صبحي حديدي

في مقالة مشتركة تحت عنوان «تعاون متعدد الأطراف من أجل التعافي العالمي» وقّعها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، ورئيس السنغال ماكي سال، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، نُشرت مؤخراً مترجمة إلى 15 لغة، بينها العربية على سبيل الاستثناء اللافت؛ ثمة الكثير من رَجْع أصداء الماضي، يفوق مقادير المناشدة الحارّة والإعراب عن النوايا الحسنة، وثمة في هذا الذي يجري استرجاعه الكثير أيضاً من ذرّ الرماد في العيون. الفقرة الأولى من المقالة تكفي، بذاتها وبادئ ذي بدء، كي تتكشف الخلاصات الفعلية خلف النوايا المعلنة: 1) استعادة «إعلان الألفية» لعام 2000 الذي رعته الأمم المتحدة وصادقت عليه 189 دولة وشكّل، في يقين كتّاب المقالة المشتركة، «مبادئ التعاون الدولي لعصر جديد من التقدم نحو أهداف مشتركة»؛ و2) «أجندة 2030 للتنمية المستدامة» برعاية أممية أيضاً، التزمت فيها جميع دول العالم «بالعمل المشترك والتصدي للتحديات العالمية».
ويذكّر موقّعو المقالة، من زعماء أوروبا تحديداً، بما لا تنساه البشرية جمعاء: «بعد خروجنا من الحرب الباردة، كنا على يقين من قدرتنا على بناء نظام متعدد الأطراف قادر على التصدي للتحديات الكبرى في عصرنا: الجوع والفقر المدقع، والتدهور البيئي، والأمراض، والصدمات الاقتصادية، ومنع الصراعات». وماذا بعد؟ يا للأسف: «شهد عالمنا اتجاهات متباينة، أدت إلى رخاء متزايد على مستوى العالم، بينما ظلت أشكال التفاوت قائمة أو في ازدياد. كما توسعت الديمقراطيات، ولكن في ذات الوقت عادت النزعة القومية وسياسات الحماية إلى الظهور». وقبل «الأزمة الكبيرة» المتمثلة في جائحة «كوفيد ـ 19، كانت أزمة كبيرة أخرى هي البيئة، أسفرتا معاً خلال العقود الأخيرة عن «تعطيل وإرباك مجتمعاتنا وإضعاف أُطُر سياستنا المشتركة، مما ألقى بظلال من الشك على قدرتنا على التغلب على الصدمات ومعالجة أسبابها الجذرية وتأمين مستقبل أفضل لأجيال المستقبل. كما ذَكَّـرتنا هاتان الأزمتان بمدى الاتكالية المتبادلة بيننا».
وليس استعراض المزيد من محتوى المقالة هو غرض هذه السطور، بل استرجاع النقائض ذاتها، أو القليل فقط من الأضاليل التي تكتنفها، والتي تجعل منها محض أصداء ترددت من قبل في وديان الأمم ذاتها، والمؤسسات الأممية وتسعة أعشار مؤتمراتها التي صدحت بأجندات وبرامج وقرارات بقيت في منزلة بين الخداع والتضليل، أو بين الضحك على الذات والتعمية على الإفلاس المعلن. وذكر الله بالخير الأمين العام للأمم المتحدة يومذاك، كوفي أنان، الذي اختتم «القمة الألفية» مطلع أيلول (سبتمبر) 2000 بمناشدة الوفود (100 رئيس دولة، و47 رئيس حكومة، وثلاثة أولياء عهد، وخمسة نواب رئيس، وثلاثة نواب رئيس وزراء، و8000 مندوب…) كي تحترم تعهداتها. هيهات، بالطبع، الوفاء بالتزامات مثل تخفيض بمعدّل النصف لعدد الذين يعيشون على أقلّ من دولار أمريكي يومياً، وتأمين مياه الشرب النظيفة إلى هذا النصف ذاته من شعوب الأرض، وتأمين التعليم الابتدائي (إلى جميع أطفال العالم، هذه المرّةّ) وإظهار التصميم على وقف انتشار مرض الـ»الإيدز» والفوز في معركة الوقاية منه…

طريف أنها حال تقع بعد سنوات قليلة أعقبت إعلان «انتصار» القِيَم الرأسمالية على ما عداها: سواء حين لاح، على يد فرنسيس فوكوياما، أن التاريخ انتهى؛ أو حين بشّر صمويل هتنغتون بأنّ الحضارات هي التي تتصارع، بدل الطبقات والدول والمصالح والإثنيات

