ثالثاً: تطورات الملف السوري 

1 – التطورات الميدانية والأوضاع الداخلية:

 أ- في الشمال السوري: كانت معظم مدن الشمال السوري مسرحاً لحملة تصعيد عسكري تناوب عليها كل من الاحتلال الروسي ونظام الإجرام الأسدي، مترافقاً مع تصعيد تركي، وآخر من عصابات قسد. كما شاركت ميليشيات الأسد ميليشيات “قسد” لتنفيذ مجزرة جديدة في سوق شعبي في مدينة” الباب” زاد عدد ضحاياها عن خمسين مدنياً بين قتيل وجريح. كان هدف الاحتلال الروسي من هذا التصعيد توجيه عدة رسائل لعدة أطراف لعل أولها إثبات وجوده كفاعل رئيسي ومقرر في الأزمة السورية رغم انشغاله بالحرب على اوكرانيا، ويبقى الهدف الرئيس هو مواصلة الضغط العسكري على مناطق المعارضة لمنع الفصائل والأتراك من استغلال فرصة انشغاله عن الملف السوري وتحذيرهما من مغبّة أي تغيير يستهدف خرائط النفوذ والسيطرة.

ب- كما أطلقت القوات التركية حملة تصعيد عسكري واسع بقصف مراكز ومقرات لـ “قسد” ولـ “العمال الكردستاني” وكذلك لمناطق الأسد. ولإضفاء الجدية على تهديداتها تواصل حشد تعزيزاتها العسكرية على حدود كل من (تل رفعت ومنبج)، وتكثف الضغط العسكري على مناطق شرقي الفرات في الحسكة وعين العرب، إلا أن استهداف مواقع روسيا في ريف حلب الشمالي، عكست إصرار أنقرة على الرد على الرسائل النارية بمثلها للجانب الروسي، لتذكيره بأن منع مثل هذه الهجمات يتطلب الاستجابة لمطلبها بالمنطقة الآمنة بعمق 30 كم. في رسالة مفتوحة لكافة الأطراف وخاصة لشركائها في محور استانة، لضرورة أخذ مطالبها على نحو جدي.

ج-في الجنوب السوري  

*- تواصل الأوضاع الميدانية في الجنوب السوري، انزلاقها نحو مواجهات عنيفة بين عدد من الفصائل المحلية وميليشيا النظام وأدواته الأمنية، وعادت المواجهات المسلحة في مدن وبلدات درعا، وكذلك الهجمات على حواجز النظام ومقرَّاته الأمنية جنباً إلى جنب، مع تصاعد عمليات الاغتيال التي طالت العديد من رموزه الأمنية، ومن قادة فصائل التسويات الذين انضموا لأجهزة الأمن أو للميليشيات الروسية والإيرانية. وقد بلغت منذ بداية العام الجاري (256) حادثة اغتيال، وتسبَّبت بمقتل ما يقرب من (200) شخص، بينهم ما يقرب من (100) من قوات النظام والمتعاونين مع الأجهزة الأمنية. وأرسلت قوات الأسد التعزيزات العسكرية بمشاركة إيرانية بهدف محاصرة واقتحام بلدتي “طفس” و “إبطع” وغيرهما. وقصفت الفرقة الرابعة واللواء 313 المدعوم إيرانياً مدينة طفس واستهداف المدنيين في أحياءها الجنوبية وسقوط العديد من الضحايا، كما تسببت بموجة نزوح واسعة خشيةَ التصعيد الميداني. وتعكس تصريحات ملك الأردن عن مخاطر الفراغ الروسي في الجنوب بعد أن شغلته إيران وحزب الله بالمزيد من الحوادث الأمنية وتجارة المخدرات، قلق الأردن من تهديدات تطال أمن البلاد، والتي وصلت إلى مطالبته بمنطقة آمنة على حدوده أسوةً بالمطلب التركي في الشمال، وقد عقدت اجتماعات مشتركة بين المخابرات الأردنية والأمريكية قرب قاعدة “التنف” لبحث المخاطر الأمنية وآليات مواجهتها وانتهت بتشكيل مجموعات من الطرفين لهذا الغرض.  

