التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية (2) 

                                         ثانياً-التطورات المشهد الإقليمي

   ما زال الوضع السياسي في العالم العربي والشرق الأوسط عموماً يتقلب على نارٍ حامية، وتتفاقم أزماته وعقده المستعصية؛ وإذا كنا نلحظ فيه بعض بقع الضوء في الفترة الأخيرة، فهي لا تبشر كثيراً بقرب انفتاح الأفق على حلولٍ لها. ففي الأساس بالإضافة إلى عدم وجود قوة عربية فاعلة ومؤثرة في حل أحداث الإقليم ومشاكله، فهنالك بعض العوامل التي لعبت دوراً رئيسياً في تعفين القضايا والمسائل التي أعقبت اندلاع الربيع العربي. ومن أهم هذه العوامل: تضارب مصالح القوى الإقليمية والدولية وصراعتها الحادة والعنيفة على اقتسام النفوذ في المنطقة، وضعف مواقف المجتمع الدولي وترددها ومحاباتها لأنظمة الاستبداد والتخلف المعادية للديموقراطية، وتخبطات سياسة الولايات المتحدة وعدم وجود استراتيجية واضحة لها من مسائل المنطقة المشتعلة منذ أكثر من عقد. فضمن هذه الحال، ليس من المستغرب أن نرى حافة الحرب الأهلية حاضرة للاندلاع في أية لحظة في أكثر من بلد عربي، ومثل هذه الحروب قائمة بالفعل في بلدان عربية أخرى منذ زمن طويل ولا نرى أواخرَ لأنفاقها المظلمة.

  وحتى في البلدان التي حققت فيها ثورات الربيع العربي بعضَ أهدافها، لاتزال تتعثر وتتأخر خطواتها في إنجاز الفترات الانتقالية وإعادة بناء الدولة والتوصل إلى الاستقرار، ومن أهم أسباب تعثرها طموحات وأطماع العسكريين السلطوية التي تعاني منها البلدان العربية منذ أكثر من سبعة عقود، وقوى الثورة المضادة وفلول الأنظمة البائدة. ومن الأسباب الأخرى الهامة التي لا يمكن تجاهلها في هذا الإطار ضعف المعارضات والأحزاب السياسية في الدول العربية وتشتتها، وعدم توحدها على قواسم مشتركة سياسية موحدة. لكن رغم هذه اللوحة القاتمة، في المقابل لا يمكننا تجاهل تصاعد نضالات ونفوذ قوى المجتمعات المدنية والتيارات الديموقراطية الوطنية العابرة للطوائف، عبر حراكاتها الثورية السلمية، وعبر صناديق الانتخاب. وكذلك بدأنا نلمس تراجع النفوذ الشعبي للإسلام السياسي بفرعيه السني والشيعي في العالم العربي؛ وهذا ما رأيناه بوضوح في نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في كل من المملكة المغربية والعراق، وفي ترهل وفشل حزب النهضة في تونس الذي لم يستفد من دروس ونتائج تجربة جماعة الإخوان المسلمين في كل من مصر والسودان. 

  ومن الأحداث المثيرة والمفاجئة في الشرق الأوسط أخيراً، انسحاب الولايات المتحدة وحلفاؤها من أفغانستان بعد عشرين عاماً من حربها هناك، وصعود حركة طالبان المتطرفة لسدة الحكم. أثار هذا الانسحاب الكثير من ردود الأفعال على الصعيدين الدولي والإقليمي، والكثير من التعليقات والتحاليل السياسية المختلفة في تقييماتها للحدث. في الواقع لا تكفي لتبرير هذه الخطوة الانسحابية ذريعة التفرغ الأميركي للخطر الصيني في الشرق الأقصى. فهنالك من اعتبرها في الأوساط الأميركية والأوربية خطوة متسرعة غير محسوبة، وفشلاً أميركياً ترك أثاره على سمعة الولايات المتحدة الدولية، وفي المقابل هنالك من اعتبر الانسحاب الأميركي من المستنقع الأفغاني يصب في مصلحة الولايات المتحدة بالتخلص من أعباء هذه الحرب العسكرية والمالية، وفي آن يشكل توريطاً لكل من الصين وإيران وروسيا وحلفائها في آسيا الوسطى بهذا المستنقع. في كل الأحوال، أثر هذا الحدث، بشكل او بآخر، على ثقة حلفاء أميركا بها، مما اضطرت للرد على لسان أكثر من مسؤول أميركي لطمأنتهم، بأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان لا يعني انسحاباً من كل منطقة الشرق الأوسط، وأن الولايات المتحدة لايزال لديها الكثير من القواعد والقوى والوسائل العسكرية في المنطقة التي تمكنها من التدخل عند الضرورة للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها. وبالفعل يبدو أن من مستجدات الاستراتيجية العسكرية الأميركية التقنين في زج قواتها البرية في قضايا الشرق الأوسط والاعتماد أكثر على مشاركة الجيوش الحليفة لكي تقوم بالمهام القتالية على الأرض، في الوقت الذي يتولى دورها تقديم المعلومات الاستخبارية والتدريبية والتدخل بطائراتها ومُسَيراتها وصواريخها البعيدة المدى.  وفي هذا الإطار قامت أخيرا بإدخال إسرائيل في عداد “القيادة العسكرية المركزية” في الشرق الأوسط. 

1-الوضع اللبناني 

  غارق لبنان في أسوأ أزمة سياسية واقتصادية، تتفكك وتتلاشى مؤسساته يوماً بعد يوم. وتؤكد مجريات الأحداث أكثر من أي يوم مضى، أن العامل الأساس والحاسم في انزلاق الدولة اللبنانية إلى هذا الحضيض الذي وصلت إليه، هو وقوعها تحت سيطرة حزب الله بفائض القوة الإيراني الذي بحوزته، وبالغطاء السياسي الذي يؤمنه له حلفاؤه، بدءاً من الرئيس ميشيل عون وصهره جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر، إلى رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل نبيه بري، وبعض القوى السياسية والعسكرية اللبنانية الأخرى. وفي هذا الإطار لا يمكن تجاهل دور ضعف وتردد وتراخي مواقف وسياسات أكثرية القوى السياسية اللبنانية على الضفة المقابلة منذ أكثر من 10 سنوات تحت عناوين “تدوير الزوايا” و”حماية السلم الأهلي” و”النأي بالنفس” الفضفاضة والضبابية التي أسهمت إلى حدٍ كبير في تسيد حزب الله على الدولة. في الواقع يرزح لبنان منذ أحداث 7 أيار، تحت نير نمط جديد من الاحتلال غير المباشر الذي تمارسه إيران في أكثر من دولة عربية عبر ميليشياتها؛ التي تزودها بالمال وتدججها بالسلاح لتصبح أقوى من جيش الدولة، وتواصل تمكين دويلتها الموالية لها لكي تلتهم الدولة الأساسية الشرعية، هي وسيادتها، وسلطاتها الثلاث، ومؤسساتها وحدودها ومعابرها البرية والبحرية والجوية. وهذا بالفعل ما هو حاصل بكل تفاصيله بوضوح وجلاء في لبنان، فقد استطاع هذا الاحتلال المزدوج (إيران/حزب الله) أن يعطل مؤسسة رئاسة الجمهورية لسنوات عديدة، وكذلك أن يعطل تشكيل الحكومات والمجالس النيابية. وفي الفترة الأخيرة يبذل أقصى جهوده لتعطيل السلطة القضائية وتهشيمها، وتحويلها إلى مسبحةٍ بين يديه.

مضى عام كامل، ولم يستطع سعد الحريري أن يؤلف الحكومة التي كلف بتشكيلها. ولم تكن لتتشكل الحكومة الميقاتية لولا الضوء الاخضر الإيراني، وبالفعل تبين منذ أول اجتماع لها أنها ليست حكومة كفاءات وتقنيين وإنما حكومة محاصصة طائفية وسياسية بامتياز وفيها أكثر من الثلث المعطل لحزب الله وحلفائه. فمنذ بداياتها تبدو عاجزة عن إنجاز مهامها الإصلاحية، ومآلها إلى التعطيل المبكر والسقوط عند أول منعطف سياسي. لم تتأخر أسباب تعطيلها، فبدأت حملة حسن نصر الله وحليفه العضوي نبيه بري على المحقق العدلي طارق البيطار المكلف بالتحقيق في قضية تفجير المرفأ. وأخذوا يتهمونه بالاستنسابية وتسيس التحقيق ولقد وصل الأمر إلى أن ترسل له رسالة تهدد ” بقبعه”.  وصار قبع “المحقق الفتنة” كما أطلقوا عليه، أول الأولويات لدى حزب الله وحركة أمل. هنا أخذ الوضع اللبناني يزداد تلبداً ويصبح أكثر قتامة وخطورة بعد جلسة للحكومة، تحولت فيها قضية القاضي بيطار إلى معادلة صفرية على لسان وزير الثقافة فحواها: ينسحب وزراء الثنائي الشيعي من الاجتماعات الحكومية ما لم يتم قبع البيطار، وإلا هنالك وسائل أخرى؟. لم يتأخر تنفيذ التهديد، ففي يوم الخميس في 14 تشرين الأول بدأت “غزوة عين الرمانة”، بنزول المئات من جماعة القمصان السود المدججين بالأسلحة المختلفة ليتظاهروا (سلميا) كما قالوا أمام العدلية من أجل قبع طارق البيطار، ومن ثم تمددت هذه المظاهرات المسلحة إلى زواريب عين الرمانة وفرن الشباك وبدأت الهتافات الطائفية الاستفزازية والاعتداءات على المواطنين وسياراتهم وممتلكاتهم. أدى هذا الاقتحام المخطط له إلى الاصطدام مع أهالي الحي، الذي أسفر عن وقتلى وجرحى. ولكن الجيش استطاع تهدئة الأمور وإيقاف الاشتباكات وأعمال الفوضى. تصاعد التوتر والخوف في بيروت ولبنان بشكل عام. ويبدو أن الهدف الأساس من افتعال هذه الأحداث، كان إخافة اللبنانيين وإرهابهم وتذكيرهم بأحداث عين الرمانة في أواسط سبعينات القرن الماضي التي أشعلت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وصرف الأنظار عن التحقيق في انفجار المرفأ وطوي الملف نهائياً. وطبعاً مثل هذا السيناريو كان يحتاج إلى استحضار عدو مقابل، فجرى في هذا الإطار مباشرة التركيز على اتهام حزب القوات اللبنانية بالأحداث ورئيسه سمير جعجع.  ولكن لم ينجح حماة المظاهرة السلمية في محاولتهم الإيقاع بالقوات اللبنانية ورئيسها، فيبدو أن ظروف2021 تختلف كثيراً عن ظروف عام 1994 أيام الوصاية السورية على لبنان. 

لم يهتز وضع حكومة نجيب ميقاتي بتداعيات وعقابيل قبع طارق البيطار وغزوة عين الرمانة فقط، وإنما جاءت تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي المؤيدة للحوثيين والمعادية للسعودية ودول الخليج، لتصب الزيت على النار، وتجعلها في حالة عجزٍ تام وتحولها إلى شبه حكومة تصريف أعمال. فدخل لبنان في حضيض أعمق وأعقد، تفجرت فيه أزمة دبلوماسية قل نظيرها مع دول الخليج التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية والتجارية معه.  وفي خضم هذه الأحداث راحت تتبلور جبهة لبنانية معارضة لحزب الله تتصدرها القوات اللبنانية والجبهة السيادية التي يقودها أشرف ريفي، وحزب الكتائب وبعض القوى والرموز السياسية الأخرى.

2- الوضع العراقي 

من أهم مستجدات الوضع العراقي، كانت معركة الانتخابات النيابية التي جرت في العاشر من تشرين الأول، والتي شكلت علامة فارقة إذا ما قورنت بكل المعارك الانتخابية التي جرت في العراق منذ سنة 2003. وبالفعل، لقد استطاعت الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي أن تُجري معركة انتخابية ناجحة ونظيفة وسلسة بشهادة مراقبي هيئة الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي. 

كان الأبرز والأكثر مفارقة في الانتخابات العراقية الأخيرة، هو نتائجها التي أظهرت مدى التراجعات التي أحاقت بالتيارات والتحالفات العراقية الموالية لإيران، ومدى تقدم نفوذ التحالفات المعارضة للسياسة التوسعية الإيرانية وتدخلاتها في دول المنطقة. وظهر التفارق بشكل أوضح في البيت الشيعي. فقد حصل التيار الصدري الذي يرفع شعار تكريس الوطنية العراقية والتحرر من كل القوى الأجنبية على 73 نائباً في الوقت الذي حصل تحالف دولة القانون الذي يرأسه نوري المالكي على 36 نائباً، وتحالف الحشد الشعبي(الفتح) بقيادة هادي العامري على 16 نائباً. وفي البيت السني جاء في المركز الأول محمد الحلبوسي رئيس البرلمان وزعيم (تحالف تقدم) على 35 نائباً، وفي البيت الكردي كانت حصة الأسد للحزب الديموقراطي الكردستاني (34 نائباً).  وحصل المستقلون وشباب ثورة تشرين من قوى المجتمع المدني حوالي 40 نائباً. أثارت هذه النتائج لدى التيارات الموالية لإيران ردود أفعال متشنجة، فلم تعترف بها وراحت تدعو إلى الفوضى وتحرض على العنف. 

بدأ ماراتون التشاور بين القوى السياسية العراقية من أجل تشكيل التحالف الأكبر، لتأليف الحكومة الجديدة. والتنافس على أشده بين التيار الصدري وتحالف دولة القانون بقيادة نوري المالكي. ولكن نتائج الانتخابات منحت الصدريين فرصاً أقوى ومجالاً أوسع للإشراف على تشكيل حكومة العراق العتيدة. ومما يقوي وجهة النظر هذه، عدم تلبية الدعوة لجلسة التنسيق التي دعا نوري المالكي إليها في بيته، من قبل تحالف “تقدم” بقيادة محمد الحلبوسي ومن قبل التحالفات الكردية وحتى من قبل عمار الحكيم وحيدر العبادي.

  ما يثير التساؤل والريبة في إطار ردود الأفعال العنيفة على نتائج الانتخابات العراقية افتتاحها بتفجير المقدادية في ديالى، فلقد بدا هذا “العنف الداعشي” وكأنه يتضافر مباشرة مع ما تحاول القيام به ميليشيات الحشد الشعبي من أجل تقويض النتائج الانتخابية وهدم السياسات التي يمكن أن تسهم في تكريس هيبة وسيادة الدولة العراقية وبناء النظام الوطني الديموقراطي. في كل الأحوال يعيش العراق بعد الانتخابات لحظة حرجة وحالة خوفٍ من الفوضى والعنف، تحاول إثارتها التيارات الشيعية المتطرفة المهزومة في صناديق الاقتراع.  فقد بدأ زعماء فصائل (حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وربع الله) حملة تحريض موتورة مكشوفة وعلنية على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وراحت تهدد بتصفيته. وبالفعل، ففي صباح 7 تشرين الثاني كانت تتوجه ثلاث طائرات مسيرة إلى المنطقة الخضراء لاستهداف منزله. فيبدو أن إيران والأطراف الخاسرة في الانتخابات يتملكها الخوف من تشكل تحالف كبير مناوئ لهم يجمع أكثرية الشيعة وأكثرية السنة وأكثرية الكرد ونواب ثورة تشرين والمجتمع المدني، ومن أن يتفق هذا التحالف على ترؤس مصطفى الكاظمي للحكومة الجديدة، وهو الذي استطاع أن يحدث نقلة نوعية في الوضع السياسي العراقي لا يتماشى مع الهوى الإيراني.

3- الوضع السوداني

   ما إن اقترب موعد تسلم المدنيين رئاسة المجلس السيادي في السودان بموجب الوثيقة الدستورية التي صدرت بعد انتصار الثورة وسقوط البشير، حتى بدأ العسكريون في المجلس يعربون عن نواياهم وطموحاتهم السلطوية. واخذوا يُدخلون البلاد في أزمة عميقة ويشيطنون الأحزاب السياسية وحركة الحرية والتغيير ويتهمانها بالتسلط والإقصاء والطمع بكراسي السلطة؟ في هذه الأثناء بدأت تخرج مظاهرات من فلول النظام السابق وقوى الثورة المضادة تطالب بإسقاط الحكومة المدنية التي يرأسها عبد الله حمدوك، وتزامنت بشكلٍ مفاجئ هذه الأحداث بحركة قبائل (البجا) في شرق السودان التي شرعت بقطع الطرقات على الخرطوم والسيطرة على مرفأ بور سودان ومنع إيصال المستوردات والمعونات إلى الداخل السوداني وأخذ ما سمي بمجلس (نظارات البجا) يهدد بالانفصال إذا لم تتحقق مطالبه. أخذ التوتر يسيطر على الشارع السوداني في الخرطوم وام درمان وبحري وغيرها من المدن، ولكن الشعب السوداني لم يتأخر فهب ليدافع عن أهداف الثورة والنظام المدني الديموقراطي ووصل الأمر إلى أن تطلق القوى الأمنية الرصاص الحي على المتظاهرين ويسقط نتيجة ذلك عدداً من القتلى والجرحى. ومن ثم قام العسكر بانقلابهم على الحكومة المدنية وحلوا المجلس السيادي والنقابات والاتحادات المهنية وتم اعتقال رئيس الوزارة وبعض الوزراء والزعماء السياسيين.

   لكن الانقلاب العسكري لقِيَ معارضة قوية من جماهير الشعب السوداني التي نزلت إلى الشوارع لتعلن مطلبها الرئيس بالعودة إلى الحكومة المدنية لقيادة الفترة الانتقالية وتوطيد أسس النظام الديموقراطي. وكذلك تلقى الانقلاب العسكري صداً شاملاً وتنديداً صريحاً من المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي ومنظمة الاتحاد الإفريقي وبعض المنظمات الإقليمية الأخرى. لقد أثر الضغط الشعبي والتنديد الدولي على قيادة الانقلاب وأخذ قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان يبدي بعض التنازلات والخطوات التراجعية. وبعد الكثير من المبادرات والوساطات الإقليمية والدولية للتفاوض بين الطرفين المدني والعسكري لعودة الحكومة المدنية والاستمرار في إنجاز الفترة الانتقالية والانتخابات التشريعية، وقع حمدوك (بعد إطلاق سراحه) والبرهان على وثيقة جديدة لتنظيم العلاقة بين الطرفين خلال المرحلة الانتقالية. غير أن الشارع السوداني ومعظم القوى السياسية الفاعلة رفضت هذا الاتفاق وتعمل على إسقاطه. وتستمر المظاهرات في شوارع المدن السودانية لإسقاط النظام العسكري الانقلابي وتسليم السلطة للمدنيين. 

4- الوضع الخليجي

  لا يوجد أدنى شك في أن الخطر الإيراني على المنطقة وتكريس دوام عدم استقرارها، وفي إطاره الحرب الضروس التي طال أمدها في اليمن، وضبابية موقف الولايات المتحدة والغرب عموماً من نشاط الإيرانيين ووكلائهم الحوثيين، يشكل في هذه الفترة الهم الرئيس وأول الأولويات في سياسات دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ولقد بات الأمر واضحاً، أن رفض الحوثيين لكل المبادرات السلمية والجهود الدولية والإقليمية، لجمعهم مع الحكومة اليمنية الشرعية على طاولة المفاوضات، وتماديهم في إطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية على السعودية، وإصرارهم على محاصرة مدينة مأرب رغم خسائرهم الكبيرة، وعرقلتهم للملاحة في جنوب البحر الأحمر، مرتبط ارتباطاً عضوياً مباشراً بالسياسات الإيرانية التوسعية في المنطقة وبالتفاوض حول ملفها النووي.

  وضمن سياق استعراض القوة الذي تقوم به بالوكالة عن إيران الميلشيات الحوثية في اليمن والسعودية وجنوب البحر الأحمر، تندرج الأزمة الأخيرة العاصفة التي جرت بين دول الخليج ولبنان في الفترة الأخيرة والتي تفجرت على أثر تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي التي يدافع بها عن الحوثيين ويهاجم المملكة العربية السعودية. في الواقع هذا الخلاف بين المملكة والحكومة اللبنانية ليس جديداً وإنما هو محصلة مجموعة تراكمات بدأت منذ أن صار حزب الله يسيطر على مقاصل السياسة اللبنانية الداخلية والخارجية، وهو الذي يعمل على تدريب الحوثيين، ويرسل إلى اليمن خبراءه العسكريين للمساهمة في الحرب إلى جانهم ولمساعدتهم في توجيه الصواريخ والطائرات المسيرة. وفي الواقع، كانت تصريحات القرداحي الشعرة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة إلى العلاقات الخليجية اللبنانية. في هذا الإطار يمكن فهم وتقييم (القساوة الدبلوماسية) الصادرة عن السعودية وباقي دول الخليج، والتي أدت إلى قطع العلاقات وطرد السفراء اللبنانيين واستدعاء الدبلوماسيين الخليجيين من بيروت إلى بلادهم.

5-الوضع التونسي

  إذا ما قورنت التجربة التونسية، بالدول الأخرى التي اندلع فيها الربيع العربي، فقد كانت التجربة الأكثر سلمية ونجاحا والأقل عنفاً. فقد تغلبت على الديكتاتور وأجبرته على الرحيل دون أي سفك للدماء. واستطاعت عبر فترة قصيرة الشروع في المرحلة الانتقالية، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. لكن مع ذلك بقي الوضع التونسي يعاني نسبياً من عدم الاستقرار، ويتعرض بين فترة وأخرى للأزمات بسبب الصراعات السياسية بين حزب النهضة الإسلامي الذي سيطر هو وحلفاؤه عبر الانتخابات النيابية على أكثرية البرلمان وبين الأحزاب السياسية الأخرى منها اليسارية ومنها أحزاب الوسط والحزب الدستوري الحر الذي كان يعتبر حزب الدولة في عهدي الرئيسين بورقيبة وزين العابدين بن علي. وما يؤخذ على حزب النهضة، أنه متهم باغتيال المناضلين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وأجهض كل محاولات التحقيق حول مقتلهما. وكذلك ما يؤخذ عليه أنه مثل كل أحزاب الإسلام السياسي التي تتمحور كل سياساتها حول السيطرة الشمولية على كل مفاصل الدولة والاستحواذ على قرارها السياسي. وبعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي انتخب قيس سعيد رئيساً للجمهورية وبتأييد صريح من حزب النهضة؛ ولكن بعد فترة بدا الانقسام واضحاً وعلنياً بين مؤسستي الرئاسة من جهة والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، واخذت الخلافات تتصاعد بين الطرفين، وهنا بدأت تونس تمر في أزمة سياسية كبيرة وأزمة اقتصادية خانقة وعادت الاحتجاجات والتحركات الشعبية إلى المدن وارتفع مستوى التوتر السياسي والاجتماعي. وانتقل هذا التوتر إلى البرلمان ووصل إلى حد الاشتباك بالأيدي. وارتفع شعار المطالبة باستقالة راشد الغنوشي من رئاسة السلطة التشريعية.

قام الرئيس التونسي قيس سعيد في25 يوليو/تموز ليعلن قراراته المفاجئة شبه الانقلابية بإقالة الوزارة وتوقيف عمل البرلمان لمدة ثلاثين يوماً ووعد بتشكيل وزارة جديدة وإعلان خارطة طريق للمرحلة القادمة وأعلن عن عزمه على تكريس النظام الديموقراطي في تونس. انقسم المجتمع التونسي حول قرارات 25 تموز فهنالك من اعتبرها انقلاباً على الشرعية الدستورية والنظام الديموقراطي مثل حزب النهضة وكتلة الوفاء وحزب قلب تونس وهنالك من اعتبرها طريقاً لخروج تونس من أزمتها السياسية والاجتماعية مثل الحزب الدستوري الحر وحزب التيار الشعبي وبعض الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني. وحتى ” الاتحاد العام للشغل” الذي يحتل مركزاً تاريخياً مرموقاً في المجتمع المدني التونسي أعلن تأييده لقرارات سعيد ولكن شرط أن تضع خارطة طريق للعودة إلى الحكم الديموقراطي في أقرب وقت”. لكن وبعد مضي أكثر من أربعة أشهر بدأ معظم الذين أيدوا قرارات قيس سعيد ينفضون عنه، لأنه لم يفِ بوعوده وبعد ما صار يُشْتَم من تصريحاته عبق السياسات الفردية والسلطوية والشمولية. أخذت تطالبه بإعلان خارطة الطريق التي تكفل العودة إل الشرعية الدستورية. وكل تأخير في إعلان خارطة طريق للمرحلة القادمة، يعمق الأزمة ويفاقمها ويجعل البلاد على حافة العنف والانفجار. 

أواخر كانون الأول 2021 

                                                              اللجنة المركزية 

                                                     لحزب الشعب الديمقراطي السوري