إبراهيم درويش

ماذا بعد حلب؟ هذا هو السؤال المعلق في الهواء على ألسنة المعلقين والمحللين السياسيين وسط صمت مريب على ما جرى في الجزء الشرقي من المدينة من انهيار للمعارضة المسلحة وتشتت المدنيين وتوغل الميليشيات الشيعية الموالية لنظام الأسد في معقل المقاومة السورية الذي سيطرت عليه منذ عام 2012. وبخسارته تصبح المعارضة بدون قلب أو مركز، ففي الشمال أقامت تركيا منطقة أمنية تهدف لمنع الأكراد التقدم في مناطق غرب الفرات وربط جيب عفرين مع الجيوب الأخرى. وفي الجنوب هناك الجبهة الجنوبية التي تتعامل مع الولايات المتحدة وغرفة العمليات العسكرية في العاصمة الأردنية عمان، وهي شبه مجمدة منذ عام بعد المفاوضات التي قام بها الروس نيابة عن نظام الأسد مع الأردن. ومن هنا فسؤال إلى أين ستذهب المعارضة يظل اشكاليا ومثيرا، فقد استخدم النظام السوري وحلفاؤه الروس منطقة إدلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة كنقطة لإرسال كل المقاتلين وعائلاتهم الذين قبلوا تسليم السلاح بعد نجاح استراتيجية الجوع أو الركوع في تركيع المدنيين وإجبار المقاتلين على إجراء صفقات. وكما وصف دبلوماسي غربي إدلب بأنها مثل السلة التي يلقى إليها كل «البيض الفاسد» حتى يقوم الطيران الروسي بعد ذلك بضربه والتخلص منه. وتظل إدلب منطقة إشكالية، فهي واقعة تحت سيطرة تحالف من جبهة النصرة أو فتح الشام الموالية للقاعدة وأحرار الشام الجماعة ذات التوجه السلفي. وفي مسارات الأزمة السورية تجد المعارضة اليوم نفسها على مفترق طرق وتدرس خياراتها وسط أسئلة عن الانهيار. فقبل فترة كانت عصية على الهزيمة وقادت في الأشهر الماضية هجوما مضادا ضد قوات النظام في حلب الغربية وإن لم يكن ناجحا. والأسئلة عن الانهيار تتراوح بين الصفقات السرية والخيانة وفقدان القدرة على الصمود بسبب توقف الامدادات. وكانت صحيفة «فايننشال تايمز» (1/12/2016) أشارت لمفاوضات برعاية تركية بين رموز سياسية في المعارضة والروس بعيدا عن الولايات المتحدة التي بدت خارج اللعبة لوقف القتال. وجاء الحديث وسط تقدم للقوات الموالية للنظام السوري ولهذا لم يكن في وارد هذا الطرف البحث في اتفاقيات هدنة أو إطلاق النار وهو الذي ظل يخرقها دائما.
ولا شك أن هناك أسئلة كثيرة تثار حول موقف أنقرة من حلب، فهناك من تحدث عن تفاهمات تركية-روسية حول المدينة مقابل نفوذ تركي في المناطق الحدوية بين البلدين. وهناك من برر الموقف باعتباره تحولا في السياسة الخارجية الذي يؤكد على المظاهر الأمنية لا الايديولوجية ونشر النموذج التركي في دول الربيع العربي كما ناقش غالب دالي في «فورين أفيرز» (24/11/2016). وفي ضوء هذ التحول لم تهرع تركيا إلى نجدة المقاتلين السوريين في حلب وتركتهم يواجهون قدرهم لوحدهم. ويعتقد أرون لوند من موقع «سيريا إن كرايسيس» في مركز كارنيغي للسلام العالمي (2/12/2016) أن دخول تركيا إلى سوريا تم بتفاهمات مع روسيا لتقاسم النفوذ في الشمال وجاء بعد تحسن في العلاقات بين البلدين والتي ساءت عقب إسقاط الطائرة الروسية العام الماضي ومن هنا فلن تلجأ أنقرة أو موسكو إلى خطوات تعكر صفو العلاقات من جديد. وأيا كان فلو كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصا على دعم المعارضة لما انتظر حتى دخول قوات الأسد من أجل إنقاذها. ولا شك كما يقول لوند أن المستقبل يبدو قاتما أمام المعارضة التي لم يعد لديها مركز انطلاق وأصبحت خياراتها صعبة ما يجعل من تحقيق النصر الذي كان قويا قبل سقوط حلب أمرا صعبا في الوقت الحالي. وما يعقد الوضع هو وصول رئيس للولايات المتحدة للسلطة ولا يعرف أحد بعد توجهاته السياسية سوى تصريحاته التي أكد فيها على عدم اهتمامه بمعارضة لا يعرفها ولم يستبعد التعاون مع روسيا في قتال تنظيم «الدولة». وفي ضوء هذا كله، هل سيعود المقاتلون من جديد إلى أسلوب حرب العصابات ويقومون بشن هجمات على النظام والروس والميليشيات الشيعية أم سيتحالفون مع الجماعات الجهادية مثل فتح الشام وأحرار الشام؟ ونقلت صحيفة «واشنطن بوست» (3/12/2016) عن قادة في المعارضة تعبيرهم عن حالة إحباط من موقف الولايات المتحدة التي رفضت تسليحهم بأسلحة نوعية لمواجهة عدو مسلح بشكل جيد. وقال أحدهم إن «أمريكا لن يكون لها تأثير على المقاتلين لو أجبروا (للانسحاب) إلى إدلب» ومن هنا قد تجد الإدارة المقبلة مبررا أكبر لوقف الدعم عن المعارضة المعتدلة كليا نظرا لوجود أكثر من 10.000 مقاتل تابع لجبهة فتح الشام والمصنفة إرهابية. وفي ظل ما يراه الجنرال المتقاعد مايكل فلين، رجل دونالد ترامب المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي فإن موقف الإدارة المقبلة سيتغير كليا من المعارضة، ذلك أن فلين يرى أن التعاون بين الجماعات السورية المعتدلة والمتطرفين بدأ على المستوى العملياتي منذ وقت طويل. وقال «عندما لا تكون موجودا وتساعدهم فسيبحثون عن طرق أخرى لتحقيق أهدافهم» في إشارة للدعم المتردد والمتفرق الذي قدمته الولايات المتحدة للمعارضة، سواء عبر برامج التدريب والتسليح التي أشرفت عليها «سي آي إيه» وتلك التي أشرفت عليها البنتاغون وكلاهما أثمر ثمارا متواضعة.

