يترنح لبنان، على جمرِ أزمتين سياسية واقتصادية كبيرتين. ولقد تفاقمتا إلى هذ الحد غير المسبوق  في ظل سيطرة شبه كاملة لحزب الله على البلد وحكومته وسياساته الخارجية والدفاعية وقرار السلم والحرب فيه، و على منافذه البرية والجوية والبحرية.  وقد بات يشكل سلاح حزب الله الموالي علناً لإيران، العائق الأكبر أمام أية حلول للأزمتين. ولقد أدى هذا الوضع إلى انفجار انتفاضة شعبية عارمة، تطالب بالتغيير الجذري للنظام، القائم على المحاصصة الطائفية والإقطاع السياسي والفساد الشامل. لم يتأخر لبنان في وصوله إلى حافة التلاشي والسقوط، فجاء انفجار مرفا بيروت الكبير في 4 أب الماضي، ليدمِّرَ معظم  منشات المرفأ، وأحياءَ بيروتية بكاملها، ويسقط عدداً كبيراً من القتلى وأكثر من خمسة آلاف جريح وعدداً من المفقودين، ويشرِّدَ عشرات الألوف من السكان دون مأوى. نزل الثواراللبنانيون إلى الساحات؛ اعتصموا أمام المجلس النيابي، غير عابئين برصاص بنادق حراسه الذي اقتلع عيون بعض الناشطين. وتمكن هذا الضغط الشعبي العارم من إسقاط حكومة حسان دياب المرهونة قلباً وقالباً لإرادة الثنائي الشيعي وحليفهما التيار العوني.

شكلَ ما بعد 4 أب مرحلة جديدة في لبنان، قد تكون أخطر من سابقاتها جميعاً. فما حدث في هذا اليوم لم يكن سوى جريمة  ارتكبتها الطبقة الحاكمة بحق الشعب والوطن، بغض النظر عن سيناريوهات أسباب الانفجار ونتائج التحقيق. وهي أكبر من كونها حالة تقصير أو إهمال. والمفارقة أن كل الجهات الرسمية اللبنانية المدنية والأمنية والعسكرية كانت تعلم بوجود هذه القنبلة الموقوتة هائلة التدمير في المرفأ منذ سبع سنوات ولكنها لم تستطع أن تقارب هذا الشأن لا من قريب ولا من بعيد. وكأنها كان ممنوعاً عليها أن تتدخل فيه!..

لقد فشل النظام اللبناني القائم منذ مائة عام، في بلورة الوطنية اللبنانية والتخلص من المحاصصة الطائفية، ولم يستطع صد الهويات العابرة لحدوده، فبقيت تركيبته مولدة للحروب الأهلية وعدم الاستقرار، وعجز عن تطبيق دستور الطائف بكامله. ولقد ازداد وضع لبنان صعوبة وتعقيداً بعد أن وقع في حبائل ما سمي بمحور المقاومة والممانعة، ومعادلة الشعب والجيش والمقاومة، فأصبح أسيراً لهذه المعادلات الخارجية المدمرة. 

لم تستطع حكومة حسان دياب المؤلفة من تحالف العونيين والثنائي الشيعي أن تحظى بمساعدة صندوق النقد الدولي، ومساعدات الدول الغربية والخليجية، لإيقاف تدهور الوضع الاقتصادي المتواصل؛ بسبب بقائها في إطار المحور الإيراني وخضوعها لطبقة الحكام الفاسدين. ولقد فشلت فشلاً ذريعاً سياسة ” النأي بالنفس”، التي لغا بها الساسة اللبنانيون كثيراً، فلم تكن سوى حذلقة لغوية فارغة لا علاقة لها بالواقع والتطبيق. والمثير للانتباه في الفترة الأخيرة ما يطرحه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي الذي جاء مفاجئاً إلى حد ما، إذ يدعو إلى حياد لبنان بوضوح وصراحة وقوة، ويعتبر ما سماه بـ “الحياد الناشط” وحصر السلاح بيد الدولة الطريق الوحيد لخلاص لبنان مما هو فيه. ولقد دفع طرحه هذا أوساط حزب الله لأن تقذفه بتهم الخيانة والعمالة. 

 أدى الوضع اللبناني الراهن إلى فقدان الأمل بالطبقة السياسية اللبنانية وقدرتهاعلى التغيير والإصلاح في لبنان، و قد انعكس هذا بشكل واضح على مواقف وتصريحات المسؤولين الأمريكيين والفرنسيين والخليجيين، ولقد قالها وزير الخارجية الفرنسي أدريان صراحة في كلامه للحكام اللبنانيين:”ساعدونا لنساعدكم”. والأمل يبقى متوقعاً من الحراك الثوري واستمراريته. ولكن آن الأوان لكي توحد قوى الثورة صفوفها، وتفرز قيادتها الموحدة، وتصوغ برنامجها وخطابها السياسي على قواسم مشتركة، لتفويت الفرصة على الطبقة السياسية المسيطرة التي تهدد بين فترة وأخرى بدفع البلد إلى حافة الحرب الأهلية. 

كان الجديد في الوضع اللبناني هو المبادرة الفرنسية التي قدمها الرئيس ماكرون. في الواقع لا يمكن النظر إلى هذه المبادرة  فقط من منظور مصالح الفرنسيين في لبنان، وإنما دوافعها أوسع من ذلك، فهي تتعلق برؤيتهم لشرق المتوسط ككل وبالصراع الدائر فيه الآن على الطاقة والحدود البحرية، وكذلك لها علاقة بالتمدد التركي في هذه المنطقة. حاول ماكرون ربط الحكام اللبنانيين بتعهداتهم التي أعلنوها أمامه، وإلا سيكون لبنان أمام خيارات سيئة وكارثية. ولكن على الرغم من كون المبادرة الفرنسية تحمل في طياتها شيئاً من البراغماتية السياسية، مع ذلك لا يمكن نكران أهمية أحد دوافعها وهو العلاقات السياسية والتاريخية والثقافية بين لبنان والفرنسيين. فهو من أهم الدول الفرنكوفونية في المشرق المتوسطي والعربي، ويعتبرونه جزءاً من نفوذهم وأمنهم القومي. ولكنهم يقدمون على مقاربتهم اللبنانية ليس لكونهم متأكدين من نجاحها ولكنهم يحاولون. ويبدو أنهم لم يقدموا عليها بدون التنسيق مع الأميركيين والخليجيين اليائسين من الوضع اللبناني بمعنى آخر هم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يحظَ مصطفى أديب المدعوم فرنسيًا بتشكيل وزارته بسبب العصي التي وضغها الحلف المسيطر على الحكم أمام دواليبها. لم يقطع ماكرون الأمل من مبادرته، فعاد سعد الحريري الآن ليشكل وزارة إخصائيين مستقلين، وقد نال فقط أصوات خمس وستين نائباً في نتيجة الاستشارات النيابية، إذ لم تُسمِه كتلة القوات اللبنانية ولا الكتلة العونية ولا كتلة حزب الله. وحتى الآن يبدو أن الخلاف لا يزال مستحكماً حول التشكيل  بين أن تكون وزارة إخصائيين كما أعلن الحريري أو وزارة (تكنو-سياسية) كما يريدها الرئيس عون وحلفاؤه. والخلاف يدور أيضاً حول مسألة مداورة الحقائب الوزارية وعدم حصرها بطوائف معينة. ويبدو على الأغلب أنها سوف لن نرى دخان الوزارة الأبيض أو الأسود قبل الانتخابات الأميركية.