يحلل البروفسور والاقتصادي صاحب العديد من المؤلفات دانيل كوهين الأزمة الصحية كلحظة انقلاب الاقتصاد في نظام جديد للتنمية ودور للدولة في أسلوب تدخل اجتماعي جديد، في حوار أجرته معه اللوموند 2 / 4 / 2020

 

* في النقاش العام، من الشائع مقارنة الأزمة الراهنة مع أزمات عام 2003 (الناجمة عن وباء مرض تنفسي حاد وعنيف)، وعام 2008 وحتى أزمة 1929. هل لهذه المقارنات من معنى؟ .

– المقارنة الأولى التي وردت إلى الذهن، حين بدأت أزمة جرثومة كورونا، كانت فعلا الأزمة الصحية لعام 2003، وهي أيضا أتت من الصين، وسببت وفاة 774 نفس وأدت إلى تباطؤ في التنمية الاقتصادية العالمية من 0,2  بالمائة  إلى 0,3 بالمائة في حينه .

وهي هنا وفي المستقبل بعيدة جداجدا! وحتى قبل أن تتمدد الأزمة إلى البلدان الأخرى, كان التأثير المباشر للأزمة الصينية على باقي المعمورة قد بدل في سلم التدرج. و ضاعف الناتج المحلي الإجمالي للصين في غضون ذلك بثمانية أمثال وقفز دورها في التجارة العالمية أيضا ليمثل وحده 20 بالمائة من المبادلات !

و سمح هذا ” الفيروس الصيني” كما يسميه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, في قياس التبعية الهائلة التي  يتواجد فيها عدد كبير من  القطاعات الصناعية  للصين .

و استطاع هذا الوباء  بهذا الخصوص  أن ينهي تماما دورة اقتصادية كانت قد بدأت مع إصلاحات دينغ كسياوبنغ في الصين في بداية سنوات 1980 وسقوط جدار برلين, في عام 1989. ومن استنفاذ صدمة موجة هذه  العولمة. وأقنعت  الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب من جهة أخرى الصينيين أنفسهم بأن عليهم  تقليص تبعيتهم  بالنسبة للولايات  المتحدة.

*ألم تكن أزمة 2008 سابقا تعبيرا أو مظهرا لهذا  النضب أو الاستنذاف؟

 – كانت أزمة 2008 قد ولدت من مشروع جنوني من قبل البنوك التجارية الأمريكية  الكبيرة قام على أساس  منح قروض عبر وسطاء من  الداخل  لعوائل أوضاعها غير متينة وقابلة  للعطب, عملا بالتسهيلات ذائعة الصيت. وكانت قد حقنت منتجات جدا سامة في المنظومة المالية العالمية مسببة انهيارا عاما  في  الأسواق.

وأتى جواب الحكومات في تلك الفترة على مستوى الأزمة. ونذكر جيدا اجتماعات ال ج 7 و اجتماعات الج 20 , والتي سمحت بتوجيه رد سريع وقوي, منسق وعالمي, و اليوم لا شيء من هذا القبيل مع شخصيات مثل دونالد ترامب, وجايير بولسونارو , وبوريس جونسون يديرون  ظهورهم إلى ا لمقاربة المتعددة  الجوانب.

و في تلك الفترة, تعلق الأمر بمواجهة أزمة كان مركزها الرئيسي مثل أزمة عام 1929, مالي , وتحاشي النتائج التي عرفناها في سنوات  1930, يعني عدوى الاقتصاد الحقيقي بالانهيار المالي وخيبة الأمل . وتوصلنا إلى ذلك تقريبا : رغم موجة صدام أولية أيضا عنيفة كما في عام 1929, والانحسار/ التباطؤ العالمي لم يدم في النهاية سوى تسعة شهور.

 

والأزمة الاقتصادية الحالية هي في الحقيقة مختلفة بعمق عن تلك التي في عام 2008 أو في عام 1929. وهي على الفور أزمة في الاقتصاد الحقيقي. والرهان ليس كالبارحة , في البحث  عن دعمها بتدابير عرض أو طلب. وما ينتظر من الدولة هو, وللمفارقة أن تسهر على أن يغلق عدد هام من المؤسسات أبوابهم. وبسبب تدابير الحبس , ينبغي أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي ! والدور الهام للسياسات العامة في هذه المرحلة، ليس إطلاق أو إنعاش الاقتصاد، ولكن ضمان أن يبقى في حالة سبات بصورة مرضية تسمح له بالانطلاق سريعا فيما بعد. وهي ليست تدابير من نسق اقتصادي جمعي نطلبه منها، ولكن من نسق اقتصادي إفرادي.

