الطائفية السياسية في سورية – القسم الاول.. ياسين الحاج صالح

الطائفية والسياسة في سورية 1

‏25 مايو، 2014‏، الساعة ‏12:16 مساءً‏ 

في السيرة الذاتية التي صدرت مؤخرا للمرحوم منصور الأطرش بعنوان “الجيل المدان” أشارت محققة الكتاب وابنة الكاتب أنها كانت تمازح أباها أيامه تدوينه السيرة، متسائلة: “وهل ستنشر هذا، هنا؟!” فكان يجيب “دعيها الآن في الأدراج، وحتى يحين وقتها نرى ما يمكن أن نفعل بها”. ورغم وفاة صاحب السيرة، فقد آثرت الابنة في النهاية، وتحت “إصرار” أخيها، أن تحذف فقرات أو جملا أو كلمات من الكتاب وتثبت مكانها ثلاث نقاط بين قوسين (…)[1]. ويلحظ القارئ أن علامة الرقابة والحذف هذه تتواتر بعد عام 1963، العام الذي استولى فيه حزب البعث على السلطة، وتولى فيه منصور الأطرش، أحد أبرز رجال الصف الثاني من مؤسسي البعث وابن قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، وزارة العمل طوال نحو 15 شهرا. ومن السياق يستدل القارئ أن الحذف طال بخاصة ما يمس السلطة والعسكر[2] وما يطل على مساحة تقاطع الدين أو المذهب مع السياسة، أي الطائفية[3].

يعطي الحذف هذا فكرة عن نوعية تعامل السوريين، نخبهم أكثر من غيرها، مع الشأن الطائفي في بلدهم: يترك في الأدراج لأن وقته لا يحين أبدا، أو لأن “ما كل ما يكتب ينشر”، على نحو ما قررت ابنة منصور الأطرش.

ويتطرق الأطرش مرارا في سيرته إلى ما أثاره زواجه عام 1956 من متاعب بسبب اختلاف الدين بينه وبين زوجته. لكننا لن نعرف أبدا ما دين زوجته أو مذهبها، ربما نخمن فقط من اسم أحد أشقائها، ولعلنا ما كنا لنعلم ما دينه هو أو مذهبه لولا أنه ابن سلطان باشا الأطرش، قائد “الثورة السورية الكبرى” (1925- 1927).

ويسكن الضمير الفكري والسياسي للسوريين إلى عقيدتين تحرسان كبت سيرة الطائفية هذا. ثمة أولا العقيدة القومية العربية التي ترى في ذكر الطائفية ما يعكر وحدة الأمة ويضعف جبهة الصراع ضد الأعداء. والعقيدة الشيوعية التي ترى في التطرق إلى الطائفية تشويشا للصراع الطبقي وصفاء الاصطفافات الطبقية. والحال إن من علائم تعفن تفكير دعاة العقيدتين المذكرتين أنهم أكثر فلاحا في كبت مقاربة ظاهرة الطائفية منهم في التصدي لممارستها وحضورها في الحياة العامة. وسيبدو أن مقاربات تحليلية للظاهرة هذه أخطر من سياسات تكرس الطائفية وزعامات لا تكف عن توسلها لصون مواقعها الامتيازية. هذا بالطبع تفكير سحري يتوهم أن ذكر الشيء يخلقه ويدنيه منا، ومن شأن تجنبه تاليا أن يقضي عليه، على نحو ما نبعد مرض السرطان المخيف بتسميته “هداك المرض”. وحتى حين أخذ يتبين أن الكبت المفروض على سيرة الطائفية يتسبب بنوع من الظلامية السياسية ويناسب نمطا استبداديا لممارسة السلطة، وأن العقيدتين المذكورتين ارتدتا إيديولوجيتين لتمويه الواقع، ثابر دعاتهما على سياسة النعامة.

ليس كل هذا تواطؤا. في جانب منه خوف من الطائفية وافتقار إلى أدوات نظرية وعملية للسيطرة عليها، وخشية من صعوبة السيطرة على اندفاعاتها البركانية. لكن سياسة النعامة لا تحل أي شيء، ترجئ المشكلات فقط لتصير معالجتها أصعب في المستقبل، وليمسي التحلل أو التفجر اللاعقلاني الشكل الوحيد لحلها.

ولعل من شأن وضع الظاهرة الطائفية في سياق تاريخي، على نحو ما نحاول فعله هنا، أن يكون الأجدى من أجل فهمهما والإحاطة بها من جهة، ومن جهة أخرى من أجل تفادي التسييس المتسرع لها، الموسوم دوما باعتبارها ظاهرة زمن قصير أو نتاجا حصريا لسياسات راهنة.

تكوين سورية

تكونت سورية إثر الحرب العالمية الثانية لتكون “دولة ما تبقى”[4] بعد أن كان لبنان تمايز عنها واستقل نهائيا في دولة “لبنان الكبير” في عام 1920، وبعد قيام انتداب بريطاني في كل من فلسطين والأردن. يمتزج في التجربة المكونة للبلد انفصال عن الامبراطورية العثمانية، واحتلال من قبل قوة غربية هي فرنسا، وقطع صنعي لدارات اقتصادية واجتماعية وبشرية عريقة. لقد فصلت حلب مثلا عن مجالها التجاري والاقتصادي في الأناضول والموصل وعن مينائها الطبيعي اسكندرون[5]. وكانت حيفا ميناء دمشق أكثر من بيروت وتجارتها أكثر مع فلسطين والحجاز[6]. وهكذا كان على البلد ذي القطبين أن يطور تفاعلات داخلية تفوق تفاعلاته مع محيطه، الأمر الذي لم يكن ميسورا، واستمرت التجاذبات الدمشقية الحلبية حتى الوحدة السورية المصرية عام 1958، وتمفصلت بين الاستقلال 1946 والوحدة مع وقائع “الصراع على سورية”[7].

ومن وجهة نظر اجتماعية دينية كانت سورية تشبه المشرق الشامي العراقي، “الهلال الخصيب”، في كون سكانها متعددون دينيا وإثنيا ومذهبيا[8]. وبينما توزع المسلمون السنيون والمسيحيون على مناطق متعددة من البلد، فإن الأقليات المذهبية الإسلامية الرئيسية الثلاثة، العلويين والدروز والاسماعيليين، كانت أكثر تركزا في أنحاء جغرافية بعينها. ولن يقيم متحدرون من هذه الجماعات المذهبية في المدن التي كانت حكرا لسنيين (مهيمنين) ومسيحيين (قدماء الاستقرار في المد)، حتى النصف الثاني من القرن العشرين، وبصورة أخص بعد الحكم البعثي عام 1963.

