بتزامنٍ لافت، مع الذكرى الثالثة والسبعين لنكبة فلسطين، شهدت الأراضي الفلسطينية موجةً من التطورات السياسية والعسكرية العاصفة، وضعت قضية الشعب الفلسطيني من جديد في صدارة المشهد العالمي، وأعادتها إلى واجهة الاهتمام الدولي والإقليمي، لتحتل مكانتها على رأس قضايا المنطقة المتفجرة، مذكرةً العالم بمشروعيتها وعدالتها.

  ولَئِنْ تعددت بداياتها ونقاط انطلاقها، إلا أن ما يجمعها هو تراكم الاحتقان والغضب الشعبي في مواجهة العدوانية الإسرائيلية، التي عمت جميع الأراضي الفلسطينية. وضرورة التصدِّي للاحتلال وإجراءات الحصار والتضييق والاضطهاد، وسياسات الضَّم والإلحاق واقتحام المدن والبلدات الفلسطينية بما فيها المسجد الأقصى، لفرض التهجير القسري وتوسيع رقعة الاستيطان والتهويد، ورفضاً للاحتلال وأعمال التنكيل والاعتقال والتَّمييز العنصري.

جاءت الشرارة الأولى من قضية حي الشيخ جرَّاح في القدس، بما تخلَّلها من عمليات اقتلاعٍ للسكان ومصادرةٍ لمنازلهم. كما فاقمت الاعتداءات على المصلِّين وطردهم من ساحات الحرم القدسي حالةً الغليان الشعبي. إلا أن حملة الاعتقالات وأعمال التنكيل وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين المنتفضين ضد الممارسات العنصرية والاستفزازية، كانت بمثابة صاعق الانفجار، الذي حوَّل الهبَّات الشعبية المتفرقة إلى انتفاضة فلسطينية شاملة، عكست تلاحماً شعبياً غير مسبوق، ترددت أصداؤه في كافة أنحاء فلسطين التاريخية وفي بلدان الانتشار، متجاوزاً تموضعها الجغرافي، وتباين أشكال معاناتها في ظل الاحتلال، وخاصةً داخل الخط الأخضر حيث لعب فلسطينيو ال٤٨ دوراً ريادياً لافتاً ومفاجئاً وغير مسبوق في إذكاء روح الانتفاضة، وتوحد الشعب الفلسطيني في معركة الدفاع عن حقوقه بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

  فتحت انتفاضة القدس الأفق رحباً أمام سيرورة جديدة  في النضال الوطني الفلسطيني، وتمكَّنت بيومياتها من تعزيز حضور الفلسطينيين كشعبٍ واحد وقضيةٍ عادلة في مختلف الساحات، كما يسجل لها نجاحها في وصل ما انقطع بين الضفة والقطاع بمواجهة القيادات والفصائل المتخندقة وراء أسوارها في حماية الانقسام الفلسطيني. وفي ذلك إفشال لمخططات إسرائيل في تقسيم مناطقهم وتحويلها إلى جزرٍ معزولة، ومواجهتها للحؤول دون تنفيذ مخططاتها الاستيطانية. وكان لها الفضل الأكبر في اكتساب التأييد الواسع والمساندة القوية لقضيتهم بعد سنوات من الجمود والترهل. وعلى مدى الأيام العشرة، وجدت اسرائيل نفسها بمواجهة مفتوحة مع المتظاهرين في الضفة والقدس الشرقية وداخل الخط الأخضر، وضعت حكومة “نتنياهو” في موقف صعب إثر انقلاب الرأي العام العالمي وخاصةً الأوروبي ضدها، مبرزاً الوجه الوحشي للاحتلال الإسرائيلي وممارساته.

لم تكن انتفاضة القدس بمواجهة الطغيان الإسرائيلي وإجرامه فحسب، إنما بمواجهة عوامل الانقسام والقهر والتواطؤ التي تلفُّ مناخاتها الأجواء الإقليمية والدولية والمحلية، وهي موجهةٌ ضد الأنظمة العربية المهرولة نحو التطبيع والانصياع لمشروع صفقة القرن، وضد سياسات التنسيق الأمني ومخلفات “أوسلو”، ورفضاً للخضوع للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. وهي تحمِّل السلطة وحماس المسؤولية الكاملة عن حالة الانقسام والتنابذ وإبقاء الشعب الفلسطيني رهينة لمشروعها في الحفاظ على سلطتها، واستمرار تدفق المال والسلاح لخزائنها. فهي بحمولتها وزخمها الثوري امتدادٌ لثورات الربيع العربي التي حملت طموحات التغيير نحو رحاب الحرية والكرامة والعدالة.

على أهمية الأثر المعنوي الإيجابي لفعل صواريخ غزة، لكن الإنجاز لم يكن بفضل هذه الصواريخ، بل بفضل الصمود الفلسطيني والتظاهرات التي استحقت هذا التعاطف العالمي الجديد، الذي اخترق الأوساط المؤيدة تاريخياً لإسرائيل وللأوساط اليهودية أيضاً. وليس هو من أجبر العدو على طلب الهدنة ووقف إطلاق النار، بل وحدة الشعب الفلسطيني وانتفاضته الباسلة، والتضحيات الجسيمة التي قدمها تأكيداً على صموده وإصراره في معركة البقاء وإثبات الحقوق. فصواريخ الأجندات والمشاريع الإقليمية رأت في انتفاضة القدس فرصتها السانحة، لتدخل من أوسع الأبواب سعياً وراء الاستثمار السياسي والأيديولوجي، ولتقرر أن ما بعد صواريخ غزة ليس كما قبلها وأن مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا تحتاج إلى إعلان باهر ونصر سريع، ولاسيما بعد احتدام الجدل حول برنامج إيران الصاروخي وملف تدخلاتها في المنطقة. فلا بد من وضوح الرأي والرؤية بهذا الشأن. ولا يجوز طي الحراك الشعبي الفلسطيني الشامل والمثمر ودماء الضحايا وآلام الشعب لتوضع في الجيب الإيراني. فالصواريخ في ظل الانقسام ومحاولات تبديد قوى هذا الشعب العظيم في دهاليز المشاريع الإقليمية واستعراض القوة هي الأداة المثلى لضرب الوحدة الوطنية والإضرار بالمشروع الوطني الفلسطيني واضعاف روح الصمود والمقاومة عند الشعب.

    تعلمنا تجارب التاريخ ومن فلسطين بالذات، أن على القيادات التي تواجه انتفاضة الشعب، أن تلتحق به حينما يقرر خوض معركة البقاء والصمود لانتزاع حقوقه دون مسميات أو أجندات غير فلسطينية. وما عليها إلا ترجمة إرادته في وحدة وطنية تعددية وإعادة بناء نظامه السياسي على أسس وطنية خالصة، بعيداً عن التخندق الأيديولوجي والسياسي والمناطقي. والتوقف عن سياسات المحاور المدمرة وصيانة القرار الوطني المستقل بمواجهة تجيير قضية الشعب المكافح لصالح أجندات الآخرين، ووضع حد للعبة الانقسام المدمر الذي كاد يقضي على ما تبقى من روح القضية الوطنية الفلسطينية ويحولها إلى ورقة ضغط، تجري المساومة عليها في حلبة الصراعات الأيديولوجية والمشاريع الإقليمية.  وأي طعنة توجه للمشروع الوطني الفلسطيني وحاضنته الشعبية في البلدان العربية أقسى من تقديم الشكر لإيران، التي تحتل عواصم العرب وتقيم على أرضهم المشاريع الطائفية والهندسة الديمغرافية والإحلال السكاني، وإرسال التحية لجلاد الشعب السوري الذي قتل آلاف الفلسطينيين وهجرهم ودمَّر مخيماتهم. أنه السقوط الأخلاقي المشين لقادة حماس.

لولا انتفاضة الفلسطينيين في القدس، وصمود أهالي الشيخ جرَّاح، والدعم السياسي والإعلامي، الذي أغدقه الفلسطينيون على الانتفاضة في كل مناطق اللجوء والشتات، والتعاطف العالمي الذي حققه لما توقف “نتنياهو” عن إجرامه، ولا سارع البيت الأبيض لتحريك المياه الراكدة ووقف التدهور. فالتظاهرات المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني هي وحدها من أعادت للقضية الفلسطينية ألقها من جديد. ولن يكون التفاوض من أجل ايجاد حل عادل لقضية فلسطين مثمراً مالم تبقى شعلة الانتفاضة الشعبية بأهدافها ومراميها مضيئةً لتحافظ على عزم الشعب في تحقيق إرادته.