رسالة سياسية

صادرة عن اجتماع اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري

أولاً: الأوضاع الدولية وانعكاساتها على القضية السورية

1-الحرب الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، يعيش العالم استقطاباً حاداً فرضته ظروف الحرب وتداعياتها، وهي حرب مستمرة بالوكالة بين روسيا والغرب. ومن الواضح أن أولويات الإدارة الأمريكية ما تزال منصبة على إدارة هذه الحرب، وكبح التطلعات القومية الروسية لاستعادة زمن الثنائية القطبية في العالم، وهزيمة نظام بوتين كمقدمة لاحتواء الصين، بينما تعتبر روسيا الولايات المتحدة مصدر تهديد وجودي لها، وتسعى لان تصبح قطباً منافساً في النظام الدولي، دون أن تمتلك المقومات والأهلية لذلك. وعليه، فإنَّ لهذه الحرب انعكاساتها على الواقع الدولي والإقليمي. فالصين الصاعدة اقتصادياً ودبلوماسياً وعسكرياً، ترى أن الاستنزاف الغربي في أوكرانيا واضعاف روسيا سيكون لصالحها، ويفسح لها الطريق لتكون قطباً منافساً في النظام الدولي، وساعدت هذه الحرب تركيا في تحسين موقعها الجيوسياسي عند الطرفين، ووثقت إيران علاقاتها بروسيا، وفتحت مسارات جديدة مع دول الخليج. وأظهرت هذه الدول سياسة مرنة وقدراً من الاستقلالية في التعاطي مع الأحداث، وفضلت البقاء على الحياد.

لقد كشفت الحرب بما يشبه الفضيحة ركاكة البنية العسكرية الروسية، وأظهرت التطورات الأخيرة المأزق الكبير الذي وقعت به نتيجة عدوانها على أوكرانيا، وتمرد مليشيا “فاغنر” على سلطة بوتين، ما كشف ضعفها وهشاشتها والصراع داخلها، وهدد باحتمال حرب أهلية في روسيا، ورغم الوصول إلى حل توفيقي للأمر بوساطة بيلوروسية، لكن عواملها ومخاطرها لم تنتف، فقد تتجدد وتصبح حتمية في حال هزيمتها في الحرب الأوكرانية.

يمر النظام الدولي بمرحلة مخاض مفصلي، نتيجة الحرب الأوكرانية، كما يواجه الكثير من الملفات الدولية الكبرى حالة من الصراع والاشتباك والانسداد السياسي، بعد العجز عن التوصل لتسوية هذه الملفات، يصاحب ذلك تصعيد سياسي وتحشيد عسكري من أطراف النزاع واستقطاب دولي حاد، ومن أهم هذه الملفات: (ملف تايوان)، وكذلك تراجع النظام الاقتصادي العالمي، وصعود الصين ومجموعة “البريكس” ومنظمة “شنغهاي” كما تعالت صيحات المطالبين بإصلاح مؤسسات النظام الدولي الذي صار عاجزاً عن أداء دوره وتوفير الأمن والاستقرار، ولم يعد يعكس موازين القوى العالمية، ويقف عائقاً بمواجهة تطلعات القوى الصاعدة، كما تظهر حالة من التشتت والضعف في السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية القوة العالمية الأولى في العالم. (النتائج الكارثية لغزو العراق وعقابيلها المستمرة – شكل الانسحاب المخزي من أفغانستان – عدم الاستجابة بالسرعة والكيفية اللازمتين لمساندة دول الخليج بوجه خطر الحوثيين وصواريخهم) وهو ما يحمل احتمالات التغير في ملامح النظام الدولي. فمن رحم هذا المخاض والوقائع وانعكاساتها يمكن أن يولد نظام عالمي جديد، يحمل تحولات في الشكل الحالي من الأحادية القطبية.

2-انعكاس الوضع الدولي على القضية السورية: أمام هذه الأحداث العالمية الكبرى والمستأثرة باهتمام العالم وخاصة الدول الفاعلة، فأن اهتمام الإدارة الأميركية بالشرق الأوسط يرتكز على محاولة إنجاح صفقة مع إيران تعيق تقدم برنامجها النووي، والعمل على استكمال مسلسل التطبيع العربي مع إسرائيل لضمان تشكل شرق أوسط جديد يحقق مصالحها ومصالح إسرائيل، وتركت معالجة القضايا الأخرى ووضعها على رف الملفات المؤجلة، ومن أهمها قضيتنا السورية. حيث لا تزال سياسة الإدارات الأميركية تدلل إلى ترك الأوضاع في سورية لمزيد من الإهمال والاستنقاع واستنزاف القوى المتصارعة فيها، وإبعادها عن الحل السياسي ومنع الآخرين من تمرير حلولهم، وبالتالي لا نجد لديها حتى الآن أي خطة أو رؤية تجاه هذه القضية، سوى الدعم الإنساني والبيانات والنوايا الحسنة، وكلام عام حول الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. دون فعل سياسي أو دبلوماسي لتنفيذ هذا القرار، بل عملت على تجميد قانون قيصر، ومن جهة أخرى أصدرت قانون “كبتاغون الأسد”، وتشكيل تحالف دولي لمواجهة خطر المخدرات. كما يناقش الكونغرس قانون جديد يمنع التطبيع مع نظام الأسد. هذا التردد والتقلب الأميركي الطويل ومراكمة الملفات على نظام الأسد دون فعل يذكر، قد ألحق ضرراً كبيراً بالسوريين وقضيتهم وبالمنطقة وحتى بأميركا ومصداقيتها. وهي تترك العنان للتفاعلات الإقليمية والسورية، لعل حراك الوقائع يفرز جديداً يمكن البناء عليه. وهي تدرك، أن الأحداث المتسارعة ستقحمها في الصراع، وهذا ما نشاهده الآن بالحراك الأميركي الكبير في سورية عبر تعزيز وجودها العسكري، وتدريب وتسليح نوعي لحلفائها، والعمل على أنشاء الحزام العربي من عشائر المنطقة الشرقية. وهناك احتمال الصدام بينها وبين القوات الإيرانية وميليشياتها في المنطقة الشرقية، وكذلك أدت التفاعلات الإقليمية إلى دخول الصين على خط هذا الصراع عبر رعاية الاتفاق السعوديَ الإيراني، والذي ظهر منه الانفتاح العربي على الاسد وهو ثمرة هذا الاتفاق وجزء منه التطبيع العربي وعودة سفاح سورية إلى الجامعة العربية برعاية سعودية وضوء أخضر أمريكي.

أما روسيا بوتين، فقد أصبح الوضع الداخلي من أولويات مشاغلها نظراً لحجم الانكشاف الأمني والعسكري الكبير الذي ظهر خلال غزوها لأوكرانيا وتمرد مجموعة فاغنر، ولذلك راحت تعتبر نظام الأسد أهم مرتكز لها في الشرق الأوسط وفي سياستها الخارجية والاستراتيجية، ووصول صراعها مع الغرب إلى نقطة التصادم، فهي تعمل في كل الاتجاهات من أجل الحفاظ على دورها ومصالحها في سورية، ولعل ضغوطه المتواصلة لإنجاح مصالحة الأسد مع تركيا، لا تخرج عن إطار التمسك بالمحافظة على نظام الأسد، والعمل مع شركائها لزيادة الضغط السياسي على الوجود الأمريكي المعيق لها في سوريا، من خلال مسار استانة الذي تشتد تناقضات أطرافه، أو من خلال لقاءات موسكو الرباعية التي ما زالت تعاني الكثير من التعثر والاستعصاء. بينما تعمل الولايات المتحدة لمنع إي انتصار لبوتين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وبالتالي منع الأسد من تحقيق ذلك.

ثانياً: الأوضاع العربية والإقليمية

1-الوضع العربي العام

لم يكن ينقص عدم الاستقرار المزمن في منطقة الشرق الأوسط الكبير التي يشكل معظمها العالم العربي، المنهكة بحروبها الأهلية وشبه الأهلية وأزماتها السياسية المستعصية والاقتصادية الخانقة وسيادتها الوطنية المتآكلة، اندلاع حربين طاحنتين: الحرب الروسية/الأوكرانية على حدودها الشمالية، التي لا يبدو في الأفق نهاية لها وقد تهدد بحرب نووية/عالمية لا تبقي ولا تذر؛ والحرب السودانية المدمرة التي اندلعت في الفترة الأخيرة على حدودها الجنوبية التي تنذر بحرب أهلية وفوضى عارمة وتمزيق السودان وتقسيمه إلى دويلات تحارب مثل شبيهاتها بالوكالة عن المصالح الأجنبية، ولا يستبعد أن يمتد حريقها إلى دول جوارها الإفريقي. يبدو أن الحرب العالمية القادمة من نمط جديد، يتألف من مجموعة حروب طويلة الأمد. الحالة الراهنة للعالم العربي تزداد تأزماً وتعقيداً واستنقاعاً.

لننظر إلى لبنان وفراغاته السياسية القاتلة، وانتهاك سيادته الوطنية، ومصادرة سياسته الخارجية وقرار تصويته في الجمعية العامة لهيئة الأمم. إذا استمر لبنان في انهياره المتسارع فمن يضمن عدم اقترابه من الحرب الاهلية وقد بدأ الكلام يتكاثف على الطلاق بين المكونات اللبنانية..

وكذلك العراق فهو يعاني من نقص السيادة على أرضه وعلى حصصه وحقوقه من مياه الأنهار التي تنبع من إيران وتركية. وامنياً يعاني ليس فقط من الميلشيات الموالية لإيران وإنما من اعتداءات وقصوف بالصواريخ والطائرات المسيرة من الأتراك على منطقة سنجار ومن الحرس الثوري الإيراني على إقليم كردستان.

وفي اليمن تحولت الحرب إلى حرب استنزاف، والحوثيون يصعدون رغم التقارب السعودي الإيراني. أما الوضع في ليبيا. فهو ما زال يراوح في مكانه رغم عشرات الاتفاقات التي عقدت في المغرب وتونس وغيرها، ورغم استهلاك الكثير من الوسطاء الأمميين.

أما بالنسبة إلى ثورات الربيع العربي، ما صار واضحا ومؤكدا أن قمعها وردعها لم يكن فقط هدف الأنظمة السلطوية والعسكرية القمعية وقوى الثورات المضادة، وإنما حظي أيضاً بمباركة المجتمع الدولي واللاعبين الدوليين الكبار من الشرق والغرب معاً، وعلى رأسهم الروس والأمريكيين الذين تقصدوا بسياساتهم إطالة أمد الصراعات واستنقاعها وإذلال شعوبها. فروسيا وحلفاؤها من الطبيعي أن يساندوا ويدعموا أنظمة قمعية دكتاتورية تشبه أنظمتهم، أما أميركا وحلفاؤها في الغرب فإنهم بالتجربة التاريخية تبين أنهم لا يريدون الديموقراطية إلا لبلدانهم.. واللاعبون الإقليميون في المنطقة لم يكونوا أفضل حالاً، فكلهم انحازوا في نهاية المطاف إلى مصالحهم وذريعة أمنهم القومي. كان ينظر للثورة التونسية أنها نجت من صيرورة الثورات في كل من مصر وسورية وليبيا واليمن ولكنها عادت لتنحسر وياتي الدكتاتور مجدداً على أنقاض أخطاء الإسلاميين الكبرى كما حدث في مصر وسورية. ويبدو أن الأمر يتكرر الآن بالنسبة للثورة السودانية لتغييبها عن الساحة بفضل الصراع على السلطة بين الجيش السوداني الذي ما زال فيه الكثير من فلول نظام البشير وبين ميليشيا الدعم السريع (الجنجويد سابقاً) التي شكلها البشير نفسه لقمع الثورة في دارفور.

2-حول التطبيع العربي مع نظام الأسد

ومن المستجدات الإقليمية التي احتلت مساحة إعلامية كبيرة في المنطقة والعالم، عودة نظام الأسد ليشغل مقعد سورية في الجامعة العربية. ولقد انطلقت ظاهرة التطبيع النشطة في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي مع انسداد آفاق ثورات الربيع العربي لأسباب ذاتية وداخلية وخارجية. بالنسبة إلى التطبيع العربي مع النظام الأسد فهو ليس جديداً وهو متواصل منذ أكثر من عقد وبقيت علاقات النظام قائمة بشكل موارب مع لبنان والأردن والعراق والإمارات ومصر وعمان والجزائر والسودان وفلسطين…

