كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كان للأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، حصة وافية في هذا العمود، الأحد الماضي؛ تعليقاً على موضوع حدث الأسبوع الذي تناول “توازن الردع” بالتراضي، بين الحزب ودولة الاحتلال الإسرائيلي. واليوم أيضاً، بصدد مأساة التفجير في مرفأ بيروت، سوف يحظى نصر الله بقسط كبير من هذه السطور. الله غالب، كما يردد أشقاؤنا المغاربة، إذْ بات من النادر أن تُكتب مادّة حول لبنان الراهن من دون المرور على “السيد”؛ الحاكم بأمره في البلد، عبر سلاحه الثقيل، وسيّده “صاحب الزمان” في طهران، ونوّابه في اللعبة السياسية، وأتباعه في مختلف مؤسسات ما تبقى من “دولة” لبنان، وأبواقه في الإعلام المناصر أو الحليف أو المستأجر…

والمرء يستذكر أن نصر الله، في خطابه ليوم 21/3/2012، طمأن جمهور حزبه، و”محور المقاومة” طولاً وعرضاً، أنه “ما في شي بحمص”؛ ويومذاك كانت المدينة السورية تشهد واحدة من أشدّ عمليات النظام السوري وحشية وهمجية، وأوضحها عزماً على التدمير والإفناء والتهجير القسري والإبادة الجماعية. وبالأمس، في دحض ما تردد من احتمال أية مسؤولية يتحملها الحزب وراء تفجير المرفأ، قال نصر الله: “ما في شي لإلنا بالمرفأ”؛ مستبقاً هذا النفي بخمس مفردات تأكيدية: “قاطعاً، مطلقاً، حاسماً، جازماً، حازماً”!

الحكاية، بالطبع، ليست أن نصر الله صادق في هذا أم كاذب؛ إذْ قد تثبت التحقيقات بالفعل (إذا أفلحت في بلوغ أية حصيلة ملموسة شافية، في أيّ يوم قريب!) عدم امتلاك الحزب مخازن أسلحة أو ذخائر أو موادّ متفجرة أو مكوّنة لصناعة الصواريخ والقذائف وما إليها، في عنابر المرفأ. العبرة ليست هنا، إلا عند الذين يستطيبون طواعية غسل أدمغتهم كلما نطق “السيد” بحرف في تبرير هذه الواقعة أو تلك؛ بل العبرة في ما ذكره نصر الله نفسه، خلال الخطاب ذاته: أنه يعرف محتويات مرفأ حيفا أكثر من معرفته بالموجود في مرفأ بيروت، وهنا ذروة استغفال العقول، والكثير من التكاذب على الناس.

فإذا صحّ أنّ أيّ آدمي عاقل في لبنان يصعب أن ينكر حقيقة هيمنة الحزب على مقدرات البلد، ونفوذه الطاغي على أصعدة شتى سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، ثمّ حكومية وبرلمانية ومؤسساتية؛ فهل يصحّ للآدمي ذاته أن يصدّق زعم نصر الله، بأنه لا يعرف بوجود هذه الأطنان من نترات الأمونيوم في العنبر 12 (الذي نسي الأمين العام استعادة رقمه خلال الخطبة الأخيرة!)؛ ولا علم لحزبه وأجهزته الاستخبارية ورجالاته في المرفأ، بأنّ هذه المادّة تحديداً مخزّنة منذ عام 2014؟

.. أو كنتَ تدري، فالمصيبة عندئذ أعظم!

فإذا صحّ، هنا أيضاً، معرفة الحزب بوجود هذه الأطنان من نترات الأمونيوم، وأنّ أجهزته خير من يعلم بمخاطرها، وأنها شبه قنبلة نووية في حالة كمون؛ ثمّ إذا صحّ حرص الحزب على سلامة اللبنانيين (وبينهم أنصار الحزب وأعضاؤه بالضرورة، وكما أشار نصر الله)؛ أفلا تصحّ، استطراداً، ملامة الحزب على عدم ممارسة الضغط الكافي لإخلاء المادة من العنبر، حيث أنّ رجالات الحزب يملكون من النفوذ على مسؤولي المرفأ أمثال حسن قريطم وبدري الضاهر وشفيق مرعي، أكثر بكثير مما يملك قاضي الأمور المستعجلة أو وزير الأشغال العامة والنقل أو جبران باسيل أو حتى ميشيل عون نفسه؟

الأمر، ببساطة أكثر واتساق أعلى مع واقع الحال ومعطيات السنوات الأخيرة، أنّ خُطَب صاحب “الوعد الصادق” باتت محكومة بسلسلة اعتبارات تبريرية غير صادقة غالباً؛ تفضي إلى انحشار، طوعي تارة وقسري طوراً، في ذلك الطراز من المخادعة الديماغوجية الفاضحة، التي لم تعد تسعفها بلاغة أو مناشدة أو استصراخ، أو حتى فواصل هدوء وسكينة وطمأنينة. وهكذا توجّب على نصر الله أن يتذرع، مراراً، بنظرية الـ”ما في شي”، حين لا يكون في وسع أيّ غربال أن يحجب الشمس الساطعة.

وتلك مصيبة بدورها، في ذاتها ومنطوقها!