  *-أما في السويداء التي يسعى الأسد وإيران إلى نشر الفوضى فيها عبر السلاح والميليشيات على اختلاف مشاربها، فقد عاشت شهورها الأخيرة مخاضات عسيرة للحفاظ على أمنها، حيث تتكثف المحاولات لإجهاض موجة التحركات الشعبية المتلاحقة المناهضة للأسد، سواء في الجانب المعيشي أو على خلفية التصدي لمخططات إيران وحزب الله والمخابرات العسكرية، وإغراق المدينة في صراعات داخلية وتعميم أجواء الرعب والفوضى ونشر المخدرات كوسيلة لاستعادة السيطرة على المدينة، وتمكين إيران من تمرير أجندتها في زعزعة الاستقرار وتأمين موطئ قدم لمشروعها التوسعي. وتواصل ميليشيا الأسد عبر ذراعها (الأمن العسكري) نشر مجموعات مسلحة في أرجاء المحافظة، كعصابة (راجي فلحوط) وقوات “الفهد” بزعامة (حميد سليم)، يُشار في هذا السياق إلى وجود تعاون أمني بين قوات التحالف الدولي في “التنف” ومجموعات محلية، برزَ في مقدمتها دور فصيل (مكافحة الإرهاب) الذي أعلن عن تحالفه مع (التنف)، إضافة للوجود السياسي والعسكري لحزب (اللواء السوري)، الذي ينفذ أجندةً مدعومة من جهات خارجية، وكذلك (لواء الجبل)، المكون من مجموعات محلية، إضافة لحركة “رجال الكرامة” (مجموعة الحجَّار)، وفصيل محلي آخر بقيادة (ليث البلعوس) نجل وحيد البلعوس الذي اغتاله النظام قبل أعوام. 

على خلفية تصاعد الغضب الشعبي ضد أعمال السلب والنهب والاختطاف وترويج المخدرات التي تنفذها أدوات الأمن العسكري، تمكنت الفصائل المحلية مع مطلع شهر آب من توجيه ضربة قاضية لهذه العصابات ومحاصرة مقراتها واعتقال العديد من عناصرها في بلدات “سليم” و “عتيل” و”القنوات”، وأدَّت لسقوط عشرات القتلى والجرحى من الطرفين، وأشارت البيانات الصادرة عن مشيخة العقل والمجموعات المحلية بوضوح إلى دور النظام وإيران في استهداف أمن السويداء واستقرارها، 

د- معظم مناطق سيطرة ميليشيا الأسد باتت اليوم ترزح في ظل فوضى أمنية عارمة، نظراً لكثرة توالد وانتشار العديد من المجموعات والعصابات المتصارعة فيما بينها. حيث تتعاظم سطوتها وتدخلاتها في كل المناحي الأمنية والاقتصادية. وإذا كانت بعض هذه الميليشيات تتبع لأجهزة الأسد الأمنية، فإن البعض الآخر قد فرض نفسه كأمر واقع بحكم امتلاكه المال والسلاح، وصار له مصالحه وسلطته الخاصة التي تأتي تنفيذاً لأجندات خارجية. أما أجهزة النظام فتكاد تغيب عن المشهد رسمياً في كثير من الأحيان كما في مدن الساحل السوري وفي درعا وأريافها او غياباً متعمداً كما في السويداء بهدف إثارة الصراعات الداخلية.

٢- التطورات الاقتصادية وانعكاساتها على الأوضاع المعيشية:   

