القدس العربي:20/8/2020

قرأتُ على موقع فيسبوك، وهو الأكثر استخداماً بين وسائل التواصل الاجتماعي لدى السوريين، بوستات كثيرة من سوريين معارضين علقوا آمالاً كبيرة على قرار المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري وشخصيات لبنانية أخرى، في العام 2005، قبيل صدوره بفترة قصيرة. ثم صدر القرار الذي أحبط أصحاب تلك البوستات وغيرهم ممن كانوا يأملون بأن يشكل صدوره نقطة انعطاف في لبنان والمنطقة، سواء من حيث إنهاء عصر الإفلات من العقاب أو من حيث تداعياته نحو تحجيم حزب الله والدور الإقليمي لإيران وبخاصة في سوريا.

الواقع أن اهتمام السوريين باغتيال الحريري وتداعياته كان كبيراً في حينه، بالنظر إلى تداخل المجالين السوري ـ اللبناني، الأمر الذي يجعل ترقب قرار المحكمة مفهوماً وإن كان تعليق آمال كبيرة عليه يعود إلى هزيمة الثورة السورية و«صمود» نظام البراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي على صدور السوريين، بحيث لم يبق لهؤلاء من بارقة أمل إلا بحدث خارجي لا يد لهم فيه كقرار المحكمة أو قانون قيصر قبله أو الثورة اللبنانية في تشرين الأول 2019 أو ما يمكن أن يتولد من تداعيات سياسية بعد الانفجار الرهيب في ميناء بيروت.

ما تغير لدى قسم من السوريين بين 14 شباط 2005 و18 آب 2020، هو أن معارضي النظام الكيماوي كانوا، في التاريخ الأول، يعدون بضعة آلاف، في حين أنهم الآن بالملايين. أما القسم الآخر المؤيد للنظام فمن المحتمل أن لا شيء يمكن أن يغير «ثباته المبدئي» وربما حجمه أيضاً. كان «الرأي العام» السوري في ذلك الوقت متطابقاً إلى حد كبير مع رأي النظام وتيار 8 آذار، مقابل المعارضين الذين تبنوا، عموماً، موقف تيار 14 آذار من الاغتيال فكانوا يتهمون نظام بشار الكيماوي بقرار الاغتيال، ولم يكن اسم حزب الله مطروحاً في تلك الفترة المبكرة باعتباره شريكاً له في القرار والتنفيذ. ربما لا يحتاج الأمر إلى التذكير بأن اتهام معارضين سوريين للنظام باغتيال الحريري ورفاقه والشخصيات اللبنانية الأخرى كان يعبر عنه في الجلسات الخاصة فقط، وليس في بيانات علنية، وبخاصة أن أحداً لم يكن يملك أدلة جنائية تسند هذا الاتهام، بقدر ما كان الأمر يتعلق بتحليل سياسي يشير إلى الجهة المجرمة، وهو ما كان حال تيار 14 آذار نفسه على أي حال. حتى حين أمر المحقق الدولي دتليف ميليس بتوقيف الضباط اللبنانيين الأربعة المعروفين بتبعيتهم أو قربهم لحزب الله ونظام الوصاية الأسدي، من منطلق الاشتباه بضلوعهم في عملية الاغتيال، بقي أمر وقوف النظام وراء قرار الاغتيال في حدود الاستدلال السياسي.

أما نظام الأسد نفسه فقد عاش أوقاتاً عصيبة كان أبرز تجلياته في ظهور بشار الكيماوي، في خطاب له على أحد مدرجات جامعة دمشق، خريف العام 2005، بوجه شاحب يزخ عرقاً غزيراً (وربما بارداً) أرغمه على الاعتراف بأنه يعاني من وعكة صحية «خفيفة» في محاولة منه لاستباق ما يمكن أن تقوله وسائل الإعلام عن وضعه المضغوط. في حين استنفر النظام أنصاره ووسائل إعلامه في مواجهة العاصفة القادمة من لبنان وتهدد بالاندلاع داخل سوريا نفسها (الإعلان عن تجمع سياسي معارض باسم «إعلان دمشق» تم في تلك الفترة، وبعد أسابيع قليلة سيعلن عبد الحليم خدام انشقاقه).

حتى صحيفة «الدومري» ـ ابنة ما سمي بربيع دمشق ـ كانت تهاجم البطريرك صفير وقادة تيار 14 آذار في تلك الفترة قبل أن يقوم النظام بإغلاقها لأنه لم يتحمل «جرعة النقد» الموجه له فيها. واستنفر النظام نوعاً من «وطنية سورية» خاصة به يعبر عنها شعار «سوريا أولاً» قائمة على الوحدة في مواجهة «الخارج» المعادي، وبخاصة لبنان ودولاً عربية. لم ترتفع في تاريخ سوريا أعلام بذلك الحجم الكبير الذي ظهر فيه في مدن عديدة بعد اغتيال الحريري، وبخاصة بعد توجيه المحقق الدولي ميليس اتهامات صريحة للنظام وأدواته في اغتيالات الشخصيات اللبنانية.

حين ظهر بشار نفسه في خطاب موجه لمجلس شعبه المنتخب، الأسبوع الماضي، وقطع خطابه بالقول إنه بحاجة إلى الجلوس «دقيقة واحدة فقط» فخرج من القاعة إلى غرفة جانبية، فسر البعض هذه الحركة على أنها لعبة للفت الانتباه، بالنظر إلى معرفة السفّاح السوري بأن أحداً غير الموجودين في القاعة لن يهتم بخطابه، وبخاصة وسائل الإعلام العالمية التي تهمه أكثر مما قد يهمه جمهور مؤيديه. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن هناك احتمالا آخر هو أن قرار المحكمة الدولية المرتقب آنذاك ربما كان يؤرقه خوفاً من شموله بالإدانة القضائية باعتباره صاحب القرار الأول أو الشريك لحزب الله، ومن ورائه إيران، في اغتيال الحريري ورفاقه والشخصيات اللبنانية الأخرى التي اغتالتها اليد الإجرامية نفسها.

15 سنة بين اغتيال الحريري وصدور قرار المحكمة اليوم، كانت حافلة بتغيرات عاصفة في كل من لبنان وسوريا. كانت حرب تموز 2006 التي أدت إلى دمار هائل في لبنان ضرورية لحزب الله والنظام الكيميائي معاً للتخلص من تداعيات الاغتيال، ولوأد الآثار المتبقية لـ«ربيع دمشق» في سوريا. لكن اندلاع ثورات الربيع العربي، في أواخر 2010، وتساقط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا تباعاً، ووصول الموجة إلى سوريا في آذار 2011، أعاد النظام والحزب وكامل المحور الإيراني إلى مواقع دفاعية.

من المحتمل أن الانفجار شبه النووي الذي ضرب، في مطلع شهر آب الحالي، ميناء بيروت، وأدى إلى مقتل عشرات اللبنانيين وتشريد آلاف الأسر، هو عمل شبيه باغتيال رفيق الحريري تقف خلفه الجهة نفسها لترويع اللبنانيين قبيل صدور قرار المحكمة الدولية. هذا مجرد تحليل سياسي أيضاً لا يقوم على أدلة جنائية، فالمجرم بات معلوماً للقاصي والداني، في الحدثين.