في الواقع تكمن دوافع عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية في التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية للسعودية ودول الخليج عموماً، حينما بدأت تقيم مسافة ما مع السياسة الأميركية المائعة مع حلفائها. بدأت تطهر هذه السياسة إلى العلن في مؤتمر الرياض الذي جمع بايدن مع دول الخليج وبعض الدول العربية، وحين راحت تنسج علاقات مع روسيا والصين. وحين امتنعت عن التصويت على مشروع قرار إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، وحين منحت السعودية لأوكرانيا لإقامة التوازن في سياستها (500 مليون دولار) كمساعدة إنسانية. ومن دوافع دول الخليج إلى التطبيع مع النظام السوري هواجسها من قيام حرب إيرانية/إسرائيلية تؤثر على أمنها واقتصادها واستقرارها ولا ننسى في هذا السياق حرب اليمن التي تحولت إلى حرب استنزاف. فضمن هذه الظروف انعقد اللقاء بين وزيري خارجية السعودية وإيران تحت المظلة الصينية

وعليه، لقد حكمت المصالح الخاصة لبعض الدول العربية، مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد، وعودته إلى الجامعة العربية، وخاصة بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، والذي يحمل في جوهره العمل على تبريد ساحات الصراع في المنطقة، ويصب في العمق لصالح المشروع الإيراني، لأن قضايا التصدي وأنهاء الوجود الإيراني في المنطقة العربية، وقضايا الحل النهائي لم تعد في رأس أولويات الهم السعودي والخليجي عموما، وهذا ربما يعود إلى رغبة السعودية في عدم إفساد مساعي مصالحتها مع إيران، وفي هذا السياق يبدو أن عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية كان من متممات هذا الاتفاق، حيث أخذت السعودية في اليمن وأعطت في سورية، وراعت هواجس الأردن من تواجد قوات حزب الله اللبناني والحرس الثوري والميليشيات الشيعية على حدوده الشمالية لقيت هواجس الأردن آذاناً صاغية لدى المملكة العربية السعودية لكون هذه المسألة الأمنية بالإضافة إلى قضية تهريب المخدرات والكبتاغون تشكلان هماً سعودياً أيضاً. لقد استخدم نظام الأسد المخدرات كسلاح استراتيجي لإغراق المنطقة وتخريب مجتمعاتها واقتصاداتها، وكذلك كمصدر لجلب مليارات الدولارات كرد على العقوبات التي تطال كل رموز العصابة الحاكمة.

لقد فتح هذا التطبيع الباب أمام بروز اتجاهات التفريط والخذلان والطعن بالثورة السورية، وراع نظام الاجرام والإبادة والتوحش الأسدي، وضرب العملية السياسية وفق صيغة جنيف والقرارات الأممية ذات العلاقة، والعمل من أجل تسوية كيفية ومصالحة سطحية انتهازية، تبقي القضايا عالقة والنار تحت الرماد. وتم تفعيل قضية اللاجئين في الدول المحيطة وتوظيفها، لتصبح قضية ضاغطة في نفس الاتجاه.

ولكن يا ترى عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية والتطبيع معه يلبيان مطامح دول الخليج والدول العربية عموماً من هذا القرار؟ وهل تصل مبادرة الخطوة مقابل خطوة إلى أهدافها ومقاصدها؟ كل الأمور تحيل حتى الآن إلى الشك الكبير. بسبب طبيعة النظام والواقع على الأرض أمنياً وجيو سياسيا واقتصاديا. ومن أهم معيقات التطبيع الخليجي والعربي عمومًاً مع نظام الأسد ذلك السد العالي الذي اقامه الغرب في وجهه في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي الذي عمد إلى تأجيل الاجتماع المشترك ببن المجلس الأوربي والجامعة العربية.

ثالثاً: الأوضاع السورية

1-الأزمة السورية في سياق المؤثرات الخارجية:

أ- ما يزال الصراع الدولي يلقي بتداعياته، على الأزمة السورية التي تحول دون إيجاد حل لها، وماتزال نتائجه ومنعكساته تصب في خانة التعطيل والتجميد والإلحاق، بما يطيل ويسهم بشكل مباشر في تعميق محنة السوريين ومفاقمة معاناتهم على كل صعيد، مع استمرار جرائم الأسد المتنقلة، لقد اتخذ هذا الصراع من الأرض السورية مسرحاً لتصفية الحسابات البينية، وفق أهداف ومخططات تتجاوز الحالة السورية وأزمتها، لتطال ملفات المنطقة والعالم، وبات حل القضية السورية مرهوناً بتوافقات ومقايضات حول مسائل دولية أخرى يجري الصراع حوالها. وعلي صعيد أخر، ثمة متحولات اقليمية عديدة، ترتبط على نحو مباشر بمجريات هذا الصراع الدائري واصطفافاته. وقد برزت بقوى في الأشهر الأخيرة حاملة معها الكثير من المخاطر والتأثيرات السلبية على القضية السورية برمَّتها، وقد كان المتحول العربي أكثرها وضوحاً من حيث مخاطره وتداعياته على ملف الأزمة، بعد صفقة التطبيع العربي مع نظام الأسد في مواجهة تطلعات السوريين وحقوقهم، وكذلك المتحول التركي الذي تتوالى فصوله، بضغوط ورعاية روسية، عبر مسار أستانا ولقاءات موسكو الرباعية الهادفة إلى تصفية القضية السورية.

