لا تحجب التفاصيل التي تجري على الأرض في سورية، ميدانيةً كانت أو اقتصادية ومعيشية، على أهميتها، الرؤية عن المشهد العام الذي تتكشف ملامحه باضطراد، نتيجة التقاء واختلاف مصالح الفاعلين الرئيسيين في الصراع: روسيا، الولايات المتحدة، تركيا، إيران، وإسرائيل.

لكن قبل أن نبدأ بتناول حسابات هذه الأطراف ورهاناتها، من المهم الإشارة إلى أن القوة العسكرية في الميدان قد بلغت أقصى ما تستطيع تحقيقه لجميع الأطراف، بمعنى أن حدود الصراع ارتسمت على الأرض، بفعل موازين القوى القائمة، وأصبح متعذّرا تغييرها باستخدام القوة، هذا يقود إلى أن هناك فرصة مهمة لحصول تطوراتٍ على صعيد الحل السياسي، ولكن هذا سيؤدّي، على الأرجح أيضا، إلى إعادة ترتيب العلاقة بين القوى الرئيسة الفاعلة في المشهد السوري، بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة الجديدة.

هناك أولا الثنائي الروسي – التركي، وقد بات، على ما يظهر، متمسّكا أكثر بإنفاذ تفاهمات مسار أستانا، نظرا لكونه يكرّس الطرفين باعتبارهما الفاعلين الرئيسين في المشهد السوري، بدلا من مسار جنيف الذي يراهما مجرّد طرفين من بين أطراف عديدة على الطاولة. بدا هذا التوجه واضحا في مواجهات إدلب أخيرا، والتي شهدت أول صدام عسكري مباشر بين تركيا وإيران على الأرض السورية، اكتفت خلالها روسيا بموقف المتفرّج، وكأنما أرادت أن تعطي تركيا الفرصة للرد على قتل إيران جنودها الـ33 في بلدة بليون في ريف إدلب، نهاية فبراير/ شباط الماضي، ليكون ذلك ثمنا لإنقاذ تفاهمات أستانا. وبالفعل، تم إنقاذ هذه التفاهمات في الاتفاق الذي تم التوصل إليه في موسكو في 5 مارس/ آذار 2020، بين الرئيسين الروسي بوتين والتركي أردوغان، ورسم ما يشبه خطوطا نهائية للصراع العسكري على الأرض، قبل الانتقال إلى طاولة المفاوضات. التحدّيات التي يفرضها تفشّي وباء كورونا، وانهيار أسعار النفط، يدفعان الطرف الروسي خصوصا إلى المضي في هذا الاتجاه.

وبمقدار ما تتقدم التفاهمات الروسية – التركية وتتبلور، يبرز التعارض أكثر في ما بينها وبين المصالح الإيرانية التي باتت تشكل عقبةً يعملان على تجاوزها. هنا يدخل على الخط الثنائي الآخر في المعادلة السورية، أي أميركا وإسرائيل. وبغض النظر عن أسباب زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى إسرائيل، الأسبوع الماضي، إلا أنه بات واضحا وجود قرار مشترك أميركي – إسرائيلي بتكثيف الضغوط على إيران في سورية، بالاستفادة من تباعد المواقف بين إيران وشركائها الآخرين في مسار أستانا. ويبدو أن قرار روسيا رفع الغطاء عن الوجود العسكري الإيراني في سورية هو ما دفع وزير الحرب الإسرائيلي، نفتالي بينيت، إلى الإعلان عن تغيير كبير في الاستراتيجية الإسرائيلية التي باتت تستهدف إخراج إيران من سورية بعد أن كانت تهدف، منذ عام 2013، إلى إضعافها وإبعادها عن الحدود. وقد جرت ترجمة هذا التغيير في الزيادة الكبيرة في عدد الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سورية منذ 25 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). وقد باتت أيضا قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة تستهدف، بوتيرة أكبر، مواقع المليشيات الإيرانية في مناطق الشرق السوري.

التغير في الموقف الروسي من وجود إيران العسكري في سورية لا تخطئه العين، فبعد أن كانت موسكو تندّد، في كل مرة، تعتدي فيها إسرائيل على “السيادة السورية”، لمهاجمة مواقع إيرانية، يكاد الصمت الروسي حيال الهجمات الأخيرة يصم الآذان. ويعكس هذا الموقف فحوى التغير في النظرة الروسية للدور الإيراني في سورية، مع انتفاء الحاجة إليه بعد بلوغ العمليات العسكرية نهاياتها، وهو يحاكي الموقف الأميركي من قوات سورية الديموقراطية (قسد)، بعد استنفاد الغرض منها في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

في هذا كله، يجب أن لا يفوتنا الانتباه إلى أهمية التوقيت، ذلك أن روسيا وتركيا وإسرائيل باتت جميعا تتوجس، كل منها لأسبابها، من احتمال خسارة ترامب انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني الرئاسية في الولايات المتحدة، بسبب إدارته السيئة ملف كورونا، ومن ثم ضياع فرصة إخراج إيران من سورية مع العودة المحتملة للديمقراطيين وسياسات حقبة أوباما التي يكرهها الروس والأتراك والإسرائيليون. هذا يعني أننا أمام توافق، وإن كان عابرا، على إخراج إيران من سورية، أو أقله إضعاف تأثيرها هناك، يمهد الطريق لنشوء علاقة “تخادم” لتحقيق هذا الهدف، وتغيير كبير في قواعد اللعبة، لن تملك إيران على الأرجح القدرة لمواجهته.