ولم تكن وحدة سورية الحالية بعد تقسيمها ثم توحيدها ثم تقسيمها ثم توحيدها ثم الدفع نحو تقسيمها مرة ثالثة أيام الفرنسيين[9]، لم تكن شيئا بديهيا خلافا لما توحي به الإيديولوجية الوطنية اليوم. لقد كان ثمة تيارات “انفصالية” أو استقلالية في “الدول” التي أقامها الفرنسيون، بالخصوص التي أقيمت على أساس طائفي[10]. بالمقابل لم يكن استقلال لبنان عن سورية، بحدوده الحالية على الأقل، شيئا بديهيا. بل لعل توحيد سورية الحالية عام 1922 (كانت مقسمة لأربع كيانات: دمشق وحلب وبلاد العلويين ودولة الدروز) وعام 1936 (كانت مكونة من دولة علوية ودولة درزية ودولة سورية التي تجمع حلب ودمشق) كان ثمنا لتقبل استقلال لبنان[11] من قبل النخبة الوطنية السورية التي قاومت الفرنسيين وفاوضتهم تحت راية العروبة والوحدة السورية. وكانت إعادة ربط “دولة الدروز” بسورية في نهاية عام 1936 موجهة ضد احتمالات انضمامها إلى إمارة شرق الأردن الهاشمية التي أقامها الانكليز عام 1922[12]. فضلا عن أن التيارات الوحدوية كانت أوسع عموما من التيارات الانفصالية، وإن كانت الحدود بينهما مائعة، وإن كان يحصل أن يتحول البعض من هذا التيار إلى نقيضه[13].

القصد أن سورية بنيت من صلصال شبه سائل، وفي ظروف تاريخية عالية الحركية. إدراك ذلك لازم للقول إن وحدة البلاد وبناء وطنية سورية عابرة للطوائف ومتعالية عليها رهان يتعين الفوز فيه مرة تلو المرة. وهو لازم أيضا من أجل الاضطلاع جديا بـ”اصطناع” سورية، والعمل على صنعها دولة حديثة تضمن مساواة مواطنيها وازدهارهم. انعدام الوعي التاريخي، بالمقابل، في صفوف النخب السياسية والثقافية السورية يصنع مزيجا غير مناسب بين اعتبار الوحدة الوطنية معطى طبيعيا لا تاريخيا وبين تعريضه برعونة للمخاطر في السياسات العملية.

لمحة عن التكوين الاجتماعي الثقافي للمجتمع السوري

العلويون الذين يشكلون ما بين 10 و12% من السكان[14]، يقيمون أساسا في منطقة الجبال الساحلية التي تسمى جبال العلويين غرب البلاد، وبدرجة أقل حول سهل الغاب شرق سلسلة الجبال هذه، وأعداد أقل أيضا حول مدينتي حمص وحماة. بيد أن نسبة عالية من العلويين تقيم في المدن اليوم، بالخصوص في دمشق العاصمة وفي اللاذقية الساحلية التي يشكلون اليوم أكثرية سكانها المطلقة اليوم، وفي طرطوس الساحلية أيضا، وكذلك حمص وسط البلاد. أما الدروز، قرابة 3% من السكان، فيتركزون جنوب البلاد في جبل الدروز الذي سمي زمن الثورة السورية الكبرى (1925- 1927) جبل العرب، واليوم في دمشق أيضا. بينما يقيم الاسماعيليون (نحو 1%) في بلدة السلمية وسط البلاد ومنطقتي مصياف والقدموس غربها.

والمجموعات الثلاث عربية اللغة، نبتت مذاهبها على الجذع الحضاري الإسلامي، لكنها متمايزة إلى حد متفاوت عن صيغتي الإسلام المتنافستين على الشرعية، السنية والشيعية. وثلاثتها متفرعة أصلا عن التيار الأخير. وعقائد الثلاثة “باطنية”، محجوبة عن جمهور غير المنتمين لها، بل وعن عامة جمهور كل منها. يحتفظ بها رجال دين حريصون، ويُنسّبون إليها الرجال فقط بعد التزامهم بالكتمان[15].

وكانت الهيمنة السياسية والاقتصادية والدينية تدين للمسلمين السنة، المنحدرين من أصول عربية وتركية وكردية وشركسية، والذين يشكلون قرابة ثلثي سكان البلاد. والأكراد المعنيون هنا مستعربون إلى حد كبير ويقيمون في دمشق، وبدرجة أقل في حماة وحلب. أما أكراد الأرياف فقد كان وعيهم القومي ينمو منذ أيام الانتداب الفرنسي وفي مرحلة الاستقلال، وبالخصوص في العهد البعثي الذي يقوم على أسس قومية عربية مذهبية. وعامل الشراكة المذهبية بين الأكراد (8- 10% من السكان) والمسلمين السنين العرب لا يكاد يكون له تأثير على سلوكهم وتفكيرهم العام.

وكان للمسيحيين الذين انحدر وزنهم من نحو 14 بالمئة بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما دون 10% حاليا[16] (بسبب الهجرة، والتحول نحو أسرة أصغر عددا قبل مواطنيهم المسلمين) وزن اقتصادي وثقافي مهم. معلوم أن أحوالهم الصحية والتعليمية والاقتصادية أخذت تتحسن منذ أيام عصر التنظيمات العثماني. وكان بين المسيحيين أعيان وملاك أراض كبار، بينما كان الفقر المدقع نادرا في أوساطهم. ولعل انخفاض عتبة تماهي المسيحيين مع أنماط الحياة والسلوك الغربية، المسيحية بصورة ما، يتيح لهم فرص تعلم وتقدم اجتماعي وثقافي أكبر من المسلمين بصورة عامة.

وحتى استقلالها عام 1946 كان في سورية أقلية يهودية مهمة[17]. وكان عزرا أزرق من حلب ممثلا لهم في البرلمان السوري، ، الذي انتخب عام 1943[18]، بينما كان يوسف لينيادو الذي انتخب للمؤتمر السوري عام 1919[19] من أعيان دمشق وانتخب للمجلس النيابي ممثلا لـ”الإسرائيليين” عام 1936[20]، وكان على صلة بمراتب الحكم العليا في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. وكان اليهود موزعين على مناطق متعددة من البلد، دمشق وحلب والجزيرة..، لكنهم متركزون في كل منها بحي أو أحياء خاصة. هذا، على أية حال، ينطبق على المسيحيين أيضا.

هذا فضلا عن مجموعات أصغر مثل الشيعة الإثني عشريين، حول نصف بالمئة من السكان، والإيزيديين (بين 15 و70 ألفا)[21].

وما من سبب اليوم لافتراض تغير درامي في النسب المذكورة، اللهم إلا ربما تراجع نسبة المسيحيين[22].

