كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

عندما «هرب» زين العابدين بن علي من تونس، في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، صدرت صحف النظام السوري الرسمية الثلاث وكأنّ الخبر المدويّ لم يصل إليها، بل كأنّما «ما في شي» شهده أو يشهده ذلك البلد؛ على غرار ما سيقول حسن نصر الله، بعد سنوات قليلة، عن الانتفاضة الشعبية في مدينة حمص السورية. ولم يكن صمت النظام عن مجريات تونس غريباً، بالطبع، لأنّ بن علي كان أحد أخلص أصدقاء «الحركة التصحيحية» سواء في زمن حافظ الأسد أم وريثه بشار.
ولأنّ الكثير من المراقبين، على صعيد الأوساط الصحفية في الغرب تحديداً، كان مهتماً بما ينتظر سوريا ضمن موجة الانتفاضات الشعبية؛ فقد أجرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية حواراً مطولاً مع الأسد؛ علّق خلاله على انتفاضتَيْ تونس ومصر، وأجاب على أسئلة الصحافيَيْن جاي سولومون وبيل سبيندل بطرائقه المراوغة. جوهر تشخيص الأسد انحصر في أنّ نظامه محصّن ضدّ «الميكروبات» بسبب سياسته الخارجية، «الممانِعة» و«المقاومة»؛ وأنه شخصياً يتبنى المبدأ التالي: «إذا اردتَ أن تكون شفافاً مع شعبك، لا تلجأ إلى أيّ إجراء تجميلي، سواء من أجل خداع شعبك أو لتحظى ببعض التصفيق من الغرب».
مبدأ «الشفافية» هذا سوف ينسفه الأسد بنفسه، سريعاً، حين نشرت «وول ستريت جورنال» النصّ الكامل للحوار يوم 30 كانون الثاني 2011، فجاء في قرابة 13,740 كلمة؛ بينما نشرت وكالة «سانا» الرسمية نسخة من الحوار ذاته، فلم يتجاوز 980 كلمة، وبصيغة فقرات منتقاة. وأمّا عدم اللجوء إلى «الإجراءات التجميلية» فقد لجأ إليه الأسد، سريعاً أيضاً، فأصدر المرسوم التشريعي رقم 9 القاضي بإحداث «الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية»؛ ورفع دعم التدفئة بنسبة 72 في المئة، دفعة واحدة؛ ولوّحت أجهزته بزيادة في الرواتب يمكن أن تبلغ 17٪…
والحال أنّ تلك الإجراءات لم تكن تجميلية فحسب، بل أتت أقرب إلى رشوة متأخرة، إذْ كيف حدث أنّ المواطن لم يكن بحاجة إلى صندوق المعونة الجديد طوال عقد ونيف من سلطة الأسد الابن؟ وكيف كانت حال المواطن، استطراداً، حين كان دعم التدفئة أقلّ بنسبة 72 في المئة؟ والأهمّ من هذا وذاك: أين تبخرت الوعود بأنّ زيادة الرواتب سوف تبلغ 100 في المئة، خلال الخطة الخمسية العاشرة التي انتهت سنة 2010؟ في المقابل، وعلى صعيد أهداف الحريات والحقوق والعيش الكريم التي انتفض من أجلها الشارع الشعبي العربي، لم تتأخر محكمة أمن الدولة، سيئة الصيت وحاوية أبشع مهازل الاستبداد في سوريا المعاصرة، عن إصدار حكم بالسجن خمس سنوات على المدوّنة السورية الشابة طلّ الملوحي؛ في خطوة باغتت بعض الذن علّقوا الآمال على اتعاظ الأسد الابن بما جري ويجري في بلدان عربية شتى، والعجيب أنّ صفوف هؤلاء المباغتَين ضمّت شخصيات سوف تتصدّر منصّات «المعارضة» السورية هنا وهناك.
وقبل اقتياد الملوحي إلى محكمة أمن الدولة، مكبّلة اليدين ومعصوبة العينين حسب رواية وكالة أنباء رويترز، كانت الصبية قد خضعت لأشكال شتى من المهانة والإذلال وبثّ الإشاعات (الحقيرة، المنحطة، التي ابتدعها وأدار طرائق نشرها الفرع 285 التابع لإدارة المخابرات العامة، والتي لم تكن حكاية التجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية أشدّها وطأة، بل كانت الأقلّ جرحاً… على بشاعتها!). كما تعرّضت أسرتها إلى شتى الضغوط، وأقصى التهديد، حتى بلغ الأمر بوالد الصبية أن أدلى بتصريح صحافي قال فيه إنّ ابنته ليست موقوفة بسبب ما كتبته في مدوّنتها، بل لأنها تخابرت مع جهة أجنبية! والأصل في حكاية الملوحي أنّ رأس النظام (الذي قُدّم في صورة «فتى الإنترنت المدلل» خلال أشهر تدريبه لوراثة أبيه) لم يطق أنّ حفنة مواقع اجتماعية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والعربية، تبنّت قضية الملوحي.