 أ- ثمةً إجماع في أوساط الباحثين الاقتصاديين، بأن مؤشرات الاقتصاد السوري تؤكدُ في مجملها، أن هذا الاقتصاد باتَ اليوم في حالة انهيار كامل وتلاش حقيقي، وفق كل المعايير. فبعدَ أن خسرت سورية مواردها البشرية قتلاً واعتقالاً وتهجيراً ولجوءاً ونزوحاً، مثلما خَسِرَت مواردها المادية والبنى التحتية، وتطوع الأسد لبيع أصولها ومقدراتها أو التفريط بها، والانفاق على آلة الحرب والتدمير العسكرية، كما استولت الجيوش والميليشيات الأجنبية، التي احتلَّت أرضها، على ما تبقى من خيراتها. سورية اليوم التي خسرت حتى الآن ما بين (700-800) مليار دولار من ناتج دخلها القومي، معطوفاً على خسارتها (17) مليار دولار من احتياطها النقدي الذي أُنفقَ على العسكرة، وخَسِرَت أيضاً نفطها الذي كان يسهم بثلث الناتج المحلي القومي، إضافةً إلى (72%) من قمحها، و (52%) من قطنها، سورية اليوم التي تحولت على أيدي العصابة الأسدية إلى الدولة رقم (187) من حيث تدهور مستوى حياة الفرد، والدولة رقم (178) في قائمة الدول الأكثر فساداً في الأرض من أصل (180) دولة، باتَ من الطبيعي أن تصبح أفقر دولة في العالم. كما احتلت سورية المرتبة (151) على مؤشر التنمية البشرية رغم أن الواقع الاقتصادي والإنساني يوحي بأنها باتت أسوأ من ذلك بكثير.

ب-إذا كان الحديث عن الاقتصاد لا يستقيم إلا بتحديد مؤشراته، فإن مؤشر تدهور قيمة الليرة السورية التي فقدت معظم قيمتها أمام الدولار، يعتبر أحد أهم هذه المؤشرات، متبوعاً بانخفاض القيمة الشرائية وتلاشي قيمة دخول ورواتب90 % من الشعب السوري، وارتفاع معدلات التضخم التي تجاوز متوسطها (200%)، وحجم البطالة التقديري الذي تجاوز (80%)، ومؤشر النشاط الاقتصادي الذي لا يعادل سوى (15%-18%) مما كان عليه في 2011، وهبوط مستوى الدخل الشهري للفرد من (275) دولار عام 2011 إلى (18) دولار عام 2022. عدا عن تردّي الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ووقود وخبز، إلى غياب الخدمات الصحية والطبية والدوائية والبيئية مع تراجع خطير في مستويات التعليم وتهالك في البنى التحتية.

  كما أن حيثيات الواقع المعاش لا تكتفي بتأكيد هذه الأرقام بل تزيد عليها، فالشلل يعم كافة مناحي الانتاج بكل قطاعاته وخاصة القطاع الزراعي حيث يتراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير بسبب فقدان الأسمدة وتكاليف النقل وأزمة المحروقات و” الخوة” التي تفرضها حواجز الفرقة الرابعة، بالتزامن مع شبه انعدام للصادرات. ورغم كل محاولات التلاعب والإجراءات الأمنية والتسول التي لن تجدي نفعاً، ما دفع نظام الأسد لإجراءات الانسحاب التدريجي عن دعم المواد الأساسية، ورفع أسعار السلع والوقود والمواصلات وغيرها، ووقف تمويل المستوردات الأساسية، مع العلم بأن ديون إيران على الأسد بلغت (30-40) مليار دولار، والديون الروسية (40-60) مليار دولار، مما يعني استحالة حدوث أي تحسن في المدى المنظور، وأي مستقبل أسود ينتظر السوريين في ظل استمرار الأسد والأسدية. 

ج-إذا كان الأسد الذي مازال يسعى للوصول إلى مجتمع سوري (متجانس) فكرياً وسياسياً، ويتفنن في ابتكار عوامل التهجير الجماعي الممنهج، فإن معطيات كثيرة تشير إلى أن الكثير من المؤسسات والشركات والمصانع والتجار ورجال الأعمال وأرباب الحرف والمهن، وحتى أصحاب المشاريع الصغيرة بدأوا بتصفية نشاطهم وبيع ممتلكاتهم والتوجه للخارج هرباً من الجحيم الأسدي، فإن هؤلاء هم آخر ما تبقى من مقدرات البلد بعد استنزاف كل الطاقات البشرية والموارد الاقتصادية. ولأن سورية تعاني من معضلة تأمين احتياجاتها من المحروقات والكهرباء والغذاء، فإن هذا يعني أن الشعب السوري الذي أصبح لا يمتلك موارد داخلية متجه نحو مجاعة حقيقية في المرحلة القادمة. 