الخبرة العلوية الموروثة

لا ريب أن العلويين هم الجماعة المذهبية التي كانت تحتل موقعا نسبيا، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، أدنى من غيرها في سورية الحديثة حتى عام 1963. يكاد يصح الكلام على طائفة- طبقة هنا. كان اضطهاد قديم من أيام السلاجقة ثم العثمانيين قد أزاحهم إلى جبال منيعة، لكنها فقيرة.وقد  تحسنت أحوال الجمهور العلوي في ظل الانتداب الفرنسي الذي انحاز إلى الجماعات الأقلية ككل، ووجد كثيرون من شباب العلويين فرصة في “جيش المشرق” الفرنسي. بل إن تسميتهم بالعلويين ظهرت في ذلك الوقت بعد كانوا يسمون أنفسهم ويسمون من قبل غيرهم بالنصيرية.

ويرى محمد هواش أن العلويين أخذوا يعون كيانهم وذاتيتهم أيام أقام لهم الفرنسيون دولة[23]. قبل نحو 90 عاما أخذت جماعات قروية مبعثرة ومهمشة ومفقرة تخرج من خمولها الريفي وتنشط سياسيا ويتكون لها رأي في مصيرها. هنا، وبفعل نشاط نخب من أعيان أو رجال دين أخذ العلويون يتكونون كطائفة، أي كفاعل سياسي محتمل. بهذا المعنى لعبت الطائفية في صفوفهم دورا إيجابيا، أو كانت قوة “تقدمية”، بدرجة تقارن بصعود الموارنة في لبنان أيام عصر التنظيمات العثماني[24]. ولعل مثل ذلك ينطبق على جماعات مذهبية أخرى، الدروز بخاصة، في فترة ما بعد انهيار السلطنة العثمانية، وبينما كانت سوريا حديثة الولادة وضعيفة الشخصية.

كان عدد الأعيان العلويين قليلا وملكياتهم متواضعة نسبيا. وأكثر الفلاحين والعمال الزراعيين العلويين يعملون في قرى يملكها ملاك سنيون أو مسيحيون. وهذا خلاف ما هو الحال عند الدروز مثلا الذين كان فلاحوهم يعملون في أراض يملكها دروز[25]. وحتى أربعينات القرن العشرين كان الفقر المدفع يدفع أسرا علوية إلى دفع بناتها وهن في سن باكرة للاشتغال كخادمات عند ميسورين في المدن، ما يعرضهن إلى أشكال مختلفة من الاستغلال، بما فيه الجنسي[26]. وتشكل هذه الواقعة بالذات عنصرا معياريا في سردية المظلومية العلوية التي برزت في العهد البعثي وتساق كنوع من التسويغ للموقع الامتيازي لعلويين في النظام، وكعلامة على المستقبل المحتمل للعلويين إن زال النظام.

عانى العلويون من تمييز مركب: (1) بوصفهم فلاحين فقراء أو عمالا زراعيين؛ (2) ولكونهم أبناء جبال وأرياف مزدرون في المدينة، وكانت هذه محافظة وتعامل أريافها بما يقارب التمييز العنصري؛ و(3) وبوصفهم طبعا من أتباع مذهب مختلف عن الأكثرية السنية التي لم تجد صعوبة في أي يوم في التماهي بالدولة والأمة والمدينة والإسلام[27].

ولم تظهر النخبة الاستقلالية الوعي الوطني الحديث المنتظر منها، ولم تطور خطة لتجاوز ميراث قديم كان العلوي والدرزي والاسماعيلي فيه خارج الأمة. وبينما حرصت على تمثيل المسيحيين دوما في الوزارات الاستقلالية، لم يكن في أي من الحكومات بين عامي 1943 و1949 أي وزير علوي أو درزي[28]. بل ينسب إلى الرئيس شكري القوتلي رد في عام 1945 على مفوض بريطاني كلمه في شأن تمثيل العلويين بالقول إنه “إلى أن يتوقف الفرنسيون عن الدسائس في جبال العلويين، فلا يمكن [ له] أن يفعل الكثير من أجلهم”[29]. وهذا منطق مقلوب وقصير النظر. إذ يفترض أن “يفعل الكثير من أجلهم” لضرب قدرة الفرنسيين على الدس.

ويبدو أن الطريقة العنيفة في التعامل مع قضية سلمان المرشد في الأيام الأولى لاستقلال سورية، ثم إعدامه، كان الغرض منها ترسيخ هيبة حكومة سعد الله الجابري وتحذير الدروز وزعماء البدو والمعارضين[30].

يفسر هذا الشرط إقبالا واسعا على تأييد الانقلاب البعثي عام 1963 الذي حقق ثورة اجتماعية حقيقية في أوضاعهم وأوضاع الأرياف بصورة عامة. كان الحكم البعثي، بالخصوص بعد عام 1966 ثورة الريف والفلاحين لإصلاح أوضاعهم الاجتماعية وإدماجهم في الحياة السياسية التي كانت بقيت مقصورة على أعيان من أصول سنية و، بعض الشيء، مسيحية. وبالفعل حصل تحسن سريع في الأوضاع الصحية (كان جرى في خمسينات القرن تجفيف سهل الغاب الخصب الذي كان قبل مستودعا للملاريا، ومعظم المنتفعين من أراضيه من الفلاحين العلويين و”المرشديين”) والتعليمية والمادية في الجبل. ولم يبالغ فاندام حين تحدث عن تحرر اجتماعي للعلويين بفضل البعث[31]. لقد كان النظام الذي عرفته سورية بين استقلالها 1946 ووحدتها مع مصر عام 1958 ديمقراطيا برلمانيا مقطعا بانقلابات عسكرية، لكن ضيق ضيق القاعدة الاجتماعية دوما. في العهد البعثي قضي على الديمقراطية السياسية التي كانت سمعتها تتدهور، لكن تحقق ضرب من “ديمقراطية اجتماعية” أوسع قاعدة.

وسيتشكل نظام جديد وأكثرية وطنية جديدة على أرضية العروبة و”الاشتراكية” التي تطابقت مع توسيع ملكية الدولة وتوزيع أراض على الفلاحين ونظاما سياسيا تدخليا وتوجيهيا.