دور القوى الخارجية

ويرى أوري فريدمان في مجلة «ذا أتلانتك» (8/12/2016) أن قصة حلب هي مثال عن الطريقة التي تتصارع فيها إرادات القوى الخارجية وتسهم في تسعير الحرب ومن ثم ترفض بذل الجهود لوقفها. فمقابل الجهود العسكرية التي بذلها حلفاء الأسد خاصة منذ العام الماضي قطع رعاة المعارضة عنها شريان الدعم إما عن تردد أو انشغال بحروب أخرى مثل السعودية أو تغير في أولويات السياسة كما شاهدنا مع أنقرة. ومن هنا فسيطرة نظام بشار الأسد على حلب وهو الذي كان على حافة الانهيار قبل عام هو انتصار له ولفلاديمير بوتين الذي جيش قواته وطائراته ولإيران ولميليشياتها. وستكون معركة حلب نقطة تحول في مسار الحرب الأهلية السورية التي مضى عليها ستة أعوام تقريبا ومسار المنطقة بالضرورة. فمن ناحية الأسد، تعني حلب وإن كانت جثة هامدة ومنطقة مفرغة من السكان مثلها مثل حمص وداريا وكل المناطق التي خرجت منها المقاومة، استعادة السيطرة على ما يراه أندرو تابلر من معهد واشنطن الذي كتب مقالا مشتركا مع المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط في «فورين أفيرز»(25/11/2016) هو استعادة لسوريا «المهمة» أو «الضرورية» أي سيطرة النظام على معظم المراكز الحضرية باستثناء إدلب وبالضرروة على غرب سوريا. وهذه مهمة للنظام فالمنطقة تؤمن ما تبقى من دولته وتؤمن طرق نقل السلاح الإيراني إلى حزب الله في لبنان وتحافظ على القواعد العسكرية في غرب البلاد. على المستوى الإقليمي يعتبر ما جرى في حلب والحرب الأهلية السورية عموما نتاجا لتحولات ما بعد الحرب الباردة.
ففي دراسة أعدها كريستوفر فيليبس من كلية كوين ماري- لندن ناقش فيها أن الانتفاضة ثم الحرب الأهلية السورية هي نتاج عوامل عدة منها تراجع الهيمنة الأمريكية بالمنطقة وفشل غزو العراق ما بين 2003- 2011 وتراجع أهمية النفط الخليجي بالإضافة إلى خفض النفقات العسكرية والتقشف الاقتصادي الذي تبع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 ومن ثم انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الذي وصل للرئاسة على ورقة معارضة الحروب «الغبية» في العراق وجاء إلى البيت الأبيض بأجندة إنهاء الحروب ومنع تورط الولايات المتحدة في حروب جديدة.
وسمحت هذه الظروف منفردة أو مجموعة للاعبين إقليمين بالدخول وملء الفراغ والتنافس على سوريا والعراق إذ تحولا لساحة نزاع لتصفية حسابات أو الحصول على جوائز. وفي هذا الإطار نشطت كل من تركيا وإيران والسعودية فيما عادت روسيا إلى المنطقة بعد غياب طويل وبدأت تؤكد حضورها في سوريا وليبيا ومصر وتقيم علاقات مع دول المنطقة وتقدم نفسها كصديق للذين شعروا بالخيبة من الحليف الأمريكي التقليدي.
ويرى فيليبس أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب الأقوى في المنطقة مع أنها لم تعد تتمتع بالنفوذ السابق نفسه في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي. ومن هنا حاول كل طرف دخل ساحة المنافسة تحقيق ما يمكن تحقيقه. وكان التنافس خطيرا حيث أسهم النزاع بين اللاعبين الإقليميين في تغذية النزاعات التي تحتاج لمساعدة أمريكية في حلها مثل الحرب السورية. فمن جهة كانت تركيا ودول الخليج طرفا في الحرب بالطريقة التي فشلت فيها إيران وروسيا بالتأثير على نظام الأسد وإجباره على تغيير سلوكه بل أصبحتا جزءا من أجندته الحربية نظرا لحرصهما على تحقيق أهدافهما السياسية. ويعتقد فريدمان أن نظاما جديدا في طريقه للظهور في المنطقة وهو وإن لم يبرز بسبب الحرب السورية إلا أن هذه كشفت عن الطابع الجهنمي للحرب التي ستنتهي بديكتاتور يحكم بلدا مدمرا وركاما ويحظى بدعم نظام مستبد في روسيا وحكومة ملالي في إيران ستجد الفرصة للتلاعب في شؤون المنطقة.