قبل القمة الألفية تلك، بأسابيع قليلة، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين ألبرايت قد استبقت خطبة رئيسها بيل كلنتون في القمة المقبلة، فجزأت العالم الراهن إلى عوالم، ونشرت مقالة عصماء في مجلة «فوريين أفيرز» اعتبرت فيها أنّ مفهوم «السلام الأمريكي» Pax Americana قد انتصر وهيمن واستقرّ. هي حال شملت عوالم الكون الأربعة: الأعضاء الأصلاء في النظام الدولي، الغرب أساساً؛ والأعضاء الذين يعيشون حال انتقال إلى النظام الدولي، حلفاء الغرب وأتباعه غالباً؛ والأعضاء غير المنتسبين إلى ذلك النظام، من الضعفاء والفقراء والغارقين في نزاعات إثنية وأهلية؛ والأعضاء غير المنتسبين بدورهم، ليس لضعف أو فقر أو حروب داخلية، بل لأنهم عصاة مارقون وأبالسة أشرار. من الطبيعي، ضمن «خطاطة» مثل هذه، أن يتوفر غنى هنا وفقر هناك، تخمة تارة وجوع طوراً، قوّة وبطش مقابل ضعف وعجز…
قمة أخرى سبقت الحشد الألفي، احتضنتها العاصمة الإيطالية روما تحت عنوان «القمّة العالمية للأغذية» شهدت إحصائية جثمت كالكابوس على صدور الوفود: ميزانية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الـ «فاو») أقلّ ممّا تنفقه تسعة بلدان متقدّمة على غذاء القطط والكلاب، لمدة… ستة أيام! وفي الدورة الثانية للقمّة ذاتها، كان 800 مليون جائع شخصتهم القمّة السابقة قد ظلوا جائعين بالشروط ذاتها، بل أخذوا يعانون الجوع بشروط أسوأ. وأمّا في قمّة جوهانسبرغ 2002 فقد كانت الإحصائيات تقول إنّ الدَيْن الخارجي للدول النامية ارتفع من 90 مليار دولار في سنة 1970 إلى 2000 مليار دولار في نهاية القرن؛ والأسعار الفعلية للمواد الأساسية التي تنتجها الدول النامية وتصدّرها، بما في ذلك النفط والغذاء والمواد الأولية، انخفضت بنسبة 50٪ خلال العقدين الأخيرين.
والحال أنّ قارئ المقالة المشتركة، الداعية إلى التعاون من أجل تعافي العالم، يخال أنّ أياً من أنساق الصراع والتصارع لا يدور الآن بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من جهة أولى، أو بين الدول الأوروبية بعضها في مواجهة البعض؛ ليس البتة حول إطعام فقراء الكون أو علاجهم أو الأخذ بيدهم في تنمية اقتصاداتهم ومجتمعاتهم، بل… حول حصص لقاحات كوفيد ـ 19، الجائحة ذاتها صانعة «الأزمة الكبيرة» الأولى. وهذه حال تصف، في الكثير من عناصرها الجوهرية، اعتلال اثنين من أعمدة القيم الرأسمالية: اقتصاد السوق، والديمقراطية البرلمانية (الغربية، حتى في النماذج الآسيوية من تطبيقاتها) أو «ديمقراطيات السوق» كما يحلو لبعض علماء الاجتماع الأمريكيين أن يقولوا، في اختصار بليغ وطريف.
طريف أنها، أيضاً، حال تقع بعد سنوات قليلة أعقبت إعلان «انتصار» القِيَم الرأسمالية على ما عداها: سواء حين لاح، على يد فرنسيس فوكوياما، أن التاريخ انتهى؛ أو حين بشّر صمويل هتنغتون بأنّ الحضارات هي التي تتصارع، بدل الطبقات والدول والمصالح والإثنيات. وليس أقلّ طرافة أن يُفتقد، اليوم، غلاف لأسبوعية الـ «إيكونوميست» البريطانية، العليمة ببواطن أمور الحاضر وخفايا المستقبل في كلّ ما يتّصل بالسوق ورأسمالية السوق، تعليقاً على حروب اللقاحات الراهنة؛ يذكّر بغلاف تناول ذات يوم «حروب الموز» بين أوروبا والولايات المتحدة، صوّر معركة كلاب مسعورة أكثر مما رمز إلى معركة ديمقراطيات حرّة تستشرف مطالع الألفية الثالثة!
وليس عبثاً أنّ المرء يفتقد التوقيع على المقال من جانب الرئيس الأمريكي جو بايدن أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس الصيني شي جين بينغ، ما دام منطق التعاون العالمي يعتمد على إطلاق ما يشبه «دبلوماسية لقاح» ناجعة في وجه التجاذبات القومية من حول نموذج منه أمريكي أو ألماني أو بريطاني أو روسي أو صيني. ولعلّ المرء ذاته يتساءل عن سبب حشر توقيع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد فضائح الفشل الذريع الذي مُنيت به فرنسا، بلد باستور، في تطوير لقاح وطني؛ أو حتى في التعاقد على جرعات لقاح تكفي حاجة المواطنين. وأمّا وجود الرئيس السنغالي، فلا يخفى أنه اشبه بدعوة أفريقيا إلى مشترَك جديد لا شراكة حقيقية في مضامينه، بل ثمة زخرف خارجي محض يقتضيه؛ وكان خيراً للرجل أن يدع الملعب للاعبيه، فاعلين كانوا أم تكملة عدد.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس