مناف الحمد

في إحدى الندوات التي جمعت بشكل أساسي يساريين وإسلاميين شهد الحوار انحرافًا عن موضوعه الأساسي؛ إذ تحول إلى سجال بين أفراد من الطيفين حول من هو الأحق بتمثيل النضال ضد الاستبداد، وبالطبع لم يكن السجال العقيم ليصل إلى انتصار أحدهما؛ لأنه في الأصل مزاودة مدفوعة بجذر أيديولوجي يتجلى في مواقف عدائية ترسخت عبر عقود.
والغريب أن مثل هذا لا يحصل في ظروف عادية وإنما في ظروف السوريين الاستثنائية التي تمزقت فيها البلاد شذرَ مذرَ، ولم يعد ثمة سورية بالمعنى المعروف وإنما كيانات رازحة تحت عدة احتلالات، وما يثير الاستغراب للوهلة الأولى أن نفرًا ممن يعدون أنفسهم وكلاء الديمقراطية يصبون جام غضبهم على النظام الحاكم في تركيا ويسبحون باسم الديمقراطية لكي يهزم في معاركه على اساس أنه سلطان مستبد.
وبعض هؤلاء يشارك في مظاهرات ضد هذا النظام في اسطنبول التي يقيمون فيها ضيوفًا على أساس أن قضية النضال ضد الاستبداد لا حدود لها ولا تقبل الاستثناءات. مما لا شك فيه أن الديموقراطية التركية حديثة العهد ولا يزال يشوبها الكثير من جوانب القصور ولكن مما لاشك فيه أيضًا أن نسبة كبيرة من الشعب التركي هي الرافعة لهذا النظام بسبب رضاها عن أدائه الاقتصادي والاجتماعي. ولكن الصلة الحية ببعض من ذكرناهم تؤكد أن موقفهم السلبي من تجربة حزب العدالة والتنمية يثوي تحته موقف سلبي من الإسلام نفسه وموقف عدائي إلى أقصى الحدود من الإسلام السياسي الذي يمثل حزب العدالة والتنمية إحدى نماذجه التي حققت قدرًا معقولًا من النجاح على الأقل على صعيد الداخل التركي الذي يزايد عليه “المناضلون الأمميون”.
والبعض لا يزال يرى في الاستعمار الفرنسي محطة مشرقة في تاريخ سورية على أساس أنه كان بوابة الانتقال السوري إلى الحداثة في تغليب لزاوية النظر هذه على حقيقة كون هذا الاستعمار جزءًا من امبريالية بغيضة مجرمة عنصرية في شغف غير مبرر باستيراد القيم الغربية بغض النظر عن الوسيلة، وهو ما جسده البعض بصورة كاريكاتورية بإقامة الاحتفالات باحتلال العراق على أساس أن التناقض الأساسي مع انظمة الاستبداد ولا أهمية لكيفية إسقاطها.
ما أردت قوله من هذه المقدمة هو أن الانطلاق من ثوابت أيديولوجية لا يزال حاكمًا لسلوك الكثير ممن يسمون أنفسهم نخبًا، وثقافة المواطنة لم تتجذر لدى هذه النخب بسبب العمق الأيديولوجي المفارق الذي حكم تكوينهم الفكري والسلوكي، وليس هذا العمق الأيديولوجي المفارق بالضرورة قادمًا من آخر حضاري، وإنما قد يكون مصدره -كما في حال الإسلاميين- من زمن مغاير ينتمي إلى الأنا الحضارية نفسها.
ولعل مقولة النضال في سبيل الوطن التي يرفعها الجميع شعارًا لا تزال -لدى النخب وليس لدى العموم- نتاج سردية مستوردة مزيفة فحواها أن مجموعة من العقلاء في الغرب قد أدركوا بحصافتهم عبث الحروب الدينية وكلفتها العالية، فعقدوا العزم على فصل الكنيسة عن الدولة وجعل الولاء العمومي للفرد لوطنه وليس لدينه أو طائفته. وهي سردية تغفل حقيقة أن الحروب المسماة دينية لم تكن دينية بالمعنى الحرفي؛ لأن المتحاربين في كثير من المراحل كانوا من طائفة واحدة، ولأن هذه الحروب-وهذا هو الأهم- كانت تجليًا من تجليات الصراع على الهيمنة بين الكنيسة والدولة، هذ الدولة التي بدأت بالظهور قبل اندلاع هذه الحروب بزمن ليس بالقصير.
ولما كانت الغلبة في النهاية لأنصار الدولة كان لا بد من سد فراغ المقدس الذي خلفه انزواء الكنيسة عن الفضاء العام فكان مفهوم الوطن والاستعداد للموت في سبيله. ولذلك ترى أن ما صدّر إلينا على أنه قيمة كونية هو نتاج سياقه التاريخي وما حفّ به من ترتيبات سياسية وتطورات ثقافية لا يمكن أن يغفل فيها دور الفاعلين الاجتماعيين ومصالحهم على مختلف المستويات.
ولأن المستورد لا يمكن أن يتجذر من دون تهيئة التربة له فإنك ترى مفهوم الوطن عند العموم في منطقتنا لا يزال مفهومًا جنينيًا -إذا صح التعبير- مرتبطًا بحب فطري للمكان وعلاقة حميمية مع ذكرياته ومع القاطنين فيه، والأهم انه مرتبط بموروث قبلي يجعل الأرض والعرض جزأين أساسيين من مفهوم الشرف الشخصي، وبموروث ديني غير متبلور مقتصر على استحقاق الشهادة لمن يدافع عن عرضه. وهو عند الكثير من النخب قشرة لمواقف أيديولوجية وقد كشفت الحرب التي تدور رحاها اليوم عما هو أسوأ بفضحها الصريح لجذور طائفية طالما خصف عليها البعض قشرة الوطنية.
إن سورية لم تعد كما كانت في ذاكرتنا وإن إدانتنا لكل أنواع الاحتلالات فيها واجبنا على الأقل كبشر ذوي كرامة أيًا كان هذا الاحتلال، ولكننا نحتاج أن نصوغ مفهومًا لحب الوطن من سياقنا وظروفنا وصراعنا ضد الاستبداد وحلفائه ومن فصول مأساتنا، فالأطفال والنساء الذين يغوصون اليوم في طين المخيمات ليسوا معنيين بأحلام الحالمين بالخلافة الإسلامية ولا بصراعات وكلاء الديموقراطية والحداثة ضد خصومهم التاريخيين، وهم بالطبع لم يستفيدوا مما قدمه الاستعمار من مقدمات للانتقال إلى الحداثة، وبالتأكيد فإن هؤلاء هم الذين طحنهم الظلم الاجتماعي بسبب ممارسات نظام الاستبداد.
تستطيع مأساة هؤلاء أن تضع أساسًا لصياغة ثقافة مواطنة لا يزايد بها أفراد من النخب المستغربة على من ينعتونهم بالمتخلفين، ولا يستهجنها المقيمون في زمن ماض على أساس أنها بلا قيمة أمام مشروع الهداية الأممي.