ولن يأتي هذا التحول بردا وسلاما على قلوب المنحدرين من الطبقة الوسطى، التجارية والصناعية، المنحدرين من أصول مسلمة سنية، ممن ألفوا أنهم الأمة والدولة. إن شرائح محافظة من المسلمين السنيين ستعبر عن انزعاجها بطرق متنوعة منذ وقت باكر من الحكم البعثي[32]. ودونما صعوبة ستمحور اعتراضها حول مفهوم مهيب، “الإسلام”، كانت ألفت أن تتكلم باسمه دون إشكال. ولم يكن تمكنها من توجيه “الإسلام” ضد النظام البعثي بديهيا. لقد نجحت فيه لأن المتضررين من النظام الجديد هو بصورة أساسية الطبقة الوسطى المدينية، السنية أساسا، لكن بالخصوص لأن “الإسلام” كان يُعرِّف الموقع الأنسب للاعتراض الجذري على أي سياسات يرى المعترضون عليها أنها غير مناسبة، أي لأنه يحوز طاقة احتجاجية هائلة. لقد دخلنا في عالم سياسي ورمزي جديد، يقطع مع تقليد عمره مئات السنين. كان العالم الاجتماعي والثقافي الذي ألفه برجوازيون سنيون وهيمنوا فيه يتغير وحدوده تذوب[33]، فمن الطبيعي أن من كانوا يحتلون مواقع امتيازية في “العالم القديم” سيشعرون بتهديد وجودي. وبعد أن كانوا يتماهون بيسر بالغ مع النظام، هاهي عتبة تماهيهم ترتفع فجأة وبحدة مع النظام الجديد، فيما لا يجد مهمشون ومحتقرون سابقون أية صعوبة في التماهي معه. إن جانبا من الاحتجاج المتلبس بالإسلام يعكس شعور الاغتراب الذي تملك قطاعات من الطبقة الوسطى المسلمة السنية في ظل النظام الجديد، اغتراب لم يخفف منه، بل فاقمه، تسلط النظام هذا واحتكاره للحياة السياسية.

هذا ما يبدو أن الرئيس حافظ الأسد أدركه قبل توليه السلطة. وبالفعل حظيت “الحركة التصحيحية”، الاسم الرسمي لاستيلائه على السلطة عام 1970، بترحاب الطبقة الوسطى الدمشقية، والسورية عموما[34]. بيد أن سياسة نظامه سوف تتمحور منذ وقت مبكر حول بقاء النظام واستقراره أولا. سيقتضيه ذلك تركيز الأمن والقوة بيد أهل ثقته. وخلال سنوات قلائل سوف يبرز التعارض بين الانفتاح النسبي للنظام على الصعيد الاجتماعي وبين انغلاقه السياسي المتفاقم، وسيحل لمصلحة هذا الأخير. بالخصوص بعد التدخل السوري في لبنان الذي أمن لرجالات النظام مصدر إثراء أغناهم عن مراعاة أغنياء سنيين. إلى ذلك وضع التدخل في لبنان نقطة نهاية ختامية لـ”الصراع على سورية”، ووضع النظام في موقع لا يبارى من أجل حسم “الصراع على السلطة في سورية” نهائيا. فقد نقل خط الدفاع عنه من داخل سورية إلى خارجها، وأطلق يد ه في الداخل، وجعل منه لاعبا إقليميا على مستوى القمة (كيسنجر وبرجنيف، وملك السعودية ورئيس مصر…)[35] تصاغر على الفور أمامه تجار مدن سورية لا يكن لهم في أعماقه كثيرا من الود.

بقدوم عام 1976 كان التناقض بين ديمقراطية النظام الاجتماعية وتسلطيته السياسية قد حل بدوره لمصلحة التسلطية. كانت الديمقراطية الاجتماعية تلك منفصلة عن وعي وفكر ديمقراطيين، لذلك لم تلبث أن استنفدت ذاتها خلال عقد واحد تقريبا، وأخذت الأكثرية الوطنية ضعيفة التشكل وغير المستقلة عن النظام تتآكل. وأخذ النظام ذاته يفرز أعيانه الجدد ويجعل محازبيه وأعوانه “أكثر تساويا” من غيرهم من المواطنين المتساوين. قبل ذلك كانت تنظيمات يسارية وقومية عربية انسحبت من “الجبهة الوطنية التقدمية” التي كان أرادها الرئيس حافظ الأسد واجهة سياسية لنظامه. وبعد قليل كان النشاط العنفي لمجموعات مرتبطة بالإخوان المسلمين يتصاعد. وعوض النظام بالمزيد من التحكم بجهازين استراتيجيين، الأمن والإعلام. وستحوز تشكيلات النخبة من الجيش دورا أمنيا، بينما تخضع الثقافة كليا للإعلام، أي لصناعة الكاريزما وتقديس الرئيس.

ومن جهة أخرى غاب عن إدراك نخبة السلطة الجديدة أن إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي وتوسع التعليم تشغل أنسب مكان لها ضمن تصور لبناء الأمة السورية، فإن غاب هذا كان من شان الإجراءات تلك أن تتبدد أو لا تخلف أي تراكم. هذا ما أخذ يجري فعلا.

أمة سورية!

لعبارة الأمة السورية رنين غريب وغير مستحب في الأذن السورية المتوسطة التي ألفت عبارات من نوع الأمة العربية، وبدرجة أقل الأمة الإسلامية. هنا مشكلة حقيقة ومعقدة. ظنت نخب سورية أنها تعمل على بناء الأمة… العربية. لكن في الغالب اقتصر دور فكرة الأمة العربية على منح الشرعية لمن في السلطة (ما يقتضي أن الفكرة العربية محترمة فعلا)، أو على كونها أداة في خدمة السياسية الخارجية السورية. لكنها في الحالين كانت عائقا أمام تطوير وعي مناسب لبناء دولة- أمة في سورية، يتماهى فيها السوريون وتساعدهم على تجاوز هوياتهم الجزئية. بالنتيجة أسهمت الفكرة العربية في إضعاف سورية من فوقها كما أضعفتها من تحتها الهويات الجزئية، الدينية والمذهبية والإثنية والعشائرية[36]. بل إن العروبة المنفكة عن مطالب التقدم والمساواة والتحرر الاجتماعي تحولت إلى هوية جزئية مثل غيرها، ليست غير مؤهلة فقط للوقوف في وجه الطائفية، خلافا لما يظن عزمي بشارة[37]، وإنما أضحت قناعا يحجب التطييف العام ويوفر لطاقم السلطة التمويه الذي يحتاجه.

وقد تجسد تفكك الأكثرية الوطنية في سورية منذ أواسط السبعينات في شخص السيد رفعت الأسد الذي كان في آن قائد تشكيل نخبوي فائق التسليح ويحظى عناصره بامتيازات واسعة مقارنة بالجيش النظامي ويتمتعون بحصانة تامة، ووظيفتهم الأبرز هي أمن النظام؛ ومن جهة أخرى كانت أكثرية ساحقة من عناصر هذا التشكيل من أصول علوية؛ وفي المقام الثالث تحول رفعت ذاته إلى مليونير فائق الثراء خلال سنوات قليلة وشريكا شبه إجباري لبعض كبار تجار دمشق[38].

