مشكلة جمهور “المقاومة” و”الممانعة” أن منظومته المفاهيمية مغلقة على شعار محاربة الإمبريالية والصهيونية، فقط، وأن هذه المنظومة باتت منفصلة تماماً عن رفض الاستبداد والفساد والطائفية.

كم هي سمجة، وقبيحة، ووقحة، تلك التفسيرات التي أحالت تفجير مدينة بحجم بيروت بمفرقعات تستخدم في المناسبات، أو بمجرد حريق أدى إلى اشتعال مواد كيماوية وتفجيرها، أو لمجرد سوء تخزين، أو خلل إداري! وكم في مثل تلك التفسيرات من استخفاف بالعقول، واستهتار بحيوات البشر، ولا مبالاة بدمار عمرانهم، وضياع أعمارهم… 

ربما ينبغي أن يكون المرء بالغ السذاجة، أو أهبل، حتى تنطلي عليه تلك التفسيرات، وضمنها رواية الباخرة المحملة بـ2750 طناً من نيترات الأمونيوم، دفعة واحدة، والتي تعطّلت ويا للمصادفة قرب ميناء بيروت، قبل 7 سنوات، ثم تم تفريغ حمولتها في عنبر تقدر مساحته بآلاف الأمتار المربعة، ولسنوات ستّ، لأن كل تلك الروايات تذكّر بحكايات المافيا، بل وتكشف، أيضاً، حقيقة الطابع المافيوي للجهات التي تقف وراء قصة الباخرة، لإيجاد مسوّغ لتفريغ حمولتها في بيروت. 

ما يلفت الانتباه، هذه المرة، أن تلك التفسيرات، وهي صادرة عن الدولة اللبنانية، لم توجه أي اتهام لإسرائيل، وحتى “حزب الله”، الذي يسيطر على كل شيء في لبنان (الميناء والمرفأ والمعابر والذي يتحكم بأجهزة الدولة)، والذي كان يستغل أي حدث مهما كان كبيراً أو صغيراً، لاتهام إسرائيل، تجنّب ذلك، هذه المرة، حتى أمينه العام تجنّب ذلك في كلمته. 

بيد أن اللافت، أيضاً، في تلك المأساة هو موقف جمهور “المقاومة” و”الممانعة”، أو رد فعله، إذ سارع إلى اتهام إسرائيل بأنها هي التي قصفت المرفأ، ما تسبّب بتلك الكارثة، على خلاف موقف “حزب الله”. إلا أن هذا الموقف اعترته مشكلتان، الأولى، أن هذا الجمهور لم يكلف نفسه عناء تفسير موقف “حزب الله”، الذي جنّب إسرائيل تلك التهمة، التي يفترض أنها ضرورية لفضح وحشية إسرائيل وإدانتها في الرأي العام العالمي. والثانية، أن ذلك الجمهور لم يسأل نفسه السؤال الضروري، عن صوابية وجود تلك المواد، كل تلك الفترة في مرفأ يخدم لبنان، وفي منطقة مأهولة بالسكان، كأن هذا الجمهور في وعيه لا ينظر إلا إلى اعتبارات الصراع ضد الصهيونية والامبريالية، من دون أي مبالاة بالأثمان الباهظة، أو بحيوات البشر، وهو ما يفسر موقفه من المأساة السورية، كأن تحرير فلسطين، أو محاربة الصهيونية والامبريالية، تبرير لخراب العراق وسوريا ولبنان! 

في ما يخصّ الجانب الأول، يفترض أن جمهور المقاومة والممانعة يفهم، أكثر من غيره، أن إسرائيل دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ومصطنعة ومجرمة، وأنها لا تتورّع عن أي عمل وحشي، لضرب من تعتبرهم أعداءها، فهذا دأبها. لكن تلك الحقيقة المعروفة لا تعفي “حزب الله” من مسؤوليته عن تخزين  تلك المواد، وغيرها، في مختلف المناطق اللبنانية، علماً أن بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية تحدث عن ذلك صراحة في كلمته أمام منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عامين (أيلول/ سبتمبر 2018)، إذ أبرز أماكن تموضع مستودعات “حزب الله”، مع التهديد علناً بضربها. والمعنى من ذلك أن ذلك الجمهور، ومعه حزبه “المقاوم”، كان يفترض أن يتوقع من إسرائيل أن تضرب تلك المستودعات، لا أن تتركها، علماً أنها باتت تفعل ذلك أسبوعياً في سوريا والعراق وإيران ذاتها، على ما بتنا نشهد، بخاصة في الأعوام الثلاثة الماضية. 

