أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا العالم إلى أجواء عشيةِ الحرب العالمية الثانية، حينما اجتاحت جيوش النازيين النمسا وتشيكوسلوفاكيا. وإن كان التاريخ لا يعيد ذاته، لكننا نرى بعض التفاصيل والمشاهد والأسباب المتشابهة بين عام 1939 وعام 2022.  وفي الوقت الذي تدفع به سياسات بوتين لنشوب حرب شاملة في أوربا، يبذل الأمريكان والأوربيون كل ما بوسعهم لإبعاد شبح هذه الحرب التي ستكون مدمرة للعالم بأسره، في ظروف تواجد الأسلحة النووية، ويظهرون علناً، عدم رغبتهم بالاصطدام العسكري المباشر مع روسيا.

 لا يمكن عزل الصراع الدائر بين الدولتين الشقيقتين روسيا وأوكرانية، اللتين تجمعهما الجغرافية واللغة والثقافة والمذهب والسياق الموضوعي والتاريخي، الذي يحمل في طياته الكثير من الحساسيات والخلافات الاجتماعية والسياسية بينهما. ولأسباب جيوسياسية لا يمكن لهذا الصراع الإقليمي إلا أن يتداخل ويندرج ضمن صراع جيوسياسي أكبر وأوسع قائم بين روسيا والغرب عموماً. فالموقع الجغرافي الهام التي تحتله أوكرانيا بكونها بوابة روسيا الواسعة إلى أوربا والغرب، أدى لأن يستنفر الغرب بكامله. ولم تقتصر تأثيرات هذا الغزو على أوربا والولايات المتحدة فقط، وإنما على العالم كله سياسياً وعسكرياً واقتصاديا.

ما من شك، في أن روسيا تعاني من حالة حصار من جبهتها الغربية الأوربية؛ خاصة بعد أن راحت تنضم بالجملة دول أوربا الشرقية وبعض الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى الاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو عام 1991.  لكن من المشروع التساؤل، لماذا هرولت هذه الدول باتجاه الغرب وحلف الناتو؟ فالنظام السوفييتي السابق ومن بعده النظام البوتيني يتحملان قسطاً كبيرا من مسؤولية حصار الغرب الراهن لروسيا. وهي إحدى النتائج الرئيسية للنظام الاستبدادي الشمولي خلال الحقبة السوفيتية، وفي عهد بوتين القائم على الديكتاتورية والعجرفة والفوقية والطموحات التوسعية. وتجربة أوكرانيا مع روسيا وقعت في نفس المعاناة، فهذه الدولة الكبيرة بمساحتها وعدد سكانها، والغنية بإهراءات القمح والحبوب والمنتجات الزراعية والثروات الحيوانية والمعدنية، عانت من مجاعة قاسية في ثلاثينات القرن الماضي وخلال الحرب العالمية الثانية. مع المعاناة الدائمة من فوقية روسية مؤلمة. وبعد الحقبة السوفيتية شرع بوتين، المفتون بحلم إحياء الإمبراطورية الروسية، في التدخل بشؤون أوكرانية الداخلية وبشكل نظامها السياسي ليكون على نمط نظامه ونظام الدكتاتور لوكاشنكو في بيلاروسيا. وفي حقيقة الأمر لا يطيق بوتين على الإطلاق أن تنحو دولة كبيرة مثل أوكرانية على حدود روسيا منحىً ديموقراطيا حراً. وفي سياق هذا التدخل قامت الثورة البرتقالية في أوكرانيا التي أزاحت الرئيس الدمية الموالي لموسكو. وكان الرد البوتيني عليها تحريك السكان الروس المقيمين في الدونباس وغالانز وتحريضهم ليطالبوا بالانفصال عن أوكرانيا. وبعد ذلك جاء احتلال شبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا ليعقد الأمور ويفاقمها أكثر بين الدولتين. ويبدو بوضوح أن مخطط بوتين يهدف إلى إضعاف أوكرانية وتقسيمها إلى دويلات، وحصار ما يتبقى منها وإبقائه معزولاً عن البحر الأسود.

كان للولايات المتحدة والغرب دور في تشجع بوتين على غزوِ أوكرانيا، بالاستناد إلى مواقفهما الرخوة والضعيفة إزاء أحداث الشيشان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم. ومن ثم جاء انسحاب أميركا من أفغانستان ليزرع في ذهن بوتين ما يحيل إلى أن الغرب عموما لن يغامر بدخول مواجهة عسكرية مع روسيا لمنعها من تحقيق أهدافها التوسعية.  وبالفعل فإن الغطرسة الروسية والظاهرة البوتينية الشخصانية تضخمت نتيجة السياسات الأميركية، وعلى وجه الخصوص سياسة أوباما التي أفسحت في المجال لموسكو لأن تحتل سورية وتلعب دوراً رئيسيا في الشرق الأوسط عبر هذه البوابة، وكذلك حين قدمت التفاوض مع إيران حول ملفها النووي على حساب كل علاقاتها مع حلفائها في المنطقة. ويبدو أن بايدن يسير على خطى أوباما، فرفع الحوثيين من قائمة الإرهاب، وشرع في مهادنة طهران لتوقيع الاتفاق النووي. وسمحت سياساته الرخوة للحوثيين أن تستبيح صواريخهم ومسيراتهم الإيرانية أجواء السعودية والإمارات إضافة لتهديدها الملاحة الدولية.