لقد أصبحنا في عالم مختلف. عالم دولة تسلطية، لا تتهيب قمعا مهما يكن قاسيا، انتهت من إرساء ركائزها الجهازية (الجبهة الوطنية التقدمية، مجلس الشعب، الإدارة المحلية، والدستور الدائم عام 1973)، وانتفعت من تدفق أموال نفطية على البلاد بعد حرب تشرين الأول 1973. الفساد كان ينمو بنسب قياسية إلى درجة أن اضطرت السلطات لتشكيل لجنة للتحقيق في الكسب غير المشروع[39]، لكن عملها لم يتمخض عن شيء لأن الدولة ذاتها كانت تحولت “لجنة” لتحقيق الكسب غير المشروع.

قبل الزمن البعثي كانت التمايزات الدينية والمذهبية تتراكب مع تمايزات اجتماعية (غنى وفقر، تمثيل واسع في الدولة مقابل حرمان من التمثيل، ريف وإهمال مقابل  مدينة وخدمات..) قد يجري تسييسها وتطييفها. في العهد البعثي بما فيه عهد الرئيس حافظ الأسد تراجعت الفوارق الاجتماعية وقيتا، وبالخصوص ما عاد يمكن الكلام على تطابق نسبي بين طوائف وطبقات. لكن محرك التطييف هذه المرة هو السلطة السياسية ومراكزها العليا بالتحديد، حسب ترتيب حنا بطاطو لها (الرئيس، أجهزة الأمن، قيادة حزب البعث، الحكومة و”المنظمات الشعبية)[40]. بعبارة أخرى ظهر حرمان سياسي نسبي محل حرمان اجتماعي نسبي. ولعل في ذلك أحد محركات تمرد الإخوان المسلمين، وهو ما يثير أحد النقاشات عن طبيعة النظام وصفته الطائفية المحتملة[41].

الكارثة

في 16 حزيران من صيف عام 1979 وقع حادث شنيع يفصل بين مرحلتين من تاريخ سورية من وجهة نظر مقاربة المشكلات الطائفية[42]. فقد اغتالت مجموعة مسلحة مرتبطة بالإخوان المسلمين، السنيين طبعا، عشرات طلاب الضابط، العلويين حصرا، في مدرسة المدفعية بمدينة حلب. الحدث فظيع وغير مسبوق، استهدف علويين لأنهم علويون. وهو يدل على حقد متراكم عنيف، ربما يمد جذوره في تربة شعور أوساط مسلمة سنية باحتكار الإسلام، وتعصب ديني شديد شحنته ممارسات طائشة للنظام بدوافعه المباشرة. والجريمة ذاتها، سواء بطريقة تنفيذها (تولى قيادة التنفيذ ضابط أمن مدرسة المدفعية الذي كان منتسبا سرا لمنظمة مرتبطة بالإخوان اسمها الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين) أو بنوعية مستهدفيها أو بمدى شناعتها تدل على أن تطييف متقدم الوعي السني الحركي.

ولنفتح قوسا للإدلاء ببضعة ملحوظات في هذا الشأن.

الإسلاميون السوريون على حق جزئيا حين ينكرون أن يكون المسلمون السنيون السوريون طائفة[43]. لكن تبريرهم لذلك باطل كليا. فهم يعتقدون أن المسلمين السنيين أكثرية السوريين، إذن فهم ليسوا طائفة. فمن جهة يبدو أنهم يطابقون بين الطائفة والأقلية، لتكون الأقليات وحدها طوائف، ومنسوبون إليها وحدهم من يمكن أن يكونوا طائفيين. ومن جهة أخرى هم لا يميزون بين المعنى اللغوي للدال طائفة الذي يعني مجموعة صغيرة نسبيا من البشر (متميزين في سياقنا هذا بدينهم أو مذهبهم)، وبين الطائفة بالمعنى الاجتماعي السياسي التي تعني جماعة (دينية أو مذهبية) دون طاقة هيمنية، وتتصرف في المجال العام كأنها أقلية.

ورغم أن جماعة كبيرة نسبيا أعسر تطييفا من جماعة صغيرة، فإن عامل الحجم واحد فحسب من عوامل أخرى، تاريخية واجتماعية وسياسية وسيكولوجية وغيرها. السنيون السوريون ليسوا طائفة لسبب قد لا يرضي الإسلاميين: إن بيئات الإسلام السني السوري متنوعة إلى درجة تجعل نشوء تماه مشترك وشعور بوحدة الحال بين الشامي والحلبي والشاوي (سكان أرياف منطقة الجزيرة السورية العرب: فلاحون من أصول بدوية..) والحوراني والبدوي أو الحديث العهد بالبداوة.. أمرا متعذرا. إلى ذلك لم يتعرض المسلمون السنيون السوريون، بما هم كذلك، إلى اضطهاد عنيف يستقصدهم ويفردهم عن غيرهم ويخلق لديهم شعورا مشتركا بالوحدة، على نحو ما كان الحال بخصوص العلويين السوريين والشيعة العراقيين[44]. وخلافا لعلويي سورية وشيعة العراق أيضا كان سنيون سوريون هم الحاكمون في معظم رقعة البلاد طوال معظم تاريخها الإسلامي. فليس هناك ذاكرة اضطهاد أو تهميش مرة وسهلة الاستنفار والتعبئة، خلافا لحال الجماعات الدينية والمذهبية السورية الأخرى. إلى ذلك فقد كانت سورية على الدوام محاطة ببيئة إقليمية عربية سنية، بما فيها العراق الذي حكمه سنيون منذ قرون. فليس ثمة شعور بالعزلة أو الاختلاف عن المحيط.

وفي المحصلة تبدو الجماعة السنية السورية في وضع متناقض اليوم. فهي من جهة متعذرة التطييف بسبب التنوع الشديد لبيئاتها وافتقارها إلى الذاكرة و”الوعي الطائفي” المشترك. ورغم وجود فاعل تطييفي نشط قبل نحو ثلاثة عقود، الإخوان المسلمون، فإن درس ما بين مجزرة المدفعية عام 1979 ومجزرة حماة 1982 يثبت ذلك تعذر التطييف السني بصورة كافية. وإذا كان صحيحا أن الجماعات المذهبية والدينية قلما تتوحد حتى في أوقات الحرب الأهلية، فإنه أصح بخصوص السنيين السوريين. خلال المواجهات الدامية لتلك الفترة كانت حماة وحلب تعارضان النظام بحدة، بينما “الشام” (دمشق) مسترخية، وحمص متململة فحسب، والرقة وحوران لا علم لهما، ودير الزور بالكاد تريم، والشوايا والبدو (فضلا عن الأكراد) إلى جانب النظام.

لكن من جهة ثانية لا يشكل “الإسلام”، والإسلام السني بالتأكيد (أو الشيعي..) أساسا محتملا للأمة في أي من بلداننا لكونه غير قادر على ضمان المساواة بين السكان (يميز بين الجماعات على أسس دينية ومذهبية، وبين الجنسين). فإذا عرفنا الطائفة كجماعة عاجزة عن الهيمنة على مستوى الأمة فلا ريب أن السنيين طائفة، مثلهم في ذلك مثل غيرهم. هذه نقطة لا يبدو أن التفكير السياسي الإسلامي قادر على تقبلها أو حتى فهمها. ومن غير المحتمل ألا تتكرر مواجهتنا لها في المستقبل إلى حي نتمكن من حلها نهائيا.