و المقصود ليس اطلاقا  تدابير  لدعم  الطلب – سوف لن تكون ضرورية إلا بعد أن يكون الوباء قد  انتهى, لأنه كيف يمكن لمستهلكين محجوزين في بيوتهم  أن يشتروا من مؤسسات متوقفة عن العمل ؟ تدابير العرض ضرورية, ولكن  في القطاعات الرئيسية من أجل حل الأزمة الصحية , سواء في سير العمل  في المستشفيات وطبابة المدينة , وفي المؤسسات المنتجة للأقنعة , ووسائل الاختبار, وأجهزة  التنفس.

“لا ضرورة لمنح او توزيع  قروض , ولكن دعم مباشر ( يتعلق بالميزانية ) يساعد خزينة المؤسسات , ودخل الأسر “.

وبالنسبة لباقي الأمور الاقتصادية ,  ينتظر من الدولة  على  الخصوص تدابير دعم لكل مؤسسة ,  ولكل فرد فاقد  الفعالية والنشاط. ولا لزوم لمنح وتوزيع قروض , ولكن دعم ميزاني ( متعلق بالميزانية ) مباشر يساعد  خزينة المؤسسة, ودخل الأسرة. و بهذا الخصوص , المبدأ سهل , ينبغي أن يكون العجز بكل بساطة مساويا  للخسارة في النشاط  بسبب الوباء. وإذا تابعنا الاحصائيات التي تنشرها  “الإنس ” كل شهر حجز أو حبس يكلف ثلاث نقط نمو خلال السنة . وهو أيضا رقم الخسارة  العامة المرافقة للأزمة بصورة مثالية. وإذا استمرت الأزمة شهرين , سوف تكون  الضعف .

 

ولأن الأمر لا يتعلق بأزمة قرض, سوف لن يكون هناك أسوأ من الإجابة على هذه الأزمة فقط بوسائل أزمة 2008 مدارة من قبل البنوك المركزية – خفض المعدل/ النسبة المئوية , تسهيلات نقدية , آلية ثبات/ توازن – حتى ولو أنه من الضروري طبعا تحاشي أن تتحول أزمة الاقتصاد الحقيقي إلى أزمة مالية .

والوسيلة المفيدة هي وسيلة الميزانية , لكن جميع الدول لا تملك في هذا المجال نفس هامش المناورة. وأفكر خصوصا في إيطاليا. ومساعدة إيطاليا على سبيل المثال لتتمول باللجوء إلى الآلية الأوروبية في الدوام و الاستقرار، سوف يكون شيئا جيدا , وسيسمح لها بتخفيض كلفة التمويل. لكن على هذا المستوى أيضا، إيطاليا ليست بحاجة إلى قرض ولكن بحاجة إلى دعم ميزاني. (متعلق بالميزانية)

والميزانية الأوروبية التي تمثل بعد كل حساب 1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي , يتوجب عليها أن تمول مباشرة سير عمل المستشفيات الأكثر إصابة. والنقاش حول ” صعود جرثومة  الكورونا “, قرض أوروبي مستعجل , هو بهذا الخصوص حاسم. وسوف تسمح لأوروبا أن تحقق مباشرة تحويلات هامة في الميزانيات , بتكلفة تخفض فيما بعد بعض النفقات من أجل دفع فوائد القرض الجاري..

*تعلن الولايات المتحدة عن اطلاق  خطة ب 2000 مليار دولار( 1825 مليار يورو ) , قسم كبير منها  سوف يذهب  مباشرة إلى حسابات المؤسسات و الأسر, مع احتمال ترك ثقب كبير في الميزانية . الهذا النوع من التصرف ذهبت  في  تفكيرك ؟

-هذه الخطة  تمثل 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي وهي  بالفعل  هامة. لكن  جزئيا, و فيما  يتعلق بالدعم  للأسر , توزع على غير هدى:  1000 دولار للبالغ و 500 دولار  للطفل لجميع الأسر التي  دخلها أقل من 78000 دولار بالسنة, لكن دون اعتبار لوضعهم  الحقيقي.