ب- لقد حكمت المصالح الخاصة للدول، مسار التطبيع وسرعة إجراءاته ونجاحه، بعد أن بات المزاج السياسي اليوم في المنطقة تُحرِّكه المصالح دون غيرها، والتي اقتضت ضرورة سد منافذ الربيع العربي، وإبعاد شبح التغيير السياسي عن دول المنطقة وأنظمتها. ولئن كان من المبكر اليوم إطلاق حكم نهائي على مدى نجاعة أو عقم هذه المتحولات، رغم كثرة الشكوك في إمكانية نجاحها في تحقيق أهدافها، بالنظر إلى ارتجاليتها وسيولتها في رأب تصدعاتها وتناقضاتها، إلا أنها أفرزت وتفرز المزيد من المخاطر الراهنة والمحتملة، بعد أن وجَّهت خطوة التطبيع طعنة للشعب السوري بهذا الحجم من الخذلان والتخلي، وتنكرها لتضحيات السوريين وملايين مهجريهم وشهدائهم ومعتقليهم، عبر تقديم طوق النجاة لنظام القتل والإجرام والإبادة. لقد دشَّن هذا المسار مرحلة جديدة ستفتح الباب واسعاً أمام بروز اتجاهات التفريط والطعن بالثورة السورية.

ج- وإذا كانت المقدمات تشير إلى النتائج، فمن البديهي الاستنتاج أن الهدف المرتجى من كل ذلك هو ضرب العملية السياسية وفق صيغة جنيف، والإطاحة بكل مندرجات القرارات الأممية ذات الصلة، للعمل لصالح تسوية كيفية ومصالحة سطحية انتهازية، تخيط الجراح بقيحها، وتبقي قضايا الملف السوري عالقة لمصيرها، تاركة نارها تحت الرماد، فها نحن نشهد ظاهرة تفعيل قضية اللاجئين في دول الجوار، من أجل توظيفها كقوة ضاغطة في هذا الاتجاه، لاسيما أن الفاعلين في مسار التطبيع ويتخذون من رخاوة الموقف الدولي غطاءاً لتحركاتهم، ومع أن هذا التراخي والانكفاء في مواقف الاوساط الدولية ليس سوى فرصة لبناء واقع جديد حتى تتمكن هذه الأوساط من تبرير انتقالها إلى موقف مغاير يبنى على سياسة الأمر الواقع.

2: سوريا التي تنهار في ظل نظام الأسد:

أ- نشرت صحيفة تشرين في 19/ 12/ 2022، إحصائية لعدد العاملين المتسربين من القطاعين العام والخاص منذ ٢٠١١حتى تاريخه. فقد استقال أكثر من ٣٠ ألف من أصل ٨٧ ألف من مختلف مؤسسات القطاع العام بما يعادل ثلث عدد العاملين، أما في القطاع الخاص فقد بلغ ٩٠٠ ألف عامل، وذلك على خلفية تدني الأجور والرواتب وتزايد مصاعب الحياة المعيشية. ومؤخراً بلغ عدد المتسربين في قطاع التعليم والتربية، وكذلك طلبات الاستقالة حداً دفع الحكومة لوضع قيود تمنع الاستقالة وتهدد بفصل المتغيبين عن المراقبة والتصحيح في الامتحانات. ويذكر أن كلفة دوام المدرس كأجور نقل إلى عمله، تبلغ في بعض الحالات ضعف أجره اليومي، والسؤال هل لهذا الأسباب يباشر النظام إغلاق عشرات المدارس وتأجيرها للقطاع الخاص؟!. أم أصبح كل شيء معروض للبيع مثل باقي مؤسسات الدولة كمطار دمشق الدولي مؤخراً.