٣- التطورات السياسية:

لا يمكن الحديث عن رصد ومتابعة التطورات السياسية في الملف السوري من دون الأخذ بالاعتبار نتائج بعض التطورات الميدانية الهامّة وانعكاساتها المباشرة على الملف السياسي.

آ- منذ فشل موسكو في السيطرة على العاصمة كييف، بدأت عمليات الانسحاب الروسية من بعض القواعد ومناطق الانتشار في سورية. وتفويض إيران بملء الفراغات التي انسحبت منها. كما شكَّل انضمام ميليشيا (زينبيون) و(فاطميون) إلى الفرقة الرابعة وتشكيل فريق قتالي موَحَّد للانتشار في حلبَ وأرياف حمص وحماه، وفي الجنوب السوري علامةً واضحة في هذا التبدل. أما حزب الله اللبناني فقد تولى إقامة عدَّة نقاط مراقبة عسكرية في كل من القنيطرة والسويداء. 

 وفي إطار صراع النفوذ بين القوى المتدخلة في الشأن السوري، لُوحِظَ تسارع الحضور والانتشار الإيراني. وأصبح من المؤكَّد أن أي انسحاب روسي سيكون منسَّقاً ومدروساً مع إيران. والاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمواقع إيرانية في سورية، يعكس قلق إسرائيل بسلاح إيران الثقيل الذي يزداد تموضعاً في الأراضي السورية، والمتضمن بناء مصانع لإنتاج الصواريخ الدقيقة والمسيرات، ومراكز أبحاث نووية وكيميائية، وكذلك من نقل أسلحة نوعية عبر العراق إلى سورية ومنها إلى حزب الله في لبنان. وقد برزَ ذلك مؤخراً في القصف الصاروخي الواسع والمركز لمقر البحوث العلمية ومحيطه في مصياف أدت إلى تدمير هائل في المواقع بينها أكثر من ألف صاروخ. أما الاستهداف الأمريكي لمخازن الصواريخ في منطقة “عيَّاش” في دير الزور، والضربات في “الميادين” فيأتي في سياق تحذير أمريكي شديد اللهجة يذكر بالخطوط الأمريكية الحمراء.

ب- على صعيد حل الأزمة السورية ما يزال الاستعصاء والجمود سيَّد الموقف، واستمرار الانسداد أمام الحل السياسي، على خلفية اشتداد الصراع الدولي والإقليمي على النفوذ في سورية، وتعطيل القرارات الأممية، وتقدُّم مسار “آستانة” على حساب جنيف كبديل لحل هذه الأزمة، بل وإغلاق الأفق من قبل الروس حتى عن اعمال منتجهم “اللجنة الدستورية” ومنع وفد الأسد من المشاركة فيها، وسط غياب أي رد فعل جدي من المجتمع الدولي، علماً أن (اللجنة الدستورية ) مجرد أداة روسية لكسب الوقت و تبديد الجهود، و توظيفها في مواجهة العملية السياسية و افراغ القرار الدولي “2254”من مضمونه .