لم يتوقع بوتين أن غزوه لأوكرانيا سيوحد حلف الأطلسي والغرب عموماً ضده. رغم انتظاره لعقوبات على روسيا من الولايات المتحدة والغرب، ولكنه لم يكن يتوقع ردود أفعالهما الصارمة وغير المسبوقة. ويبدو أن حدة هذه العقوبات وشمولها كل المستويات الاقتصادية والمالية والعسكرية والدبلوماسية والثقافية وحتى الرياضية، كانت لإضعاف روسيا وتقويض جهدها العسكري واستنزافها في المستنقع الأوكراني وإطالة أمد الصراع والمقاومة ضدها ورفع كلفة حربها وتحريض الشعب الروسي ضد بوتين ونظامه. ويبدو أن الأوربيين والأمريكان – دفاعاً عن مصالحهم بطبيعة الحال- قد اتفقوا على معالجة الوضع المتأزم والخطير في أوكرانيا الذي يهدد أوربا، بفرض العقوبات القاسية والشاملة على روسيا من جهة، ومن جهة أخرى تقديم المعونات السخية والدعم القوي للأوكرانيين للدفاع عن أنفسهم على كل المستويات المالية والعسكرية والاقتصادية، وعلى عدم زج حلف الأطلسي في الحرب مباشرة. وهذا الوضع يؤثر على الداخل الروسي بقوة الذي انقسم منذ الأيام الأولى للغزو وقامت المظاهرات المنددة به في الكثير من المدن الروسية.

ويبقى الموقف الألماني ملفتاً عبر التغير النوعي الذي طرأ على موقف برلين التي أعلنت عن تخصيصها مائة مليار دولار لتطوير مؤسستها العسكرية وكذلك إعلان كل من فنلندة والسويد عن رغبتهما في الانضمام لحلف الأطلسي. وكذلك من المثير للاهتمام تحرك ماكرون وإعلانه بأن الأمور ” تتجه إلى الأسوأ “، ومؤتمر فرساي الذي انفض تحت عنوان “السيادة واليقظة”.

    لم تقتصر تغيرات المواقف السياسية التي أحدثها الغزو الروسي لأوكرانيا، على مواقف وسياسات دول حلف الأطلسي فقط، وإنما انعكست تأثيراته على مواقف وسياسات الكثير من دول العالم. فالصين لم تَتَبنَّ مواقف حليفها الروسي، فلم تندد بالغزو ولكنها اتخذت موقفا وسطياً يخدم مصالحها. وكذلك الهند ومعظم الدول العربية وحتى إيران وتركيا اتجهت إلى الوقوف في الوسط. أما اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا فانسجمت مواقفهما مع المواقف الغربية. ومعظم دول العالم نددت بالموقف الروسي، وكان التصويت في اجتماع الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة على القرار الذي يندد بالغزو الروسي لأوكرانيا أصدق تعبير عن المواقف الدولية والعزلة التي أحاطت بروسيا (141 دولة وافقت على مشروع القرار،35 دولة امتنعت عن التصويت، 5 دول رافضة له). 

    لا يمكن التنبؤ بصيرورة وسيناريوهات الحرب الروسية الأوكرانية. ما صار مؤكداً أن الغزو الروسي لأوكرانيا ليس سهلاً ولا نزهة للجيش الروسي رغم الفرق الكبير في موازين القوى بينه وبين الجيش الأوكراني. ولقد اصطدم الجيش الروسي بمقاومة أوكرانية شرسة. ومن المؤكد أيضاً أن طول أمد الحرب ليس في صالح روسيا وسوف تنعكس عقابيلها على الشعب الروسي. ويمكن توقع سيناريو تقسيم أوكرانيا إلى شرقية وغربية كما كان وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن أن تتحول اوكرانيا إلى دولة محتلة من قبل روسيا وهذا يؤدي إلى مقاومة شعبية وحرب عصابات طاحنة، وإلى وصول الجيش الروسي إلى حدود دول حلف الأطلسي.  وفي كلا السناريوهين لن تكون روسيا رابحة في هذه الحرب.

    لايزال الطريق أمام الحل الدبلوماسي وإيقاف الحرب شديد الوعورة، فهو يصطدم بعنجهية وعناد بوتين وشروطه المستحيلة وعدم قبوله بالحلول الوسط والتنازلات المتبادلة، إذ يبدو أن نزعة قومية وإمبراطورية متطرفة تتملكه، وتسيطر على ذهنه إيديولوجيا التوسع والمد الحيوي وهذا ما يذكرنا بالنازية.