معبد الحسون

معبد الحسون

موقع الرأي / خاص

تفترق الثورة السورية عن كثير من نظائرها من الثورات المشتهرة في التاريخ، والتي احتلت موقع الأمثولة التي يُستشهَدُ بها ويقاس عليها في ماضي الإنسانية، كالثورة الفرنسية أو البلشفية أو الصينية أو الكوبية أو الفلسطينية؛ ومعها معظم حركات المقاومة الوطنية المشهودة في التاريخ.. هذا الافتراق يمكن رصدُه في نقطتين أساسيتين:
النقطة الأولى أن الثورة السورية لم تفارق لحظتها ومرحلتها البدئية الأولى حتى اليوم، وبعد مرور ست سنوات على انطلاقتها، هذه اللحظة الغضبية والاقتلاعية التي كانت نزوعاً عارماً إلى اجتثاث الماضي من جذوره، مع مايقتضيه هذا النزوع العام من التمهيد المتدرج نحو تأطير الحركة العامة على الأرض في معيار نظري واضح، ومُفَصَّلة نظرية وسياسية وإدارية ترمي إلى بناء تصور لما تهدف إليه الثورة ـ شأن كل الثورات التي سبقتها في التاريخ ـ بحيث يمتلك الثوار تعريفاً واضحاً عن أنفسهم قبل كل شيء، وعن مستقبلهم وما ينشدونه من ثورتهم. لقد أنتج الغضب العام من النظام اختلاطاً غير مسبوق بين السياسي والعسكري، وبين المعرفي العلمي والفلسفي، وبين المجتمعي والأقوامي والهوياتي وبين الديني، وبين “ما يجب” أن يُنجز و”ما يتمنى” كلُّ فردٍ أن ينجزه، وبين اليقظة والأحلام، وبين الوطنية والانتماء وجميع أضدادها المُتَصوَّرة.. هذا الاختلاط ربما أحدث حالة تسمم في الجسم السوري تشبه اختلاط الدم بالبول، أو اختلاط الخلايا بمفرزات الطعام جسمانياً.. الأمر الذي أدخل سوريا بأسرها في حالة من التدهور الصحي الحاد، ورتب فشلاً وانهياراً شاملاً في العضوية، واغتراباً روحياً لدى الخاصة والعامة.
والنقطة الثانية هي أن الثورة ابتدأت بلا مرجعية صارمة وواضحة يُرجَعُ إليها، ومضت تسعى وتتحرك بضع سنين في كل الاتجاهات والدروب دون أن تكتشف، أو يكتشف أحرص القائمين عليها أن حالة فقدان المرجعية هو الطارىء الاستثنائي الذي يمكن احتماله لأسابيعَ أو أشهر، وفي لحظات عبور الفوضى العامة والعشوائية التي يتعذر ضبطها، لا أن يكون هو الأصل والقاعدة التي تُقَعِّدُ قوانين الحركة وتحيلها إلى مبدأ عام ومسلك شبه نهائي، قرر الجميع السير فيه مكرهين أو مختارين. بيد أن تجارب كل البشرية السابقة لم تشفع يوماً ولو بمثالٍ واحد عن عِرامٍ عام بحجم الثورة السورية، يشبه عشرات القطارات والباصات التي تتحرك في ساحة أو ملعب موحد وهي ترتطم ببعضها بعنف، وتنتحر في فضاء مفتوح دون ضابط أو قاعدة توجيه مسؤولة عن هذه الفوضى الكونية غير المسبوقة في أي مثال أو مقاربة ولو شكلانية عرفها الإنسان منذ فجر الحضارة وحتى اليوم. حتى بات موضوعياً ومنطقياً في الثورة السورية أنّ كل سياق من سياقاتها العامة يمكنه(مع فقدانها لأية مرجعية ولو شكلانية)، أن يُقاد على حدة، ومن أي طرف داخلي أو خارجي محتمَل.. بل أكثر من ذلك لو أن بعض أعدائها الذين هبت لتدك عروشهم وتحطم كياناتهم تنطع لقيادة سياق أو تيار أو مؤسسة فيها، لما بدا ذلك منكراً أو مستغرباً في المشهد العام ولما ظهر مستهجنا او شيئا غير مألوف في الشكل والمضمون. ،(لقد وقع أكثر من دليل على ما أقول، ولست أفترض مثالاً مشتطاً ولا سابقة له)، حتى بات عادياً أن يتولى بعض أهل الثورة وأن يقودهم ويقرر حركتهم على الأرض السعودية وقطر وتركيا ومصر