ورغم تفجر العراق والتنازع الطافي البغيض فيه، فإنه ليس ثمة ظروف كافية تدفع اليوم باتجاه تطييف السنيين في سورية، الأمر الذي لا نتوقع له تغيرا قريبا. وهو ما يحكم باستمرار عجز الإخوان عن تمثيل السنيين السوريين. وهم على أية حال يتعرضون للمنافسة من إسلاميين سياسيين آخرين: وهابيين، جهاديين، حزب التحرير الإسلامي، فضلا عن علمانيين.

ومن ثم فإن القول إن المسلمين السنيين هم أكثرية السوريين غير ذي دلالة سياسية مباشرة، وإن كان صحيحا بالمعنى السكوني لكلمتي أكثرية وأقلية. هذا ما يجعل الإخوان السوريين طائفيين بلا طائفة. طائفيون لأنهم يفكرون في المجتمع كمركب طوائف وأديان من جهة، ويحاولون الاختصاص بإحدى هذه “الطوائف” من جهة أخرى، دون التخلي من جهة أخيرة عن إرادة قيادة الجميع ومطابقة أنفسهم مع “الأمة”.

هذه مفارقة الإخوان السوريين: أصغر من طائفة، ولا يرتضون أقل من قيادة الأمة. ولا حل لهذه المفارقة على أرضيتهم الفكرية إلا بتطييف الأمة، أي بناء نظام ملل عصري كما توحي بذلك ورقة أصدروها في آذار 2006، بعنوان “التكوين المجتمعي السوري والمسألة الطائفية”[45].

والواقع أن توهم أن “المسلمين” (أي السنيين) هم الأمة، وأن الإسلام “دين الأمة”، هو الإيديولوجيا التي تخفى عن الإسلاميين تحولا تاريخيا حاسما، يتمثل، تكرارا، في التطييف التاريخي للمسلمين أو ارتدادهم إلى طائفة بالمعنى الاجتماعي السياسي في مجتمعاتهم، أي أقلية سياسية وحضارية مهما أمكن لهم أن يكونوا أكثر عددية، وحتى لو تعذر التطييف سياسيا. إعادة بناء الأمة على الإسلام هو مشروع رجعي بالمعنى الحرفي للكلمة وغير ممكن دون عنف واسع، سيقود إلى تدمير الأمة بالمعنى السياسي دون أن ينجح في النهاية ببناء الأمة الدينية السياسية التي يريدها الإسلاميون.

وفي الحصيلة يسعنا القول إن الإسلاميين هم طليعة تطييف الجماعة السنية في سورية، وإن لم تنجح الطليعة في مهمتها في نقل “الوعي الطائفي” إلى هذه “الطائفة في ذاتها” في جولة سابقة، ولا نظنها ستنجح يوما.

وقد يكون العلويون في سورية الجماعة الدينية أو المذهبية الأدنى قابلية للتطييف بعد السنيين. ففيما عدا كونهم الجماعة الثانية الأكثر عددا، فإنهم مفتقرون إلى بنية تنظيمية أو مرجعية موحدة إلى درجة تثير مر الشكوى في بعض أوساطهم من أنهم غير ممثلين في الدولة السورية[46]. ولعل التماهي العلوي الأيسر بالنظام والذي يشبه تماهي سنيي العراق بنظام صدام، يسهل بقاء العلويين بلا بنية ذاتية، ما يعرضهم للانحلال إن زال النظام[47].

[1] منصور سلطان الأطرش: الجيل المدان، سيرة ذاتية؛ الطبعة الأولى، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2008؛ ص 11. تناءى منصور الأطرش والسلطة عن بعضهما بعد انقلاب شباط 1966، وتمتع الرجل بسمعة ناصعة حتى وفاته عام 2006.

[2] المصدر نفسه، ص 342 -344 مثلا.

[3] نفسه، ص 367 وص 383 بوجه خاص.

[4] غسان سلامة: الدولة والمجتمع في المشرق العربي، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،  1987؛ ص 59.

[5] فيليب خوري: سورية والانتداب الفرنسي، سياسة القومية العربي 1920- 1945، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1997؛ ص 38، و134-135.

[6] خوري، المصدر نفسه، ص 332-333.

[7] يراجع كتاب باتريك سيل: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية 1945-1958، ترجمة سمير عبده ومحمود فلاحة، الطبعة الأولى، دار الكلمة، بيروت، 1980.

[8] أستخدم كلمات ديني ومذهبي وإلإثني بدلالاتها الاسمية الشائعة، فالهويات الدينية تخص المسلمين والمسيحيين واليهود واليزيديين، والهويات المذهبية تخص السنين والعلويين والدروز والشيعة والاسماعيليين، ومن حيث المبدأ أيضا “الطوائف” المسيحية المختلفة التي لا نتطرق إلى تمايزاتها هنا لأنها فاقدة اليوم لأية قيمة عامة وسياسية، أما الإثنيات فتنطبق على العرب والأكراد والأرمن والشركس ومن في حكمهم.

[9] يراجع كتاب محمد هواش: عن العلويين ودولتهم المستقلة، الطبعة الأولى، الشركة الجديدة للمطابع المتحدة، الدار البيضاء، 1997؛ ص 162. وهواش هو الضابط العلوي الوحيد الذي سرح من الجيش حين استولى البعثيون على السلطة عام 1963، وهو ينحدر من أسرة علوية “أرستقراطية”. وكان يعيش في فرنسا حتى وفاته عام 2007. ونقطة الضعف المنهجية الأساسية في كتابه اعتماده الحصري تقريبا على وثائق وزارة الخارجية الفرنسية أيام الانتداب.

[10] يراجع كتاب هواش نفسه. المؤلف اعتذراي دون وجود ما يسوغ ذلك. فسورية بلد متكون حديثا، وليس إلا طبيعيا أن تنزع أقاليم أو جماعات مذهبية أو دينية إلى الاستقلال بنفسها. أما من يقرأون التاريخ لبناء مضابط اتهامية فيسقطون على الماضي أهواء وإيديولوجيات الحاضر، وقد يتسببون في كوارث سياسية.

[11] محمد هواش: تكون جمهورية، سورية والانتداب، الطبعة الأولى، مكتبة السائح، طرابلس لبنان، 2005،؛ ص 123

[12] هواش، المصدر نفسه، ص 308.

