدولة الأمنية وأجهزتها، وما يجري بين جدران المؤسسات التي يرتعب المواطن السوري من ذكر اسمها. هناك يتوجب أن تنسى اسمك ومن أنت، لتصبح رقماً هو رقم الزنزانة التي وضعت فيها. ولتتعرف عن قرب على أدوات التعذيب وأشكاله ووسائط التسلط والترهيب والفساد والابتزاز التي صارت بعضاً من سمات الدولة. فأنت كائناً من كنت، تسمعها أكثر من مرة ” لا تفكر حالك خرى كبير، بتموت برميك ببرميل الزبالة “. وصار بين أن تكون مسؤولاً كبيراً في الدولة، وتصبح معتقلاً مستلقياً على بطانية الإهانة والتنكيل والإذلال وتتوسد حذاءك، ورقة صغيرة اسمها ” التقرير الأمني ” التي صارت بمثابة هوية جديدة لك كمواطن بديلاً عن هويتك الشخصية المثبتة في دوائر النفوس الرسمية. هوية يكتبها بحقك كاره أو فاسد أو انتهازي. فأنت لست أنت كما تريد وتعتقد، إنما كما كتبه المخبر وجاء في ” التقرير ” عنك. وكم شاهدت وسمعت السخرية الفظة والتحقير والإهانة لضباط من ذوي الرتب العالية جرى اعتقالهم لأسباب لا تصدق مثل: ابتسامة الضابط الفرحة عندما سمع أن صواريخ أطلقها صدام حسين من العراق وضربت تل أبيب! كان يتم ذلك من العناصر الصغيرة والمتنمرة حتى قبل بداية التحقيق. وهناك سمعت كيف توزع الشقق السكنية التي صودرت أو احتجزت، وفر أصحابها لأسباب أمنية في الأحياء الدمشقية العريقة والراقية على الأتباع والمساعدين لتأجيرها أو استخدامها حسب الحاجة. باختصار، هناك في الأقبية التي يعلوها 18 فرعاً أمنياً تشكل البنية الفعلية لدولة آل الأسد يكون الإنسان وحياته ومصيره مع أقاربه ومن يلوذ به رهن الإذلال والاستغلال وسلعاً مرهونة بإرادة الآخرين دون أي رادع من أي نوع. وليس من ناج من هذا المصير الممكن والمحتمل للجميع، بما فيهم أولئك الذين كانوا جزءاً من المنظومة التسلطية وبعضاً من جلاوزتها. وكثيراً ما وجد المتسلطون والمجرمون أنفسهم ضحايا في نفس الحال الذي أوقعوا به آخرين. وما مصير بعض هؤلاء مثل بشير النجار وغازي كنعان ورستم غزالي وجامع جامع وخلية الأزمة إلا بعضاً من نتائج طاحونة الدم والموت التي شاركوا ببنائها، وصارت إليها الدولة الأمنية.

  ولنا أن نتخيل حجم آلام الأمهات ومرارتها وهن يبحث لسنوات أمام الأبواب المغلقة عن مجرد خبر يشي عن وجود أولادهن أحياء. بينما تنكر جميع الجهات الأمنية وجودهم في أقبيتها. ولك أن تتخيل حجم الابتزاز ونوعيته التي تتعرض له أسر المعتقلين للحصول على خبر موثوق أو زيارة. فالفروع الأمنية ليست ورشة لآلام المعتقلين والسجناء فقط، إنما مصنع للتنكيل الاجتماعي والنهب والتعذيب النفسي لأهلهم وذويهم أيضاً. 

   في إحدى جولات التعذيب القاسية – بعد أن علموا بأنني عضو في قيادة الحزب – صرخت من الألم في وجه المحقق: ماذا تريد مني؟ هل تريد أن أدلك على مستودعات الأسلحة التي بحوزتنا؟ أو تريد معرفة أرقام حساباتنا في البنوك الأجنبية؟ نحن مجموعة من الشباب، نكتب بعض الأوراق التي تمثل رأينا. الشباب صاروا عندكم في السجن والأوراق تعرفونها. فأجابني بهدوء: نحن نعرف الحقيقة، ما عندكم أسلحة، وليس لديكم حسابات مصرفية. لكن لتعرفوا أن الدولة قوية والعمل ضدها مكلف. 