إذا كانت إسرائيل متّهمة عند جمهور المقاومة والممانعة لذا يفترض بهم دعوة، “حزب الله” أو مطالبته بالإعلان عن ذلك صراحة، لا أن يغمغم على ذلك، كما يفترض بهذا الجمهور أن يسأل الحزب عن تخزين كل تلك المواد، التي أدت إلى خراب أجزاء كبيرة من مدينة كبيروت، زهرة المدائن العربية، وتشريد حوالى 300 ألف من سكانها.

مشكلة جمهور “المقاومة” و”الممانعة” أن منظومته المفاهيمية مغلقة على محاربة الإمبريالية والصهيونية، فقط، وأن هذه المنظومة باتت منفصلة تماماً عن رفض الاستبداد والفساد والطائفية، وعن قضايا الحرية والكرامة والعدالة والحداثة والقيم العالمية، علماً أنه منظومة إنشائية وسلطوية، ولا دلالات عملية ملموسة لها. 

مثلاً، ثمة يساريون وقوميون ومقاومون يظنّون أن “حزب الله” مازال حزباً للمقاومة، في حين أنه توقف عن ذلك منذ عام 2000 (باستثناء عملية خطف جنديين في 2006 التي اعتذر عنها). لا ينظر جمهور المقاومة والممانعة إلى هذه الحقيقة، ويستخفون بها، إذ يكفي عندهم وجود هذا الحزب، ورؤية بنادقه، ولا يكلفون أنفسهم التفكير لحظة لطرح سؤال: كم عملية لهذا الحزب منذ عام 2000، أي منذ 20 عاماً؟ أو سؤال، كم عملية نفذ هذا الحزب منذ نشوئه، مطلع الثمانينات، في فلسطين المحتلة؟ كل عملياته كانت في الجنوب اللبناني المحتل أي في منطقة لحد، وتلك ليست تفصيلة عابرة، وإنما لها دلالات واضحة.

أيضاً، ثمة يساريون وقوميون ومقاومون، من جمهور المقاومة والممانعة، ينظرون إلى “حزب الله” كحزب للحداثة والديموقراطية، وليس كحزب ديني، في حين أنه حزب ديني، وطائفي، ويتبع منهج “الولي الفقيه” الخامنئي في طهران، صراحة. حتى أن ذلك الحزب لا يضم أي لبناني من غير طائفته، أي أنه ليس حزباً وطنياً لكل اللبنانيين، لا سيما مع اشتغاله كذراع إقليمية لإيران في لبنان وفي المشرق العربي. المفارقة أن هذا الجمهور يبرر انخراط الحزب في الصراع السوري، في دفاعه عن نظام الأسد، القائم على الفساد والاستبداد، منذ نصف قرن، كحماية للمقاومة، كما يرون في ذلك دوراً له في قتال الفصائل الإرهابية والجهادية في سوريا، علماً أنه هو ذاته ينتمي للإسلام السياسي المسلح، وللطائفية السياسية، كتنظيمات “فاطميون و”زينبيون” و”عصائب الحق” و”كتائب أبو الفضل العباس”، التي تسببت في مقتل مئات آلاف السوريين وتشريد الملايين منهم، من دون مبالاة من هذا الجمهور، بل وبتنكر منه لتلك الحقيقة. فهل ملايين السوريين الذين تم تشريدهم، ومئات آلاف تم قتلهم، إرهابيون؟ والسؤال الأهم هل تدمير عمران ملايين السوريين وتشريدهم يضر بإسرائيل أم يخدمها؟ وهل تدمير العراق ولبنان وسوريا يفيد مقاومة إسرائيل؟ 

في الغضون، يجدر بذلك الجمهور ملاحظة كيفية التعامل مع المرأة، ومحتوى مناهج التعليم، واقتصاد “حزب الله” (الذي يشتغل خارج الاقتصاد اللبناني)، وخاصة ملاحظة وقوفه ضد الحراك الشعبي ضد الفساد والطائفية في لبنان (كما في العراق). وربما يفيد ذلك الجمهور ملاحظة أن حزب الله يحاول حصر كل تلك الجريمة بمجرد خلل إداري، مع رفضه لجنة تحقيق دولية، ما يذكر بعمليات الاغتيال التي أودت بحياة شخصيات كحسين مروة ومهدي عامل وسهيل طويلة ورفيق الحريري وغيرهم، وهي جرائم لم يُكشف عن مرتكبيها ولم يُحاسبوا. 

باختصار، يمكن أخذ اتهام جمهور “المقاومة والممانعة” في الاعتبار نظراً إلى وحشية إسرائيل وسوابقها، فإن صحّ ذلك فإن إسرائيل، هذه المرة، تكون ضربتنا بذخيرة “حزب الله”. لا خلاص للبنان إلا بالتحرر من نظام الطائفية والفساد، بأركانه كافة. كان الله في عون اللبنانيين.