[13] هواش، المصدر نفسه. وأبرز مثال هو تحولات الشاعر المعروف بدوي الجبل (من منبت علوي) الذي كان “انفصاليا” نشطا قبل أن يمسي وحدويا سوريا نشطا، ص 244 و 247 من أجل الوجه الانفصالي، و344 من أجل الوجه الوحدوي. بخصوص بدوي الجيل يراجع أيضا محمد جمال باروت (تقديم وتحقيق): شعاع قبل الفجر، مذكرات أحمد نهاد السياف، إصدار خاص، 2005، ص 238-239.

[14] يقدر خوري نسبة المسلمين السنيين بعد الحرب العالمية الأولى  ب69% من السكان، والمسلمين غير السنيبين (علويين واسماعيليين ودروز وشيعة) ب16%، والمسيحيين 14%، وبضعة آلاف من اليهود. نفسه، ص 37. أما هانز غونتر لوبماير فيعطي النسب التالية: السنيون 70% والمسيحيون 13%، والعلويون 12%، والدروز 3% والاسماعيليين 1%، ناسبا معلوماته إلى مصادر حديثة نسبيا في السبعينات والثمانينات، منها إليزابث بيكار وعضيد داويشة وحنا بطاطو…كتابه: المعارضة والمقاومة في سورية“. والكتاب مترجم إلى العربية إلا أنه غير منشور  لأسباب غير معروفة، واسم المترجم غير معلن. وأخيرا يعطي فاندام نسبا مقاربة:68,7%  سنيون، و11,5%  علويون، و3% دروز، و1,5% اسماعيليون، و14,1%مسيحيون؛ الدكتور نيكولاوس فاندام: الصراع على السلطة في سورية، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة، الطبعة الإلكترونية الأولى المعتمدة في اللغة العربية، 2006، ص 16.

[15] Hanna Batatu, Syria’s Peasantry, the Descendants if Its Lesser Rural Notables, and Their Politics, Princeton university press, 1999, p15.

[16] خوري، سورية والانتداب الفرنسي، سبق ذكره، ص 37.

[17] كان في دمشق وحدها نحو 5000 من اليهود حسب يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصلي، الطبعة الثالثة، دار النهار، بيروت، 1986، ص 85. وقتها كان سكان سورية كلها نحو مليونين. ويعطي جوردون توري رقم 35 ألف يهودي في سورية حتى عام 1956، في كتابه السياسة السورية والعسكريون، 1945-1958، ترجمة محمود فلاحة، الطبعة الثانية، دار الجماهير، 1969؛ ص 20. وقتها كان سكان سورية دون  أربعة ملايين نسمة.

[18] هواش، ضمن جدول بأسماء أعضاء برلمان 1943 في نهاية كتابه “تكون جمهورية..”، ص 396. وقد انتخب على لائحة سعد الله الجابري، أحد أركان الكتلة الوطنية ورئيس وزراء سورية ورئيس برلمانها في الأيام الأخيرة من الانتداب الفرنسي.

[19] الحكيم، سورية والعهد الفيصلي، ص 95.

[20] انظر كتاب نور المضيء المرشد:  لمحات حول المرشدية: ذكريات وشهادات ووثائق، الطبعة الثانية، مطبعة كركي (حقوق الطبع للمؤلف)، بيروت، 2007. ص 59.

[21] حسب كتيب إلكتروني من إعداد عمار قربي، صادر عن المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية، بعنوان: الديانة الإيزيدية، ص 20.

[22] قدر كتاب صدر حديثا بالفرنسية بعنوان “سوريا حاضراً، ظلال مجتمع في المرآة”، وعرض له وضاح شرارة في ملحق “نوافذ” لجريدة المستقبل اللبنانية (9/12/2007) نسبة المسحيين بـ 5%  فقط. أورد عرض شرارة المعطيات التالية عن الكتاب: دار سندباد، أكت سود، 2007، باريس. والكتاب في إشراف بودوان دوبريه، وزهير غزال، ويوسف كرباج، ومحمد الدبيّات.

[23] هواش، تكون جمهورية… ، ص 230. و”عن العلويين ودولتهم المستقلة، ص 246-247.

[24] أسامة مقدسي، ثقافة الطائفية، الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني، ترجمة: ثائر ديب، الطبعة الأولى، دار الآداب، بيروت، 2005؛ ص 270،  280؛ ومقالته “فهم الطائفية” في مجلة الآداب البيروتية، نيسان 2007، ص 55-59.؛ ومقالة كاتب هذه السطور: “صناعة الطوائف: الطائفية بوصفها استراتيجية سيطرة سياسية“، الآداب، كانون الأول وشباط 2007، ص 38-44.

[25] خوري، سورية والانتداب الفرنسي…، ص 521. وبهذا العامل يفسر المؤلف كون معارضة الدروز للوحدة السورية أدنى من معارضة العلويين.

[26] يشار إليه في كتاب لوبماير، نفسه، الفقرة “وجها المعجزة الاقتصادية السورية” من القسم الأول، وكذلك الفقرة المعنونة: “هل كانت ثورة البعث اشتراكية أم أنها معادية للسنة وسكان المدن”، في القسم الثاني من الكتاب، وكذلك عند Thorsten Schiotz Worren: Fear and Resistance, The Construction of Alawi

 Identity in Syria. Dept of Sociology and Human Geography, University of Oslo, 2007, p 58.. وقد بنى المؤلف النرويجي دراسته على تقص ميداني قام به في المنطقة الساحلية في سورية في عامي 2005 و2006.  وينسب إلى مجيب المرشد أنه نهى عن تأجير البنات خادمات، فكان له الفضل في “تخليصنا من مثل هذه العادات السيئة” حسب أخيه نور المضيء، المصدر نفسه، ص 201.

[27] في مذكراته التي حققها وقدم لها محمد جمال باروت، يقول أحمد نهاد السياف الذي كان رئيسا لمؤسسة الريجي في اللاذقية وقت استقلال سورية عام 1946: “فعامة الناس بالمدينة تنظر بحذر وريبة إلى الجبل [ جبل العلويين] وكأنه غابة غيلان، إنسانه قذر يمثل الخيانة والعمالة والإلحاد”، أي أنه يمتزج في حكم “المدينة” على العلويين استعلاء مديني ضد ريفي، ووطني ضد عميل أو خائن محتمل، وديني صحيح ضد ملحد أو كافر. انظر: شعاع قبل الفجر، مذكور سابقا، ص 151.

[28] باروت، شعاع قبل الفجر، نفسه، ص 266 و274.

[29] باروت، نفسه، ص 275.