ب- سوريا اليوم تكاد تخلو من جيل الشباب وتكاد تنعدم فرص العمل فيها، والأمن مفقود والعنف والجريمة تتسعان والسطو والتشبيح على قدمٍ وساق وانتشار الدعارة والمخدرات بشكلٍ كبير. أما التعليم فهو في أحطِّ مستوياته في مختلف المراحل، أما المشافي والطبابة والنقل والمواصلات فحدِّث ولا حرج، فالخدمات شبه معدومة، والراتب لا يكاد يكفي مصروف يومين فقط. وإذا استثنينا أزمات الخبز والكهرباء والماء والغاز والمشتقات النفطية، التي أصبحت جميعها مقنَّنة ويتلقاها المواطن بإيعاز من الحكومة، ومشكلة النقل والمواصلات تتعاظم حيث ينتشر مئات المواطنين في الشوارع بحثاً عن وسيلة نقل، ليحشر أخيراً أكثر من ٧٠ راكباً في باصات لا تتسع لربع عددهم. انهيار الليرة السورية والتضخم والغلاء وارتفاع الأسعار ما انفكَّ يولد كل لحظة دوائر جديدة من الفقر والجوع والمرض، حيث يكابد سواد الشعب جاهداً للبقاء على قيد الحياة.

ج- رغم كل هذه الأزمات، يتوفر في “سورية الأسد” كل شيء، بما فيها الكهرباء ومشتقات الطاقة ولكن عبر السوق السوداء، ويتابع المكتب السري في القصر الجمهوري كل صغيرة وكبيرة من وقائع الحياة اليومية، بعد أن أضاف إلى مهماته في الاستيلاء على ما تبقى من موارد البلاد، والاشراف على جمع الأتاوات والسطو على جيوب الناس تحت مسمي الضرائب والرسوم، يدير بكفاءة عالية اقتصاد الظل، وتجارة وتهريب المخدرات والكبتاغون، وتشليح رجال الأعمال أموالهم أو تطفيشهم. في سوريا اليوم لا وجود لرأس مال وطني على كل المستويات وقطاعات الاقتصاد، فقد حلَّ مكان أصحابه زعماء مافيات جديدة زرعها المكتب السري لتتولى أمور الجباية والسطو، ولا مكان أيضاً لاستثمارات عربية وأجنبية، بعد أن أصبحت سوريا نابذة لها، حيث لا قانون ولا خدمات ولا ضمانات تحمي أصحاب الاستثمارات، أما رئيسة اللجنة الاقتصادية في المكتب السري زوجة الأسد فهي تدير بجشع لا حدود له اقتصاد الدولة بطريقة عائلية لاهم لها سوى تكديس الثروات.

د- على نحو متسارع تتزايد مظاهر تحلل الدولة وتتفكك أركانها وتتحول إلى دولة فاشلة، ففي مناطق سيطرة ميليشيا الأسد لا وجود لدولة ولا حكومة فاعلة ولا حوكمة، ولا قانون ولا نظام ولا حتى بقايا مؤسسات شكلية، وكل ما لدى السوريين الرازحين تحت حكمه هو سلطة محدودة لرأس النظام تفرضها أجهزة أمنية إجرامية تربطها وشائج متعددة به، وتستميت لفرض هيبة النظام ورأسه، وتدعم أما الاحتلال الروسي أو الاحتلال الإيراني، اللتين لهما وجود كيانات ومراكز قوة وميليشيات تتبع لكلن منهما بشكل كامل بما في ذلك عدد من فرق جيش الأسد نفسه، وحفنة من رجال المافيات التي تقاتل دفاعاً ثرواتها وسرقاتها في ظل الأسد. وباتت كل خيوط اللعبة خارج أصابع رأس النظام وقادته.