   يزداد المشهد السوري بؤساً ومأساوية على كل المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية، كما يزداد تعقيداً وتهميشاً من زاوية الاهتمام الدولي بإنهاء الأزمة، وخاصة مع تزايد العمل على إلحاقه في ملفات الصراع الدولي والإقليمي. بعد أن أصبحت سورية مرتعاً لجيوش وميليشيات دول الاحتلال، وميداناً لتصفية الحسابات وحروب الوكالة في المنطقة والعالم، وساحة حرب مفتوحة بين القوى المتدخلة بهدف مراكمة الأوراق الرابحة، إلَّا أن الأخطر هو تحويلها إلى مادة للصفقات والمقايضات في سوق البازار الدولي وخاصةً في صراع الغرب مع روسيا في اوكرانيا، ومادةً للتنازلات في مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران. في الوقت الذي تتصاعد فيه المواقف الأمريكية حدةً من النظام السوري وجرائمه بحق الشعب السوري، وتتوعده بالمحاسبة ورفض التطبيع معه، لكنها لا تُتَرجم هذه المواقف إلى أفعال على الأرض. لم نشهد أي تحرك، سواء كان سياسي أو دبلوماسي أو غيرهما، ضد الاحتلال الروسي في سورية. والأزمة السورية مثل باقي أزمات المنطقة ما تزال خارج التداول في مفاوضات “فيينا” للتوصل إلى اتفاق يصب في مصلحة إدارة “بايدن” وحزبه في الانتخابات النصفية “للكونغرس”. كما نجد أن التفاهم مع الروس ما زال قائماً في الملف السوري، وما زال يحظى بالرعاية الأمريكية. ظهر ذلك بوضوح في مساومات قرار تمديد إدخال المساعدات الإنسانية في مجلس الأمن، حيث تمكن الروس من انتزاع بعض التنازلات الامريكية مثل تخفيف العقوبات على النظام في قطاع الطاقة، مقابل عدم استخدامهم “الفيتو”.

ج-أوضاع المعارضة السورية: 

  إن حالة الانقسام والتبدد الوطني مستفحلة بين السوريين، تزيدها صعوبات العيش وعوامل اليأس عمقاً واتساعاً. ورغم كثرة المحاولات والمشاريع لتجاوز هذه الحالة خلال السنوات الماضية، ما زالت المشاريع حبراً على ورق وظاهرة إعلامية وفيسبوكية لا غير. فبعض المشاريع دفن يوم إعلان ولادته نتيجة خلافات وتناقضات وتخلف في أساليب العمل، وبسبب غرقها بالفردية حيناً والعصبوية الأيديولوجية والمناطقية والتسرع حيناً آخر. وبعضها خلد إلى الصمت على درب التلاشي بعد عجزه عن التشبيك مع الآخرين أو التنسيق أو التوحد مع المشاريع الأخرى المثيلة والمتعددة على الساحة.

  تزداد يوماً بعد يوم ضرورة تثمير الحراك السياسي والثوري باتجاه بناء جسم سياسي يتمسك بأهداف الثورة ويعتمد الرؤية الوطنية في معالجة القضايا بهدف استعادة سورية وطناً لشعبها واحترام إرادته في رسم معالم مستقبله والدولة الوطنية الديمقراطية المنشودة. تأتي هذه الضرورة لسد الفراغ الحاصل بتمثيل السوريين، بعد أن فقدت المؤسسات التمثيلية الرسمية ثقة السوريين وتأييدهم، من ائتلاف صار ائتلافين، وحكومة مؤقتة لا تملك من أمرها شيئاً غير تنفيذ التوجيهات والتعليمات، وهيئة تفاوض لا عمل لها منذ نشوئها قبل خمس سنوات، ولجنة دستورية تفتتح الاجتماعات الفارغة وتغلقها منذ ثلاث سنوات. وكانت هذه المؤسسات قد تعرضت لنزيف كبير أفقدها العدد الأكبر من الشخصيات الوطنية والنخب الثقافية والثورية. وخسرت بالتالي أيضاً اهتمام الدول الفاعلة، بعد أن فقدت قرارها الوطني المستقل وأصبحت منصات للعواصم التي تعمل فيها. وللأسف فإن بعض الدول تدعم نشاطات ومشاريع ومنظمات جزئية وصدامية خدمة لمصالحها، كمشاريع لتوحيد العرب في الجزيرة بمحافظاتها الثلاث، أو توحيد الكرد أو توحيد الأقليات وحمايتها. وتجد هذه المشاريع من بعض السوريين من يتجاوب معها وينخرط فيها.