إذْ هرب بن علي، مفترضاً أو عارفاً ربما بأنّ بن عمار لن يرتكب المجازر ضدّ المواطنين العزّل؛ فإنّ الأسد توحّش، مفترضاً ومتأكداً، أنه ما من بن عمار في صفوف جيشه وجيش أبيه، بل ثمة العشرات من نماذج ماهر الأسد وآصف شوكت وجميل حسن.

غير أنّ انطلاقة الانتفاضة الشعبية في سوريا ذاتها، أواسط آذار (مارس) توجّب أن تطلق السؤال الكبير الناحم عن أولى دروس تونس: أيّ فارق بين سلوك العسكر، على صعيد البنية والعقيدة والتربية السياسية، في نظامَيْ استبداد وفساد ومزارع عائلية عربيَيْن: تونس، خلال أسابيع انتفاضة 2011 حتى هروب بن علي؛ وسوريا، خلال الأيام القليلة الأولى التي أعقبت التظاهرات الشعبية، خاصة في محافطة درعا؟ وذاك سؤال لا يصحّ، من حيث المبدأ، طرحه بمعزل عن حقيقة أنّ التاريخ العربي عموماً، والسوري الحديث خصوصاً، اختزن سلسلة دروس حول سلوك العسكر والعسكرتاريا في ظلّ الأنظمة الاستبدادية والشمولية؛ بحيث صار من الواجب البسيط، والضروري، توخي الحذر الأقصى عند الحديث عن أيّ دور وطني أو ديمقراطي للجيوش، وترجيح السيناريوهات الانقلابية والمضادة الأسوأ.
السنوات التي أعقبت هروب بن علي كشفت، تباعاً وربما ليس تماماً حتى الساعة، سلوك الجنرال رشيد بن عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس؛ وما إذا كان قد رفض، بالفعل، تنفيذ تعليمات بن علي وإصدار الأوامر للجيش بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فأقاله الدكتاتور وسمّى الجنرال أحمد شبير، مدير مدير الإدارة العامة للأمن العسكري، بديلاً عنه. لكنّ التاريخ أثبت أننا، في المثال السوري، لا نقع في حيرة ترجيح المسؤولية عن تنفيذ العديد من المجازر الجماعية، ضدّ أطفال ونساء وشيوخ عزّل أبرياء، في عشرات المدن والبلدات والقرى السورية؛ خلال سنوات الانتفاضة، وقبلها، وطوال عقود حكم آل الأسد منذ 1970.
كذلك حفظ التاريخ أنّ أياً من كبار ضبّاط النظام السوري (رفعت الأسد، قائد «سرايا الدفاع»؛ علي حيدر، قائد «الوحدات الخاصة» وهاشم معلا أحد كبار معاونيه؛ شفيق فياض، قائد الفرقة الثالثة؛ إبراهيم صافي، قائد الفرقة الأولى؛ بدر حسن، قائد الفرقة التاسعة؛ والصفوة العليا من ضبّاط أجهزة الاستخبارات المختلفة…) ممّن تلقوا أوامر باستخدام الأسلحة، الخفيف منها والثقيل؛ لم يهمس ببنت شفة احتجاجاً على استهداف المدنيين، ولم نسمع أنّ هذا عُزل أو ذاك نُقل، لأنه رفض تنفيذ الأوامر.
مجزرة حماة، شباط (فبراير) 1982 كانت أقصى القياس، إذْ قامت كتائب مختارة من «سرايا الدفاع» وأخرى من «الوحدات الخاصة» بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، فقصفتها بالمدفعية الثقيلة والدبابات قبل اجتياحها، وسقط عدد من الضحايا يتراوح بين 30 و40 ألفاً، غالبيتهم القصوى من المدنيين العزّل، فضلاً عن 51 ألف مفقود، وتهجير نحو 100 ألف مواطن. كانت حماة، في الجانب الآخر من معادلة الصراع، بمثابة «درس تربوي» شاء النظام تلقينه للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، فضلاً عن الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وبالطبع، لم تكن تلك هي المجزرة الوحيدة لأنّ النظام استقرّ، جوهرياً، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، فتكاثرت الأمثلة: من حصار حلب ومجزرة المشارقة، إلى جسر الشغور وسرمدا ودير الزور واللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة ضدّ السجناء.
وإذْ هرب بن علي، مفترضاً أو عارفاً ربما بأنّ بن عمار لن يرتكب المجازر ضدّ المواطنين العزّل؛ فإنّ الأسد توحّش، مفترضاً ومتأكداً، أنه ما من بن عمار في صفوف جيشه وجيش أبيه، بل ثمة العشرات من نماذج ماهر الأسد وآصف شوكت وجميل حسن وعلي مملوك وعاطف نجيب وعصام زهر الدين وسهيل الحسن… وكلّ هذا بمعزل عن إسناد قاسم سليماني وضباط «حزب الله» وأركان مطار حميميم؛ وحيثما يعرض النظام أقدار سوريا للبيع بأثمان بخسة، لقاء الحفاظ على محض بقاء هزيل، ناقص ومنتقص.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس