مع بداية العام السادس على بدء تدخلهم العسكري في سوريا، يسعى الروس بقوة لجني ثمن تدخلهم على كافة الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية. ويبذلون أقصى طاقاتهم لإنجاح وفرض الحل الروسي فيها، وسط أجواء من الترقب والحذر والخوف من نجاح الرهان الأمريكي على استنزافهم ودفعهم إلى الفشل. فهم يواجهون الضغوط الأمريكية المتزايدة المتمثلة بعقوبات قانون قيصر، وما تفرضه من حصارٍ اقتصادي خانق وعزلة سياسية حادة على نظام الأسد، وتتزايد خشيتهم من تفاقم الاهتراء الداخلي لأوضاع حليفهم، ويتعاظم قلقهم من انهيارٍ مفاجئٍ لسلطته على وقع حالة الإفلاس الاقتصادي والمالي، وتراكم أزماته على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانقساماته وصراعاته الداخلية. وفي ظل هذه الظروف يتعاظم حرصهم الشديد على إنقاذ مكتسابتهم في سورية من الانهيار بفعل هذه العقوبات. كل هذا دفعهم للتحرك في كل اتجاه لوقف التدهور الحاصل وتجنيب النظام مفاعيل العقوبات من جهة، وتعزيز قبضتهم لحماية مصالحهم ومدِّ نفوذهم على ما تبقى من اقتصاد سورية من جهة ثانية.
  ولم تتمكن روسيا في العام السادس على تدخلها، من حسم المشهد العسكري في جميع المناطق السورية، فبقيت مناطق تحت سيطرة النفوذين الأمريكي والتركي، وهي المناطق الأكثر أهمية وحيوية، التي تشكل عقبة كأداء لا سبيل إلى تجاوزها عسكرياً. كما لم تتمكن من إنجاز تفاهم استراتيجي مع تركيا، فبقيت العلاقة معها في حدود التفاهمات المؤقتة والاتفاقات التكتيكية الهشَّة. وعلى الرغم من أن إدارة “ترامب” قد منحت الروس صلاحيات واسعة في الملف السوري، إلا أن التفاهمات الأمريكية-الروسية، ماتزال متأرجحة بحدود بعض التفاهمات العرَضية والموضعية. فالطرفان لم يتوصلا حتى الآن إلى اتفاقات راسخة. كما لم تتلق موسكو من إدارة “ترامب” أي اهتمام جدي بخصوص تسوية الأزمة السورية، رغم كل ما بذلته الخارجية الروسية من جهود لكي تكون هذه التسوية ضمن أولويات “ترامب” 

  وفي عامهم السادس، يتجرع الروس مرارة الفشل في تسويق مشروعهم لإعادة تأهيل النظام. كما وصلوا إلى طريق مسدود في ملفي إعادة الإعمار واللاجئين، بسبب اشتراطات الدول المانحة وخاصة الولايات المتحدة وحلفائها من دول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج التي تصر على ربط هذه الملفات بإنجاز الحل السياسي. فقد فشلت موسكو في إقناع المجتمع الدولي بمشروعها لإنجاز هذا الحل.  ورغم كل مظاهر فشل الروس في استثمار نتائج تدخلهم العسكري وتحويلها إلى نصر سياسي، ومع تعمّق مأزقهم في سوريا، لا تبدو علامات اليأس واضحةً في سلوكهم ومواقفهم؛ فهم مازالوا يتوسلون كل السّبل والأدوات للظفر بالورقة السورية، وانتزع اعتراف دولي بمصالحها الحيوية من قبل فاعليّ المجتمع الدولي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الآمريكية. ولم تكفَّ موسكو عن محاولاتها للعمل على مختلف الخيارات والمسارات للوصول إلى أهدافها وتحقيق مصالحها. فهي تلجأ إلى التصعيد العسكري في إدلب، لإضعاف الدور التركي في سوريا، وكذلك تحاول فتح علاقات دبلوماسية بين نظام الأسد وكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وكذلك تحاول توظيف ورقة الأكراد، وتستغل انقساماتهم وتحاول العمل على تمثيلهم في المفاوضات من خلال منصة موسكو، كمدخل للتسلل إلى مناطق شرق الفرات، ومحاولة حصار إيران في الجنوب والضغط على مواقعها في الشمال الشرقي وعلى الحدود السورية العراقية. وعلى مستوى الملف السياسي ما زال الروس متمسكين برؤيتهم بأن مساريّ “أستانة” و “سوتشي” هما الأكثر تعبيراً عن مصالحهم في تحديد مضمون القرار الدولي /٢٢٥٤/، ويعملون على أن ترتكز مفاوضات جنيف على نتائج هذين المسارين. وهم يجدون في التسويف والمماطلة، وإبقاء السقوف مفتوحة أمام ملفيّ الدستور والانتخابات، فرصة لشراء الوقت كي يتمكنوا من ترتيب أوراقهم بانتظار متغيرات دولية جديدة، وخاصة نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية التي قد تساعدهم في موقفهم إذا لم ينجح ترامب.

إن جدل العلاقة بين الرؤيتين الأمريكية والروسية حول سبل الخروج من الأزمة السورية، وإن تضمن بعض نقاط التوافق التي فُوِّضَتْ موسكو بتنفيذها، كأمن إسرائيل وإجهاض الثورة، وحماية النظام من الانهيار، إلا أنه يحمل في ثناياه العديد من نقاط التباين والاختلاف، منها منع الروس من فرض رؤيتهم للحل السياسي، وكذلك مصير الأسد. وإذا كانت واشنطن تدافع عن رؤيتها بالوقوف وراء قرار مجلس الأمن الدولي 2254، بوصفه تعبيراً عن الإرادة الدولية، وتجد في قانون قيصر ووضع يدها على مناطق شرق الفرات، لمنع النظام وحلفائه من الاقتراب منها، إمساكاً بمفاتيح الحل، فإن الرؤية الروسية تتجاهل مصالح الأطراف المنخرطة في الصراع بمن فيهم الغرب والولايات المتحدة، كما أنها تتجنب الخوض في مصير الأسد. لذلك ترى أن محاولاتها للالتفاف على القرار الدولي، وتمكُّنها من تقديم مضمون جديد له فرصة للحفاظ على وجود الأسد كواجهة سياسية تساعدها على ترسيخ مصالحها وتوسيع رقعة نفوذها في سوريا. لكن هذه المراهنة تبدو كسيف ذو حدين، فالإسراف في لعبة الوقت، والمراوحة في المكان، قد يعرّضان نظام الأسد إلى الانهيار المفاجئ. كما أن الرهان على بعض المتغيرات بعد الانتخابات الأميركية ليس مضموناً أن يكون لصالحها وقد يتسبب بوضعها ضمن دائرة الاتهام بتعطيل المفاوضات وعرقلة تنفيذ الإرادة الدولية. وهذا يعرض الشركات والمصالح الروسية لعقوبات قيصر، ويضع استثماراتها السورية في دائرة الخطر. ولا تزال الولايات المتحدة تنتظر أن تقوم روسيا بما كلفت به في اجتماع القدس الشهير وفي مقدمته إخراج إيران والضغط على الأسد للإنخراط الجدي في مسار مفاوضات جنيف وفق القرار2254.

  في كل الأحوال، لا يمكن تناسي دور الولايات المتحدة وتواطؤ المجتمع الدولي في مدِّ الموقف الروسي بالدعم والقوة خلال خمس سنوات كانت وبالاً ودماراً على سورية وشعبها.