  غير أن بعض المشاريع الوطنية الجادة والجيدة موجودة على الساحة أيضاً. لكنها تشكو من الضعف والافتقار إلى الخبرة التنظيمية والمهارات القيادية في العمل السياسي. فتسود بعضها عقلية شعبوية انعزالية طهرانية حادة، وتبرز في بعضها الآخر الفردية والاعتداد بالذات وبالرأي والموقف لدرجة التصادم والقطيعة مع الآخرين، وبالتالي تبقى أسيرة النخبوية أو الاستتباع. وخلال أكثر من ثلاث سنوات من عمر المحاولات، انتظمت المشاريع في إحدى حالتين: 

1 – التفكير بجمع عدد كبير من المشاركين وراء وثائق مدروسة بشكل حسن ومعبرة عن الواقع المرير للقضية السورية، وتعمل على إعادتها إلى طاولة البحث ودوائر الاهتمام الدولي استناداً إلى القرارات الأممية ذات العلاقة واستناداً لاستمرار تفجر الأوضاع في الداخل السوري وثبات عدم أهلية النظام للاستمرار. بعد ذلك يمكن عقد مؤتمر يقر هذه الوثائق ويعلنها، وينتخب هيئة قيادية، بهدف تحويل المشروع إلى منظمة سياسية لها هيئاتها ونظام عملها ومؤسساتها التي تتقدم عبرها إلى السوريين. أحد أبرز هذه المشاريع “مؤتمر القوى الوطنية السورية ” الذي ظهر كمشروع من خلال فعاليات حوارية للرد على مشروع الائتلاف الوطني بتشكيل ” هيئة ” للانتخابات تجاري الانتخابات الرئاسية لبشار الأسد 2021. ونجحت في دفع الائتلاف لإلغاء مشروعه. يشارك في هذا الجهد العديد من رفاقنا وينشطون داخل هذا المشروع، ويساهمون في دفعه إلى الأمام. وهو بأفكاره ووثائقه وسياساته المعتمدة قريب من رؤيتنا للكتلة الوطنية المنشودة. وقد حدد في تشرين الثاني القادم موعداً افتراضياً لانعقاد المؤتمر.

2 – تستند الفكرة الثانية إلى التجارب الواقعية والناجحة في إنشاء المنظمات السياسية والثورية. حيث تقوم نخبة متفاهمة ومتماسكة سياسية وثقافية ومن نشطاء ميدانيين وممثلين من بلدان الانتشار، لا يتجاوز عددها 15 – 20 شخصاً بمهمة ” الهيئة التأسيسية ” التي تضع الوثائق اللازمة، وتطلق المشروع ليكون مفتوحاً على التشبيك والتعاون والتنسيق والتوحد والانضمام للأفراد والجماعات. وخلال عام يمكن تشكيل الجسم السياسي بهيكلية محددة ونظام عمل. عندها يعقد مؤتمره الأول ليقر الوثائق وينتخب قيادة جديدة. فتحل ” الهيئة التنفيذية ” محل ” الهيئة التأسيسية “، وتشكل مكاتبها ودوائر عملها التخصصية من هذا التشكل الجديد. يعزز هذا المشروع تجربة العمل الماضية في مؤسسات الثورة، حيث لم تكن الانتخابات من البداية وسيلة ناجحة لاختيار القيادات المناسبة. وسمحت للمال السياسي وتدخل الدول أن يفعل فعله. كذلك فإن تفاهم الفريق وتماسكه في مرحلة التأسيس ضروري لضمان النجاح. وأبرز مثال على هذا الشكل من العمل ” المبادرة الوطنية السورية ” التي يتواجد حزبنا في هيئتها التأسيسية، لكنها ما زالت في طور إقرار الوثائق وتشكيل الهيئة التأسيسية. 

  عكست موجة التظاهرات الشعبية التي انطلقت مؤخراً في أكثر من (25) مدينة وبلدة في الشمال السوري موجة من الاحتقان ورفضاً لتصريحات بعض المسؤولين الأتراك، مردَّدة شعار (لن نصالح) وقد شاركها النداء عدة مدن في درعا والسويداء، كان لهذه لانتفاضة تأثير إيجابي هام في دفع كلا المشروعين إلى الأمام. فالحاجة صارت أكثر من ضرورية لولادة حامل سياسي، يعبر عن أفكار الثورة وأهدافها، ويستعيد زمام المبادرة لرسم معالم الحراك الوطني في هذه المرحلة. 

دمشق أواخر أيلول 2022 

                                                                                      اللجنة المركزية 

                                                              لحزب الشعب الديمقراطي السوري