مرسي ومصر السيسي والولايات المتحدة وإسرائيل والعراق ولبنان وإيران وروسيا والإرهاب المحلي والدولي وأهل الجرائم المحلية العادية والجرائم السياسية الكبرى وتجار السياسة وبائعو الأمل بالمجان وأمراء الطوائف وأمراء الحرب وأمراء القوميات الحية والإثنيات المنقرضة.. وكثير ممن لايدرى ماهو عمله أو وظيفته في هذه الثورة.. فضلاً عن ابن تيمية والحنابلة والمرجئة والجبرية والأشاعرة، ومشايخ الفقه والكلام والفلاسفة الأغبياء والفلاسفة الأذكياء.. كلٌ من هؤلاء اسهم بسهم في المشاركة وفي التدخل في التوجه العام للثورة السورية.. كل ذلك، مع حالة فقدان أية مرجعية للثورة؛ بات حال الثورة وتاريخها مستأنفاً وطبيعياً، وبات فقدان البوصلة والسير في كل اتجاه ممكن(حتى لو كان اتجاهاً حُلمياً أو رؤيوياً) ممتدحاً ومشكوراً لااستيحاش فيه؛ ناهيك عما يشيعه من إلفة وطمأنينة.
أتصور مسبقاً أن كثيرين سوف يستبقون الجواب على هاتين النقطتين بذرائع التدخل الخارجي والإرادة الدولية المتغولة(والتي وقفت جميعها على مراتب مختلفة وكتل متنوعة ومتمايزة؛ إما إلى جانب النظام والثورة المضادة بمنتهى الوضوح، وإما أنها لم تقف في المشهد العام ومآلات النتائج في صالح الثورة)، لكن هذه هي بالضبط حجة محامي الدفاع الفاشل الذي يتولى نيابةً عن موكله وصف الجريمة وإقرارها دون أن يكلف نفسه جهداً، ولو يسيراً، في الدفاع عن موكله أو تثبيت الظروف المخففة والقاهرة لواقعة الجريمة.
في البلاد التي تفتقر الى الأمان الباطني تحدث عملية غزو جماعية، وبأشكال متعددة نحو ذلك الأمان الفردي المنشود، وما تمظهرات الشللية والشللية المضادة، والتي تحاول أن تخلق فعلاً إرادوياً من طاقة ناضبة إلا جزءاً من كثرة الطلب على ذلك الأمان المفتقد، والذي تعجز عادة الدولة الفاشلة والثقافة المترمدة أن توفره للسكان الذين آثروا العودة(لاشعورياً) إلى عشيرتهم الحقيقية باسم الثورة، أو إلى عشيرتهم الافتراضية المتصورة في الذهنية المتخيلة، والقابعة في الظل اللاشعوري، وهي نظيرة تلك القبيلة البدائية كمحتوى يبعث الالتصاق بها بعض الدفء والأمان، وكبديل مضمون(لكنه مخادع) يختبىء وراء شعارات براقة تكتنفها الحشمة والحياء والتبريرية الخجولة في الغالب. أحياناً يسمي بعض هؤلاء ماهم عليه بـ”الثورة “، وخصومهم يطلقون عليها مسميات قريبة من مفردة الشلة أو مرادفاتها، ودون أن يعفي الواقع كلا الطرفين من فقر مضمون ماهم عليه.
وفي الحالة الشللية لانودع الوعي ونتنكر للعقل كما يُظن ويُعتقد، وإنما نستمسك بهما ونحفزهما ونرفعهما إلى درجة التوتر الأقصى والتحفيز البالغ وذلك لغاية الانصراف والنأي عن تلك الطفولة الطبيعية الساكنة فينا والتنكر لها، كما يتم التضحية غالباً بذلك الكائن الساذج الساكن فينا على مذبح الرمزيات، تماماً وكما يحدث في “استقلاب الخافية الجمعية” حين يتم التضحية بالأضحية لصالح استنقاذ الإنسان، وهو في الميثيولوجيات القديمة يساوي على المستوى الرمزي التضحية بالخافية لصالح الواعية(توهماً من الإنسان أن اللاشعور “حيواني الطبيعة”، وأن الشعور “إنساني الطبيعة”)، وكما تتماثل مع التضحية بالإنسان الأول،(أبينا آدم الفطري الساذج)، على مذبح ارتكاب جريمة أكل التفاحة، ودون أن يدرك في النهاية ماهي جريمته المتعينة والمخصوص بها التي تسببت في إدانته.