ه- تحت مسمى نظام الأسد، تتجمع عصابة مافيوية عائلية مثقلة بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد أدمنت النهب والسطو والتعفيش، وتتكالب على ما تبقى من موارد البلاد وعلى مساعدات المنكوبين والمشردين، وتحمي حكماً معزولاً ومرتهناً وفاقداً للقرار والسيادة، وهو فوق كل ذلك مفلس ومنبوذ في الداخل والخارج، فاقتصاده منهار وأوراقه محروقة، وسلطته تشظَّت إلى ميليشيات مهلهلة، وهو باقٍ في السلطة كواجهة لداعميه يتمسك بهم لأن غيابهم أو تخليهم عنه يعني سقوطه فهو غير قادر على الاستمرار إلا في ظل سوريا الراهنة المجزئة والمحتلة وفوق ذلك عاجز عن اطعام شعبه وإصلاح ما دمره في البلاد، وعاجز باعترافه عن استيعاب سوريا الموحدة التي طرد نصف شعبها بوصفهم أعداءً، أما عجزه الاقتصادي والمالي فقد صار بحكم المستحيل رأبه من هنا يبرز عجزه أيضاً عن الكف عن إدارة وتشغيل وتصنيع وتوزيع المخدرات والكبتاغون، فكيف يطلب من هذا العاجز أن يدعو المتدخلين للخروج من سوريا، وكيف سيقبل توسَّله سراً وعلانيةً للغرب واسرائيل من أحل رأب تصدعاته وكسب اعتراف المجتمع الدولي

الاستنتاجات

1- يشهد العالم أحداث وتطورات كبري قد تفضي إلى تغيرات في شكل النظام الدولي، فالصين صاعدة، والتكتلات والتجمعات العالمية تتسع، وروسيا ليس لديها مقومات أن تشكل قطباً دولياً، وأوروبا تعاني من أزمات متعددة، الولايات المتحدة رغم تخبط إدارتها في سياساتها الخارجية، ما تزال تشكل القوى الأكبر والأقوى في العالم على الصعدين العسكري والاقتصادي ولديها مؤسسات عميقة تضع الاستراتيجيات الكبرى للعالم.

2- هل ستؤدي خطوة التطبيع العربي مع الأسد أُكُلها وتحقق أهدافها؟ لا يبدو أن هذا أمر ممكن: فكل شيء في نظام الأسد يحتضر، وعوامل الانهيار الداخلي للنظام كبيرة ومستمرة على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والإعاقة الدولية سياسياً واقتصادياً وقانونياً عبر العقوبات لا يستهان بها (إعلان قمة السبعة في اليابان – قرار الكونغرس الأمريكي بمواجهة التطبيع – موقف الاتحاد الأوروبي)، ليس لدى النظام ما يقدمه لمعالجة القضية، ولا لتلبية حاجات الدول ومطالبها. غير أن هذا الأمر يطيل المحنة السورية، ويلقي ظلالاً من اليأس والإحباط في ظل حالة التبدد الوطني القائمة. وهو ما قد يحمل مخاطر جديدة على القضية، ويرتب مهاماً أخرى على المعنيين.

3- إن كل الجهود المبذولة تحت عنوان ” المبادرة العربية للتعامل مع الأزمة السورية” لم تقترب من جذور المسألة السورية وجوهرها وأسبابها الحقيقية التي انتفض الشعب السوري من أجلها لاستعادة حقوقه المشروعة قي العيش الكريم في وطن حر مستقل مثله كبقية شعوب الأر ض؛ وإنما هي صفقة مريبة مع سلطة غاشمة تمتهن المراوغة والالتفاف حول القرارات الدولية التي تضمن حقوق السوريين.

4-في ظل استمرار الظروف العصيبة والمعقدة، التي تمرّ بها القضية السورية وثورتها، تكمن الأولوية في إبعاد حالة اليأس وفقدان الأمل لدى السوريين وتعزيز الثقة بثورتهم ثورة الحرية والكرامة، رغم ما اعتراها من عيوب وأخطاء وتدخلات إقليمية ودولية. ويبقى العمل متوجباً لبناء البديل الوطني، وفق رؤية وطنية جامعة، تلتزم بالعملية السياسية عبر مسار جنيف، ومرجعية القرارات الأممية ذات الصلة ومندرجاتها، بما فيها بيان جنيف (1)، وقراري مجلس الأمن الدولي 2118 و2254، والتمسك بأهداف الثورة والقرار الوطني المستقل، لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية دولة الحق والقانون والمواطنة والتنوع الثقافي. والتأكيد على إعادة بناء سورية الموحدة المتحررة من كل الاحتلالات، وضمان حقوق اللاجئين والنازحين، ورد المظالم إلى أهلها، وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين ومحاكمة المجرمين القتلة من رموز السلطة وأعوانهم.

دمشق 15 / 7 / 2023

اللجنة المركزية

لحزب الشعب الديمقراطي السوري