إيران والسعودية

ورغم دعوة صحيفة «التايمز» البريطانية (8/12/2016) المجتمع الدولي منع إيران وبالضرورة الأسد من الفوز في معركة حلب إلا أن النظام الإيراني وفي هذا العام استفاد كثيرا من تراجعات منافسته السعودية وتردد أوباما وانشغال أمريكا بمرحلتها الانتقالية بعد الانتخابات الرئاسية. وفي مقال للمحلل بمعهد بروكينغز، بروس ريدل بموقع «المونيتور»(7/12/201) قال فيه إن عام 2016 هو عام ترغب السعودية بنسيانه نظرا لما واجهته من مصاعب اقتصادية وانخفاض في سعر النفط وتورط في حرب اليمن وتوتر علاقاتها مع حلفاء مثل مصر التي كانت النجاح الأكبر للرياض في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وأشارت مجلة «إيكونوميست» (10/12/2016) إلى انجازات إيران على حساب التراجعات السعودية من لبنان إلى العراق واليمن وسوريا ومصر التي بدأ رئيسها عبد الفتاح السيسي بالتقارب مع النظام السوري وحتى الإيراني بالإضافة للعلاقة مع روسيا رغم تلقيه مليارات الدولارات كدعم من السعودية ودول الخليج لحماية نظامه. وقالت المجلة ان تراجع حظوظ السعودية مرتبط بالدعم الكبير الذي قدمته إيران للشيعة العرب سواء في العراق ولبنان واليمن وكذا دعم حلفائها في سوريا. وقالت إن السعودية خسرت القوة الناعمة أيضا والتي دعمت من خلالها أنظمة في مصر وحاولت بناء قوة لها في لبنان حيث قبل حليفها هناك سعد الحريري بمنصب رئيس الوزراء مقابل الموافقة على مرشح حزب الله للرئاسة اللبنانية، العماد ميشال عون. بعيدا عن الحسابات الإقليمية فكارثة مدينة حلب التي جرت تفاصيلها والعالم يتفرج تعبر بالضرورة عن خيانة واضحة للمدنيين وستلطخ الكارثة ضمير العالم لسنوات مقبلة. ووصفت صحيفة «الغارديان» (1/12/2016) المشهد الحزين في حلب قائلة «آباء متعبون يحملون أطفالهم الخائفين ويدفع الشبان الصغار الكبار في العمر على عربات بسيطة أو كراسي متحركة ـ أما العائلات فتجر حقائبها المتخمة» فهذا «الخروج» الجديد من حلب الشرقية.
وقالت الصحيفة أن ما آل إليه الحال في حلب هو تجسيد لفشل السياسة الغربية ويعد إهانة للأمم المتحدة ويمثل سقوطها بيد النظام انتصارا للاستراتيجية الروسية. وستنضم حلب إلى القائمة سيئة السمعة التي ارتبطت بالجرائم الجماعية والتي ارتكبت أمام نظر العالم وتحت سمعه: «سبرينتشا وغروزني وغرنيكا». قالوا دائما «لن يحدث هذا» وها هو يحدث «الآن وهنا في غرب المتوسط» وفي حلب مدينة الصور والمسجد العظيم والسوق القديم الذي كان، والكبة الحلبية وقلعة سيف الدولة وطريق الحرير والخوذ البيض وعمران دنقيش.