تُعَرَّفُ الشلة في السياق الطبيعي بأنها تجمع لأفراد لا مستقبل لهم، وهو استخدام تعريفي اعتيادي في وصف الخروج عن المجتمع والتصور العام، من خلال فكرة مُتَخشبة عن نفسها، ويحدث التوجه إلى مجتمع الشلة في سياق مصطلح”نزعة”، للتعبير عن توجه باطني بالكلية لتجميع طاقة ناضبة، لكنها تعمل باستقطاب حاد لمساندة الشلة او الاحتماء بها وتبني قضيتها. ويثير التعجب أحياناً أن هذا الموضوع ظل حقلاً من حقول السياسة فحسب، ولم يرتقِ في الذهنيات إلى مستوى يجعله حالة من حالات المعرفة، إذ لا يمكن لأية نية تتجه إلى فحصه والحكم عليه أن تفلح دون تعريفه بوضوح من وجهة نظر محض معرفية وعلمية جادة ومحايدة..
ومعلوم أن الطاقة النفسية ليست بضاعة مطلقة أو رأسمالاً لا نهاية لنفاده، وأن الحكمة في تصريفها والتصرف بها يقتضي ذلك التوازن القائم بين الظل والنور في الشخصية الإنسانية(والظل هو ذلك الشخص الآخر الذي يقبع في داخلنا ويسكننا دون أن نتعرف عليه في وعينا، أو نعترف به من أساسه)، وبين تلك التجاذبات المدروسة والمحكمة التوافق بين الواعية والخافية.. ولئن كان الجانب المصطف مع النظام قد بدا أكثر انسجاماً مع نفسه حين رفع كل مكونات “ظله” إلى وضوح الواعية في وحدة منسجمة ومتوافقة، فإن الطرف الآخر ـ الثائر، أو المسمى ثائراً ـ بدا وكأنه قد عانى منذ البداية تشققاً وتصدعاً في الخافية الجمعية، وذلك حين اطلق نفس “النماذج البدئية” التي تتحكم بالغريزة، ودفع بها إلى نقطة الوعي، فبدت جلية وعيانية تحت الضوء أكثر، حتى أن كثيراً من الثائرين قد وقفوا يتساءلون فيما يشبه الحيرة:”أين يقف الله والإسلام من هذه الثورة فإنني سأجد نفسي واقفاً”.. مقابل شريحة واسعة كذلك من الثوار الذين رددوا وبنفس الآلية تقريباً:”الله لاعلاقة له بهذه الثورة، ولا يقف في أي جانب منها”..هذا مايمكن أن يُعَرِّفَ ويكشف الانشطار والتضاد في الظل، أي الخافية الجمعية للنفس السورية عموماً، كما ان استهلاك الطاقة النفسية بالنسبة لكلا الطرفين وتبذيرها بدون حساب، جعل السياسة والمجتمع(أو مقدار الوعي المطلوب للتكيف معهما)وكأنه افتقر ونضب، على الأقل أمام القوى الأخرى المتابعة إقليمياً ودولياً، والتي بات يصعب عليها أن تتعرف في أي طرف من أطراف الصراع الدموي المستمر: من هو الطرف الطيب والجيد الذي يجب أن تتعاطف معه.
إن خطر افتقاد تخيل الشر في ذواتنا، سواء من طرف السلطة الديكتاتورية الفاشية أو من طرف المعارضة والثوار، يكمن فيه خطر افتقاد الظل نهائياً من الشخصية، فهو في حال أدركنا مغزى استخراج “النماذج البدئية” الكامنة في قاع الخافية يُعَدُّ أبلغ وأجلى التعبيرات عن “القبيلة البدائية” من وجهة نظر أحد أفرادها، والتوحد والاندماج الكلي مع شخصية خيالية للعالم رسمتها العقلانية الضرورية والمعرفة المسبقة، وكانت مسؤولة عنها. هذا الرسم الخيالي للشخصية معروف وشائع في سوريا بالنسبة لجميع الأطراف، حتى أن تمني إبادة ومحق العدو(أو إبادة الجميع بأسرهم ماعدا الشلة) بات هو الحالة المثالية والشائعة.