[30] باروت، نفسه، ص 176. وسلمان المرشد العلوي الأصل نسبت إليه دعوة دينية خاصة، تكونت على أساسها وعلي أساس محنته الشخصية “طائفة” مستقلة، المرشدية. ويعتقد أن لإعدامه صلة بالصراع بين فلاحين علويين وملاك أراضي سنيين في أرياف مدينة اللاذقية. إن القسم الأساسي من كتاب شعاع تحت الفجر، مذكرات أحمد نهاد السياف مكرس لقضية المرشد الذي أعدم في أواخر عام 1946، بعد شهور من استقلال سورية. انظر ص 119 -209 من الكتاب، فضلا عن الهوامش الواسعة (ص 210-290) التي كرسها باروت لتوضيح ملابسات تلك الفترة وصراعاتها. وحول العقيدة المرشدية، انظر كتاب نور المضيء المرشد، نفسه. والمؤلف أحد أبناء سلمان المرشد، مؤسس العقيدة المرشدية، الذي أعدم عام 1946 لأسباب ربما تجمع بين  الصراع الاجتماعي بين فلاحين علويين محرومين وملاك أراضي سنيين بصورة خاصة، والحزازات الدينية والمنافسات المحلية. والمرشدية على غرار الأديان جميعا ليست تعاليم و”معرفة جديدة” (حسبما يسمي المرشد الدعوة التي أتى بها شقيقاه مجيب ثم ساجي)، بل كذلك سيرة السلالة المرشدية… يعرض الكتاب هذه السيرة حتى سبعينات القرن العشرين، الزمن الذي رفع الاضطهاد فيه عن المرشديين حسب قوله.

[31] فاندام، المصدر نفسه، ص 123، و 194.

[32] انظر هانز لوبماير، المصدر نفسه، القسم الثاني، الفقرة المعنونة: “الإسلام أم البعث، قلاقل عام 1964”.

[33] لوبماير، المصدر نفسه، القسم الثاني الفقرة نفسها، و الفقرة : الفصل الأخير منه المعنون: “على طريق الجهاد، تجذر الإخوان المسلمين”.

[34] رفع تجار دمشق على باب سوق الحميدية الشهير لافتة تقول: “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد”، أما في حلب فقد رفعت سيارته على الأكف. لوبماير، القسم الثاني، فقرة “دستور 1973”.

[35] سيل: الأسد..، المصدر نفسه، ص 433-471.

[36] من أجل مناقشة لقضية الوطنية السورية وعلاقتها مع كل من العروبة والهويات الجزئية، يراجع لكاتب هذه السطور: “الهوية الوطنية والإصلاح السياسي في سورية”، ورقة صادرة عن “مبادرة ألإصلاح العربي”،

http://arab-reform.net/spip.php?page=article_ar&lang=ar&id_article=865

[37] في كتابه “في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي“، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007. ص 133-134وص 200.

[38] سيل، الأسد…، نفسه، ص 685-715.

[39] سيل، المصدر نفسه، ص 521، ولوبماير، القسم الثالث، الفقرة: “استراتيجية النظام من أجل كسب المشروعية: الحملات المكثفة”

[40] Batatu, ibid, pp 206-208..

[41] يطرح السؤال حنا بطاطو في كتابة نفسه، ص 226-230، ولا يقدم إجابة حاسمة. بيد أنه يشير إلى وزن راجح للتضامن الطائفي في تكوين مرتبتي السلطة العليين.

[42] ليس هناك أية معلومات تفصيلية موثوقة عن “مجزرة المدفعية”، حتى أن باتريك سيل لا يكاد يتطرق إليها في كتابه:الأسد، الصراع على الشرق الأسط. أما فاندام فيخصص لها الصفحات 130-132 من كتابه، نفسه.

[43] تراجع في هذا الشأن مقالة للكادر الإسلامي “المنفي” محمد الحسناوي بعنوان “الاخوان المسلمون لا يمثلون أهل السنة والاحزاب الطائفية لا يمكن ان تستمر: عن المسألة الطائفية في سورية”، متاحة على الرابط:

http://www.mokarabat.com/m787.htm .

[44] بالمقابل يشكل تاريخ الاضطهاد المتصور عنصرا أساسيا في بناء “الهوية العلوية” حسب مؤلف Fear and Resistance، نفسه، ص 53-60.

[45] الورقة نموذجية من حيث تصورها أن “الشعب السوري [عاش] منذ نشأته  متآلفا موحدا، بكل مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية.. ووقف بكل فئاته ضد محاولات التفرقة، وفي مواجهة الاحتلال والاستعمار. فمن الذي أثار القضية الطائفية بين أطياف المجتمع السوري؟” نموذجية أيضا في تحميلها جريرة الطائفية لـ”الأوضاع الشاذة القائمة في سورية منذ أربعة عقود”.. وتتصور الورقة سورية “مجتمعا فيه أقليات وليس مجتمع أقليات”، وتؤسس على ما يمكن أن نسميه مبدأ “المركزية الإسلامية”، السنية ضمنا، تصورا للمساواة يفيد أن “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”..

[46] Fear and resistance,، ص 87. ويدرج المؤلف النرويجي شكوى أحد مصادره من انعدام التمثيل في سياق ما يسميه “المعضلة العلوية”. فمن المفترض أنهم في السلطة بيد أنهم يعاملون كما لو لك يكونوا موجودين، بسبب الهيمنة الخطابية السنية، التي تعرف ما هو إسلامي وتقدم “شريعتها” قانونا للمسلمين جميعا. ويقدم جوشوا لانديس، وهو باحث أميركي متزوج من سورية، ومحرر موقع إلكتروني بالانكليزية خاص بالشأن السوري تصورا مختلفا لما يسميه “معضلة الأسد العلوية“. كتب في مقالة له في أكتوبر 2004: “إذا جعل [بشار حكومته] أكثر تمثيلية وأفسح المجال لمزيد من الديمقراطية، فإنه قد يكتسح بالإسلاميين ويخسر الدعم العلوي، وهو عماد نظامه. ومثل ذلك يصح قوله إذا ما قمع الفساد والمافيات في الوزارات”. ويمضي لانديس إلى القول إنه “إذا فرض [الرئيس] الإصلاح بالقوة فإنه سيقوض مواقع الجنرالات والبعثيين، ما يفضي إلى انهيار نظامه، أو أن يعمد الجنرالات إلى استبداله. هي ذي معضلة بشار العلوية”. المقالة متاحة على الرابط:

http://faculty-staff.ou.edu/L/Joshua.M.Landis-1/syriablog/2004/10/asads-alawi-dilemma.htm

[47] الطائفية مسألة تماه تفاضلي، أو عتبات متفاوتة للتماهي بين الجماعات الدينية والمذهبية والسلطة السياسية. الأسهل تماهيا يشعر أن النظام نظامه، لكنه مهدد بخسارة أكبر إن انهار النظام،  والأقل تماهيا يشعر بالغربة، وهو مرشح لأخذ مواقف سلبية من النظام، لكنه ربما يعمل على تطوير هوية مستقلة. هذا أمر لم ينجح  فيه السنيون لأسباب ذكرناها في المتن.