دولة عصرية , دولة من  القرن الحادي والعشرين يتوجب عليها امتلاك إمكانية اجراء القياس حسب الحالة للاقتصاد الجزئي ” الجراحي” لتوجيه المساعدات مؤسسة مؤسسة , وفردا فردا .ولدينا الآن  السبل من أجل  ذلك , كالاستقطاع في المصدر , والاعلان  عن  ضريبة القيمة  المضافة والأعباء  الاجتماعية التي  تدفعها  المؤسسات , والتي تسمح في  توجيه المساعدات  نحو  أولئك الذين  يتحملون  الأزمة  في أعنف  صورها.

في مقابل هذه الامكانية يوجد, بكل تأكيد, احتمال رقابة عامة شاملة , لأننا سوف نلاحظ أن الدولة قد امتلكت  اكتسبت  نفس إمكانيات  الاعلام – والمراقبة – لكامل الجسم  الاجتماعي بالتساوي مع غوغل, آبل, فاسبوك, أمازون .

*هل تشير هذه الأزمة إلى نهاية الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة ؟

-هي بكل  تأكيد النهاية, أو بداية تراجع الرأسمالية المعولمة التي عرفناها  منذ أربعين سنة, أي إلى البحث المتواصل عن كلفة  منخفضة مع انتاج دوما أبعد. لكنها تشير أيضا إلى تسارع  رأسمالية جديدة , الرأسمالية الرقمية أو النت ..

ومن اجل ادراك  النتاج والتهديدات الجديدة التي تضمرها  هذه  الرأسمالية الرقمية , ينبغي  العودة إلى الوراء , إلى الزمن الذي كنا نفكر فيه أن عملية نزع التصنيع في البلدان المتطورة سوف تقود إلى مجتمع  خدمات. لا سيما أن الفكرة المنظر لها من قبل الاقتصادي الفرنسي جان  فوراستيي( 1907 – 1990 ), كانت تقول  أن الناس سوف تعمل وتنشط ليس في الأرض ولا في المادة ولكن في الانسان  نفسه : وسوف تصبح العناية ,و التعليم, و التكوين, و تسلية الآخرين, القلب في اقتصاد أخيرا انسانوي. و كان هذا الحلم الما بعد الصناعي  محررا ومثيرا للإنشراح  والسرور….كما يشير له فوراستيي , وام يكن ابدا مرادفا لتنمية.

“الترقيم أو النت  لكل ما يمكن  أن يكون قابلا للترقيم هو وسيلة رأسمالية  القرن الحادي والعشرين للحصول على تخفيضات جديدة  في الكلفة ..”

وإذا كانت قيمة الثروة /المنفعة هي الزمن الذي أقضيه في العمل لصالح الآخرين , هذا يعني القول أيضا أن الاقتصاد لا يمكنه أبدا النمو إلا إذا زاد وقت العمل بصوة لا متناهية.

ووجدت الرأسمالية حلا نموذجيا لهذه ” المسألة”, في الترقيم ( النت ) بدون  حدود. إذا كان الكائن الذي هو أنا يمكنه أن يتحول إلى مجموعة معلومات , معطيات يمكنها  ان تدار بالأحرى عن بعد عوضا عن  وجها لوجه , يإمكاني أن أعالج , وأن أتعلم , وأن أتسلى من دون أن أكون بحاجة إلى الخروج من مسكني ….أرى أفلام على النت فليكس بالأحرى  عوضا عن الذهاب إلى قاعة  العرض ( السينما ), وأعالج دون  الذهاب إلى المستشفى …الترقيم لكل ما يمكن أن يرقم هو الوسيلة  بالنسبة لرأسمالية القرن  الحادي  والعشرين للحصول  على  تخفيض جديد في  النفقات…..

 

السجن أو الحبس الشامل  الذي نشكل  نحن غرضه يستخدم هذه التقنيات بكثافة : العمل عن بعد, التعليم  عن بعد, التطبيب عن  بعد…. وربما سوف تبدو هذه الأزمة الصحية, بالرجوع إلى الماضي , كلحظة تسارع لهذا التعبير الافتراضي عن العالم . كنقطة إنعطاف في العبور من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية رقمية , ولازمتها الطبيعية , انهيار الوعود الإنسانية للمجتمع مابعد الصناعي.

 

أجرى الحوار: أنطوان روفيرشون

ترجمة المهندس : عبد الحميد الأتاسي