قطبية التفكير والشعور تفقد اتصالها شيئاً فشيئاً بقطبية “الظل”، وهكذا تتحول الشخصية إلى شيئين أو شخصين، كلٌّ منهما ينبذ الآخر ولا يعترف به أو يتعاطف معه، مما يرتب مستقبلاً آثاراً نفسية سيئة جداً وعميقة الأثر في الشخصية. وعلى مدار قرن ونيف مضى، أدرك علماء النفس أن هناك خافية توازن الواعية وتنظم عملها(تلك الواعية التي تمتلك خاصية تجميل الشر، وهو الأمر الذي تعتذر الخافية عنه دائماً)، ولقد قامت البراهين التجريبية للطب النفسي المؤكِدة على هذه الحقائق التي باتت في حكم البديهية، ومع ذلك فإن الإنسان يبقى ماضياً في عمله في شبه إنكار لظله، أي لمجموع قوى الخافية ونماذجها البدئية، ويتصرف على الدوام باعتبار شخصيته فرداً لا زوجاً..
لا تنتحر الثورة إلا حينما تنتحر الفكرة منها والمبدأ.. ويحضر في ذاكرتي الآن ستالين على سبيل المثال لا الحصر.. إذ حين كان يضحي بعشرين مليون من أبناء شعبه لم يكن يخطر بباله قطعاً أنه خارج ثورته بشوط بعيد، بل لعله كان يحسب أن ماهو عليه هو الثورة بعينها دون زيادة أو نقصان، فهو في الحقيقة يحيا في كهف معتم يشعل فيه شمعة، تتراقص خيوط نورها والظلال من حوله، وليس يُعلم أين حدود خيط النور حوله من خيط الضياء.. فلا يبقى للمرء إذن من فضلة أمنه الباطني إلا أن يفتش في ظلام الكهف عن بقايا خيط النور ليأوي إليها..
يعاب على السياسة كثيراً أنها ترتفع بخطابها المعلن غالب الأحيان كي تقسم العالم من حولها إلى حقلين: حقل يقع فيه الأشخاص الجيدون فقط من وجهة نظرها، وحقل يقع فيه الأشخاص السيئون فقط من وجهة نظرها أيضاً، وهو أمر لا يليق بالعلم أن ينحدر إليه، مثلما يجدر بالمعرفة الحكيمة والمحايدة أن تربأ بنفسها عنه. هذا مايفسر لنا لماذا كانت حالات الٌأقوامية والطائفية والعصبوية الدينية وغير الدينية، أكثر المفردات تداولاً في واقع كالواقع السوري، وأعم مفردات الضجيج العام، الشعبي والثقافوي، ولكن دون اقتراب ملموس من الإبانات الحادة التي يكشف عنها ذلك الخطاب العصبوي.
أحياناً تأكل الثورة أبناءها لا لأنها جائعة، ولكن لأن إحدى تجلياتها عليهم في صورة تكون على شكل أم غير رؤوم تخشى أن تبتلعهم الثورة المضادة.. هكذا لا يبقى في الكهف الدامس إلا الظلال التي نحسبها نوراً وهي تنشطر من حولنا إلى أشباح.. والحال أن رجع مختلف الأفهام التي تحاول تفكيك خطاب “الشلة” المُهَدِد بتحولها إلى الثورة المضادة ليس حادثاً جديداً لا سابقة له في تجارب الشعوب.. هذا الرجع العام الذي يهمل الجانب النفسي”السايكولوجي” من حيث هو المؤهل الوحيد القادر على تفسير الظاهرة بعيداً عن الخطاب السياسي،(والذي هو تقريباً السائد الوحيد)، من شأنه أن يعاير المسألة بكونها”خطاباً ثقافياً”لا غير.. مع توهمنا بأن التأثير الثقافي المرتكز على تغيير هذا الخطاب كفيل بنزعه واجتثاثه.. تماماً، وكما لو أننا نبذلُ جهداً محدداً في شفاء مريض السرطان بتزويده ببعض الحكمة النافعة والوصايا الكفيلة بالشفاء من المرض، أو قدَّرنا أن معالجة مصاب بجلطة دموية في القلب يمكن أن يحدث له الشفاء ببعض الكلام الجميل والنصائح المجرّبة التي يوصى بها عادة في العلاج من المرض.
15/3/2017