في سجن صيدنايا 

1989 نقلت مع مجموعة من رفاقنا إلى سجن صيدنايا العسكري الذي كان حديث الإنشاء، وتنقل إليه دفعات من السجناء والمعتقلين من الفروع الأمنية ومن سجن المزة العسكري وسجن تدمر الرهيب. وكذلك من المحافظات الأخرى. وبعد ” الاستقبال ” وهي الحفلة الأولى من التعذيب الجماعي، نقلنا إلى الطابق الثالث حيث السجناء الذين لم تفتح زياراتهم بعد. وهنا كانت مفاجأتي الكبرى بعدد السجناء الكبير وحسن تمثيلهم للشعب السوري. وهمست لمن حولي ” الله يخرب بيتك يا حافظ الأسد ساجن سورية كلها “. إذ كان النزلاء من مختلف الاتجاهات السياسية إسلاميين وبعثيين وشيوعيين من عدة تنظيمات. عسكريون ومدنيون ومن مختلف المهن والطبقات الاجتماعية. ينتمون لجميع الطوائف ومن جميع مكونات الشعب. عرب وأكراد وتركمان، شركس وأرمن وسريان آشوريين. مسلمون من جميع المذاهب ومسيحيون من جميع الطوائف، دروز واسماعيليون وعلويون. كما كانوا من كل أنحاء سورية ومن جميع المحافظات. وكان للعرب من البلدان الأخرى نصيب وافر في سجون الدولة الأمنية، وخاصة من الفلسطينيين واللبنانيين الذين كانوا بالمئات مدنيين وعسكريين. وقد عانى لبنان واللبنانيون لثلاثين عاماً من جرائم وارتكابات هذه الدولة.

   كان السجن في تلك الفترة يستقبل دفعات متواترة من سجن تدمر، وكانت فرصتنا لنسمع حكايات مذهلة مما جرى هناك من فم أصحاب التجربة، الذين خاضوا معاناتها أو شاهدوها. حتى خيل إلينا نحن الذين أمضينا سنوات في السجون الأخرى، أننا لم نكن في السجن مقارنة مع الوقائع والمجريات التي رواها لنا أصحابها بشكل فردي أو جماعي، لدرجة تجعلك ترمي كل ما قرأته أو سمعته عن السجون الرهيبة في العالم ببئر الإهمال والنسيان. فسجن تدمر في هذا المجال نسيج وحده. وكثير من الوقائع والحكايات لم تكن لتصدق لولا أنك تسمعها مع الأدلة من فم الضحايا والشهود أنفسهم. وكنت شخصياً ولأول مرة أكتشف حجم الأهوال والارتكابات التي تعرض ويتعرض لها شعبنا في ظل صمت العالم وإغماض عيونه. وكان علينا نحن الذين لم نتعرض لوحشية مماثلة أن نساعد على إعادة تأهيل العشرات وإخراجهم من عقدة الخوف والموات، من سجن الرعب الداخلي والرهاب المستمر الذي استولى عليهم ويعيشون في حمأته. كانوا خارجين من الموت جميع أنواع الموت: موت من الجوع، موت من الخوف، موت من الألم، موت من التحقير والهوان، موت من الانتظار وانعدام الجدوى والأمل. موت من غياب الموت الحقيقي، لأنه كان شهوة الكثيرين. 

