مناف الحمد*

ليست القضية المطروحة قضية أخلاقية محضة لكي تناقش بأدوات معرفية مستمدة من معايير محض أخلاقية. لا يعني هذا أننا ينبغي أن نفصل بين الأخلاق والسياسة، فهذا ما يجب أن نتجنبه بل ونحاربه ولكنه يعني أن للتحليل السياسي منهجًا آخر في مقاربة الأحداث لا ينطلق من محاكاة بين ما هو مطلوب من الأفراد تمثله في سلوكهم الأخلاقي وبين ما يجب أن تلتزم به الكيانات السياسية في أدائها السياسي. سبق ان قلت إن انتفاضة الفسطينيين هذه المرة كانت حدثًا عظيمًا كفيلًا بخلط أوراق الصهاينة وداعميهم؛ لأنها انتفاضة وحّدتهم على كامل الأرض وكان زخمها كفيلًا بتحريض تعاطف عربي وإسلامي كبير. وهو حدث أرجو من الله أن يكون فصلًا جديدًا في الصراع الفلسطيني الصهيوني كفيلًا بكشف الأوهام التي كرستها سنوات الاستخذاء والتعويل على الشعارات والمراهنة على كسر إرادة الفلسطينيين مع تطاول الزمن. ولكن المقاومة المسلحة هرعت مباشرة إلى تقديم المكسب إلى كيان لا يخفي طموحه الامبراطوري، وهو طموح مستمد من تاريخ سابق على الإسلام، وهو يسعى إلى تجسيد مشروعه الامبراطوري بكل الطرق وبشتى الوسائل من دون اكتراث بأشلاء الضحايا التي يدوس عليها وهو بصدد تحقيق طموحه. ولم تكتف المقاومة الإسلامية بذلك بل قدمت شكرها للطاغية الذي قتل شعبه بالكيماوي ومن ضمن هذا الشعب فلسطينيون سوريون قتلهم النظام السوري جوعًا في حصار مخيماتهم. هنا تبدأ المحاكمة الأخلاقية لحماس مشروعة من زوايا عدة: إن ما جرى في المشهد الأخير في فلسطين حدث كبير لا يجوز اختزاله في الصواريخ التي أطلقتها حماس، ولا يمكن تقزيمه بنصر عسكري تدعيه حماس لنفسها. إن تجيير النصر لفصيل مسلح سلوك لا أخلاقي، ولكن ما هو أكثر لا أخلاقية هو التغافل عن ضرورة محاولة مطابقة الأخلاقي مع المصلحي؛ بمعنى أن من حق أي شعب محتل أن يحاول تحصيل الدعم من جواره أو من غير جواره ولكن المأخذ هو استثمار ما جرى تحصيله من مكتسبات في خدمة داعم مجرم بالمعنى القانوني لا الأخلاقي، ومن دون الأخذ بالاعتبار أن العلاقة معه في ظل ما يجري ليست علاقة ندية وهي يمكن أن تكون ندية فقط إذا لم تكن علاقة يمثل هذا المجرم طرفها وحماس كتابع له طرفها الثاني. إن اختلاف الحقل الدلالي الأخلاقي للأفراد عن الحقل الدلالي الأخلاقي للكيانات السياسية لا ينبغي ان يعزب عن أذهاننا فالأفراد بلا شك مطالبون بالنزاهة الأخلاقية، ولكن ما هو مطلوب من الكيانات السياسية أكبر بكثير من مجرد النزاهة الأخلاقية. بكلمات أخرى من الطبيعي وإن كان غير مبرر أن يغلّب الفرد مصلحته على المعايير الأخلاقية، فهذه طبيعة الإنسان العادي عبر تاريخ البشر ولكن الكيان السياسي كشخصية اعتبارية يتحرك في إطار أخلاقي تحكمه بالدرجة الأولى المصلحة العامة وإذا كان مألوفًا أن يغلّب الفرد مصلحته الشخصية على المعايير الأخلاقية بسبب ضعف النفس البشرية، فمن غير الطبيعي ولا المبرر بأي شكل أن يغلب الفصيل السياسي مصلحته الفصائلية على المطلوب منه أخلاقيًا وهو نكران مصلحته كشخصية اعتبارية أمام المصلحة العامة بعد أن اضطلع بمسؤولية الدفاع عن هذه المصلحة العامة وحاز علة وجوده وشرعيته منها. والمصلحة العامة في مشهد الصراع العربي الصهيوني ليست مصلحة حماس طبعًا ولا مصلحة الفلسطييين وحدهم، ولهذا فإن المسارعة إلى تقديم آيات الشكر والعرفان لنظام الملالي وتابعه في دمشق يضر بالمصلحة العامة التي هي مصلحة عربية إسلامية؛ لأنه على الأقل يؤذي مشاعر الملايين التي فتك ويفتك بها هذا النظامان على طول وعرض الساحة العربية وبفجور لا سابق له. وهو يضر بالمصلحة العامة التي يجب أن تكون الناظم لحركة الكيان السياسي؛ لأنها تجعل المشهد يبدو غائمًا من جديد بعد أن اتضح للجموع العربية المسلمة، ومعنى جعله غائمًا أنه يعيد تسويق شعارات صعد عليها نظام دمشق ولا زال يستغلها نظام الملالي لتحقيق أهداف مفارقة بكل تاكيد لغايات القضية الفسطينية التي أعيا أهلها المتاجرة بهم باستخدام الشعارات عبر عقود. ولا يظن أحد أن تشويش الصورة أمر ضعيف الأثر فهو من الخطورة بمكان لأنه يعيد خلط الأوراق باستغلاله للتعاطف الشعبي من أجل حرف الشعور الجمعي للجموع المتعاطفة باتجاه ضيق تضيع فيه البوصلة من جديد.

*رئيس التحرير