كانت للثورة السورية ظروفها الموضوعية العميقة التي دفعت إليها في لحظة تاريخية محدّدة، وجاءت في إطار ثورات الموجة الأولى من الربيع العربي من أجل الكرامة والحرية والتغيير. فهي لم تكن لحظة عابرة حدثت بالصدفة، فقد تراكمت أسبابها لعقود، منذ أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. حيث بدأت سورية تخطو خطواتٍ كبيرة على طريق الدولة التسلطية، حينما راح الحكم الشمولي يلقي بثقله على المجتمع، وأخذت السلطة الحاكمة تحتكر بالقوة المجال السياسي، وقطاع الدولة ومؤسساتها، وفضاء المجتمع ومنظماته المدنية والأهلية. فالقوى العسكرية الصاعدة في تلك الفترة لم تؤسس لسلطة تشريعية مستقلّة ومنتخبة انتخاباً حرّاً ونزيهاً من الشعب، وحلّت الأحزاب وألغت الحياة السياسية، وردعت نشوء أي معارضة في البلاد، وسيطرت على مؤسسات المجتمع المدني، مما أدَّى في النهاية إلى فقدانِ الرقابة تماماً على مؤسسات الدولة وممارسات السلطة سواءً في القطاع الاقتصادي أو قطاعات المجتمع الأخرى، وإلى عدمِ القدرة على كبح آفة الفساد التي راحت تقتحم كامل أجهزة الدولة والمجتمع. وإذا كان مفهوم الدولة الحديثة قد شهِدَ بعض التبلور والنمو والتقدّم إبان حكم المستعمر، وفيما بعد إبان حكم البرجوازية الوطنية، ففي عهد “الانقلابيين التقدميين الجدد” منذ عام 1963، تغوَّل مفهوم السلطة وتقلّص مفهوم الدولة إلى حدّ كبير ليتماهى ويذوب في السلطة الحاكمة، لدرجة صار يصعب التمييز بين المفهومين. وكانت النتيجة تكريس سلطة متضخمة ديكتاتورية قمعية ودولة واهية. وصارت السياسة حكراً على أهل الحكم والأقرباء والموالين، وحُرِمَتْ أكثرية الشعب من ممارسة حقّها في العمل السياسي وفي تمثيلها الحقيقي في البرلمان والحكومة، وألغيت الصحافة الحرّة لتقتصر على الصحافة الحكومية. وقيِّدَ النشر بشكل عام بقوانينَ جائرة للمطبوعات، وصودِرَتْ المؤسسات الأهلية والمدنية التي كانت قائمة. وهكذا خسرت الدولة جناحها الثاني الذي يشكّل عامل التوازن مع السلطة بفقدانها للمجتمع السياسي والمجتمع المدني.
وما إن استحوذَت السلطة بحزبها الواحد على السياسة والمجتمع، حتى اندارت لتستحوذَ باسم “العدالة الاجتماعية” و”الاشتراكية” على الاقتصاد بكامل فروعه، وتقْطِعَ إدارته للموالين ولحاشيتها والمقربين منها. وبعد انقلاب 16 تشرين 1970 تفاقم الوضع وساء عشرات الأضعاف، وراحت السلطة تتحكّم في توزيعِ الثروة وتتلاعب بمحتوى جيوب الناس بشكل يتناسب مع درجة ولائِهم. وما حدث في سورية في هذه الحقبة كان نمطاً من الإقطاع السياسي، الذي هيّأ بدوره لقيام نمطٍ جديد من الإقطاع الاقتصادي. وهذا الأخير لا يتعلّق بامتلاك الأراضي كما كان الحال في العهد الإقطاعي القديم، إنما يتعلّق بإقطاع مؤسسات الدولة والقطاع العام والمؤسسات المدنية والاتحادات والنقابات والجمعيات التي استولت عليها السلطة.
إن السلطة التي تحتكر المجال السياسي لا تنتج إلا اقتصاداً تابعاً يخدم مصالحها، وبالتالي يبقى عاجزاً عن تحسين السياسة وتنميتها. لأن الطرف الفاعل والمؤثّر الوحيد في الاقتصاد والسياسة هو السلطة الشمولية المهيمنة على السلطتين التشريعية والقضائية. وبالفعل لم يستطع الاقتصاد السوري أن يؤثّر إيجابياً في تقدّم المجال السياسي خطوة واحدة إلى الأمام، لا بل قزّم حزب البعث الحاكم نفسه