   وكم كان صعباً أن ينهض زميل لك من فراشه معفر الوجه زائغ النظرات ليسألك: لماذا تأخرت الباصات، صار لنا زمان عم نستنى؟ تعقد الدهشة والحزن والمرارة لسانك، فقد سرح أو فقس، (هكذا كنا نسميه). كان بالأمس ملء السمع والبصر طبيباً أو محامياً أو استاذاً جامعياً، واليوم انتهى كل شيء فهو حطام إنسان أمامك. يرمي عليك حمولته من الحزن والألم كلما رأيته أو سمعته. وكان هذا من أثمان السجن الطويل. 

   كان في السجن ثلاث مجموعات، تتكون كل مجموعة من ثلاثة رجال. المجموعات الثلاثة متهمة باغتيال عبد الحليم خدام. كل منها من منطقة ولا يعرف بعضهم بعضاً، وليس لأي منهم صلة بأي محاولة، لكنهم اعترفوا جميعاً بالقيام بها. سألت أحدهم يوماً، كيف تعترف بمحاولة الاغتيال وأنت لا تعرف شيئاً عنها؟ فأجابني: يا حيفي عليك يا أستاذ! أعترف أنني قمت باغتيال عمر بن الخطاب، بس أخلص من التعذيب.

   كانت الجرثومة الطائفية التي زرعها النظام ورعاها في دولته شديدة الوضوح والفتك حتى في السجون. فبعض السجناء بقي لسنوات طويلة دون زيارة، في وقت توفرت فيه لرفاقه من نفس الحزب ونفس القضية الزيارة الدورية المقررة. وكان جميع نزلاء سجن صيدنايا دون محاكمة، بعضهم كان قد أمضى أكثر من عشر سنوات في السجن دون محاكمة أو زيارة أو أي إخبار للأهل.

محكمة أمن الدولة العليا

لم تكن دولة التسلط والقمع وأجهزتها بحاجة لتبرير احتفاظها بالسجناء سنين طويلة دون محاكمة أو مضطرة لذلك . فحالة الطوارىء المعمول به منذ عام 1963 والأحكام العرفية التي تدار بها البلاد كفيلة بالتبرير والتفسير. وليس من يهتم للأمر أو يسائل من الداخل أو من الخارج . ففي أواخر عام 1991 أطلقت السلطة سراح المئات من مختلف الاتجاهات السياسية ، واحتفظت بمئات من رفاقهم وقدمتهم للقضاء أمام محكمة من الدولة العليا ، وكنت واحداُ منهم . واجهنا النظام في المحكمة بتهم مضحكة وتثير القرف ، والهدف منها تبرير احتجاز الناس لسنوات طويلة ، وإثارة الرهبة والفزع في المجتمع . ” وهن عزيمة الأمة ” و ” معاداة أهداف الثورة ” و” تشكيل منظمة سرية ” في بلد لا وجود فيه لقانون ينظم نشوء الجمعيات والأحزاب . تطوع عدد من المحامين الديمقراطيين للدفاع عنا ، لكنهم اضطروا للاعتذار أمام هذه التهم وشكل التقاضي في المحكمة . ولم يقبلوا استخدامهم كغطاء قانوني للتنكيل بالمناضلين ، فسخرت المحكمة محامين من النقابة لهذا الغرض . 

وجه أبو سليمان ( وهو من معتقلي حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي – جمال الأتاسي ) كلامه لرئيس المحكمة فايز النوري قائلاً : يا أبو فلان ، هلق عندما كنا معاً في فرع دير الزور للجبهة الوطنية التقدمية ، كنا وطنيين ونشد عزيمة الأمة . واليوم صرنا أعداءها وننال من عزيمتها ؟ قولوا كلاماً منطقياً ويصدق يا رجل . . . صمت رئيس المحكمة متلهياً بأوراق بين يديه ولم ينبس ببنت شفة . كان الحرمان من الحقوق المدنية لعشر سنوات مرافقاً للحكم مهما كانت مدته . ويهدف إلى رمي المواطن بالعطالة والضيق والتهميش في حال من الفاقة والعوز ، ليقع في سجن اجتماعي ليس أقل قسوة من الزنازين .