وملحقاته، كالجبهة الوطنية، وقلّص دورهما في القرار السياسي. فطوال هذه الحقبة كانت العلاقة بين السياسة والاقتصاد محكومة بجدل الضعف. لذلك ليس غريباً أن تفشل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي التي حاولتها السلطة واصطدمت بالطريق المسدود، لأنها في محاولاتها هذه كانت تسعى لإرضاء طغمتها وزبانيتها أولاً، وإلى إعطاء انطباع زائف ومضلّل بوجود اصلاح، وذلك لتخدير الناس والتغطية على فساد السلطة والمسؤولين ثانياً، وإلى إصلاح المستوى الاقتصادي في المجتمع بدون إجراء أي تغيير على المستوى السياسي ثالثاً. لذلك من الطبيعي أن تتّسم البنية الاجتماعية السورية الفقيرة سياسياً والعاجزة اقتصادياً بركودها واستنقاعها وتقادم تخلّفها وتكرار أزماتها، وهذه السمات جعلتها أقرب إلى البنية الإقطاعية السلطانية القديمة. ومن الطبيعي في مثل هذه البنية التسلطية الشمولية أن يتفاقَمَ اندحارُ الطبقة الوسطى، ويصبح المجتمع أكثرية من الفقراء والمسحوقين، وأقلية من الأغنياء ذوي الثروات الضخمة. وأمست كل شعارات “الاشتراكية” و”العدالة الاجتماعية” و “التقدّم الاجتماعي” في طيّ النسيان.
وما تفاقم بشكل غير معهود في سورية هو الطائفية السياسية، وخاصة بعد ” الحركة التصحيحية “، حيث أخذت تتصاعد باستمرار لتشمل كل القطاعات في الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد والمؤسسات الحكومية والنقابات والجامعات وغيرها. وفي الواقع ضمن هذه البنية الشمولية والطائفية والإقطاعية المتجدّدة، لم يفقد المواطنون السوريون حرياتهم وحقوقهم السياسية والمدنية فحسب؛ إنما فقدوا شعورهم بمواطنتهم وكياناتهم كأفراد؛ وصار يتملّكهم شعور دائم بالعبودية للسلطة، ليس فقط في لقمةِ عيشهم، وإنما في معظم شؤون حياتهم ومستقبلهم، وحتى في اختيارِ أعمالهم ومهنهم ودراساتهم، وتنميط شخصياتهم ونفسياتهم وأخلاقياتهم. ولقد صار المواطنون السوريون في تعاملهم اليومي، يواجهون أعراض أمراض اجتماعية مثل جنونِ العظمة والدونية، والأمراض النفسية والاجتماعية الأخرى التي تنتشر في مجتمع الناس المقهورين، مع استشراء النفاق والكذب والاحتيال والوشاية والنصب.
وفي ظلّ هذه البنية الشمولية الإقطاعية المتجدّدة أخذ الانتماءُ الوطني ينحدرُ إلى الانتماء الطائفي والمذهبي والعشائري والأسري، وراح الفسادُ يترعرعُ، وتُشرعَن الرشوة ويؤدلَجُ لهما لإسباغ سمات الذكاء والشطارة والنجاح عليهما. وبيئة كهذه خير بيئة للنكوص الفكري الديني وإنتاج التطرّف الذي لجأ إلى العنف والإرهاب كوسيلةٍ للتغيير. وهو ما ساعد بدوره على انحسار نفوذ القوى الوطنية الديموقراطية، ووفّر للسلطة ذريعة اندفاعها أكثر على طريق العسف والقمع والتنكيل بالشعب كله. وكانت النتيجة تفاقم ضعف الدولة لمصلحة السلطة وأجهزتها القمعية، وتراجع اقتصادها ومعرفتها وتقنيّتها وثقافتها وقوة المعارضة فيها وقدرتها على مواجهة التحدّيات والأخطار الخارجية. كان النظام السوري وما يزال يعتبر ضعف المعارضة مؤشّراً إلى قوة الدولة ودلالة على استقرارها، في الوقت الذي نرى أن المعارضات القوية لا توجد إلا في الدول القوية والأكثر استقراراً. فدول اللاسياسة واللا معارضة واللا مجتمع مدني، هي دول فاشلة بائسة لا مستقبل لها في هذا العصر.
ولقد تبيّن بالتجربة التاريخية أن مفهوم الحزب القائد للدولة والمجتمع، قد لعب دوراً مركزياً في تكريس المجتمع الشمولي البيروقراطي. فهذا المفهوم العصبوي يقوم في الأساس على النفي المستمرّ للرأي لآخر، وعدم الثقة بالشعب والخوف الدائم من إسهامه في القرار

السياسي، ويتّسم دائماً بخوف الشعب من السلطة، وخوف السلطة من الشعب. فالخوف المتبادل بين الطرفين هو من أهم سمات المجتمع الشمولي.
تحوّلت السلطة في سورية إلى غولٍ سياسي وغولٍ اقتصادي، وهذا الحال ينتج الاستبداد والاستعباد والنهب، فالقسم الأعظم من الناتج الاقتصادي في المجتمع لا يذهب إلى تراكم ونمو في الإنتاج، بل يذهب لخدمة السلطة وأمنها ورفاهيتها وتعظيم ثرواتها في البنوك الأجنبية.
إن الخطاب السلطوي المتخلّف والاستعبادي يتجسّد يومياً في مفاهيم “الأب القائد، والمكرمات والعطاءات”، و”الرَحمة” و”التوبة” وغيرها من المفاهيم البالية. وإلى جانب الحضور العميق للمجتمع السلطاني المتجدد في بلادنا من خلال “البصّاصين العصريين” الذين لا تخلو منهم دائرة أو حي أو قرية أو مدرسة. ويبقى الأهم في هذا الحضور الإقطاعيون الجدد الذين ملأت شهرتهم الأسماع في الخارج والداخل، حيث يبدّدون مع ذرياتهم ثروات البلاد المنهوبة. لذلك لم يكن الأمر غريباً أن يبقى مفهوم الشأن العام أو مفهوم الجمهورية رمادياً وواهياً في سورية، فتحوّل الدولة إلى مزرعة قد مهّد الطريق إلى التوريث السياسي والتفكير الفئوي والسلوك الميليشياوي. ضمن هذه الشروط والظروف التي تعيشها سورية منذ عقود انتفض الشعب وثار مستفيداً من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وملتقطاً شرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس، ثم امتدت إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين، وكان من الطبيعي ألا تستثني سورية. إن الربيع العربي حقيقة كبرى في المنطقة، لا يقتصر على موجة واحدة، وها نحن نعيش الآن زمن موجته الثانية في كل من السودان والجزائر ولبنان والعراق.

“من الوثيقة البرنامجية التي اقرت في المجلس الوطني للحزب 2020”