رئيس التحرير

في اللقاء الوحيد الذي جمعني بالشيخ معاذ الخطيب في اسطنبول منذ بضع سنوات عبر بصراحة عن تبرمه من الحديث المكرور عن حقوق الأقليات الذي كاد يطغى على حقوق الأكثرية حسب تعبيره باللهجة الدمشقية: “ولك صرنا بالزلط”.
لا أخفيكم سرًا أنني فوجئت بمستوى خطاب رئيس الائتلاف السوري الذي أكد في خطبته العصماء في يوم تأسيس الائتلاف في الدوحة إسلاميته وأصوليته التي تنسحب على ثورة السوريين التي كان يمثلها آنذاك كما يفترض.
وفي تحليل رسالته الأخيرة التي وجهها لبشار الأسد الذي يصر الخطيب على مخاطبته باسمه بدون ألقاب ربما كان دافعه العصيّ على المقاومة هو استعلاء البرجوازيّ المدينيّ السنيّ على ابن الأصول الريفية الأقلويّ.
نقول إن في تحليل نص الرسالة لا يكلف المرء نفسه مؤونة كبيرة لسبر غور الخطاب السطحي الذي يبدأ بدرس مستفاد من تجربة الخطيب السياسية عن المصالح التي تحكم سلوك الأنظمة السياسية، وهو درس يقدم على أنه كشف عظيم في عالم الممارسة السياسية.
وينتهي بدعوة بشار الأسد إلى حوار غير مشروط يمكن أن ينتهي بتوافق على خروجه من السلطة، وهو ما يضمر احتمالًا مسكوتًا عنه وهو عدم الخروج بهذا التوافق وبقاء بشار الأسد في السلطة.
وهو احتمال مضمر لا يبعد أن يكون هو المقصود بالرسالة الموجهة إلى رأس النظام.
فابن البرجوازية الدمشقية الذي ينتمي إلى فئة المشايخ المتصالحين مع النظام والمتشبثين بكل ما استطاعوا بهويتهم المشيخية التي لا تعني بالضرورة امتلاك معرفة دينية بقدر ما تعني هوية اجتماعية تكون بالممارسة -على حد تعبير الباحث البلجيكي توماس بيريه-، يصر على نهجه التصالحي مع النظام الذي دأبت الفئة التي ينتمي إليها على انتهاجه محققة مصلحتها العصبوية من جهة، ووقوفها في وجه أي تغيير جذري ينذر بتفتيت ما راكمته عبر أجيال من بناء هويتها المشيخية الاجتماعية من جهة أخرى.
بالاستناد إلى نظرية ألبير حوراني عن نشوء طبقة أعيان المدن من بيروقراطيي الدولة العثمانية وملاكي الأراضي في مقاله الشهير : “الإصلاحات العثمانية وسياسة الأعيان” والتي تقوم على فرضية وجود عصبيات قائمة على المحسوبية والزبائنية تنتج سلاسل من الزعماء السياسيين والدينيين والعشائرين الذين يحطمون أية محاولة لإنشاء مؤسسات لا تعترف إلا بالمواطن الفرد ( أحمد نظير الأتاسي، قراءة في كتاب البعث والاسلام في سوريا، معهد العالم للدراسات) يمكن بسهولة أن نفهم جذر هذا التمسك بإعادة إنتاج خطاب يخفي المسكوت عنه المذكور آنفًا، ويخفي لازمه المتمثل في الخشية من إعادة إنتاج نظام سياسي يقوم على مؤسسات تعترف بالمواطن الفرد.
وبالنظر إلى ضفة اخرى في شرق سوريا نعثر على عصبية عشائرية لديها الخطاب المتّشح بلبوس دينيّ شعبيّ يعبر عنه شيوخ العشائر المتصالحون مع النظام، وإن بلغة ركيكة لا ترقى إلى لغة خطيب المسجد المفوه معاذ الخطيب.
فهؤلاء يوجهون رسائلهم إلى بشار الأسد ولكن بتوقير شديد إلى درجة وصفه على لسان أحدهم برب الشعب، ولكن خلف اختلاف الخطابين الشكلي خيط واضح من التشابه في الدوافع؛ فعلى الرغم من أن شيوخ العشائر كانوا الخزان الذي يستخدمه نظام الأسد لتدجين العشائر، وعلى الرغم من أن نسبة لا يستهان بها من أفراد العشائر قد تنافسوا مع مشايخهم لتقديم خدماتهم الوضيعة للنظام إلا أن الشيخ المدينيّ والشيخ الريفيّ كليهما تعتريهما الخشية نفسها من تفكك العصبية التي تستند إليها هويتهم الاجتماعية، ومن إنتاج نظام سياسي حديث يذهب بها وبما تحققه من مكتسبات.
لا يختلف الشيخ البرجوازيّ عن الشيخ القبليّ إلا في الشكل الذي يخفي وراءه بنية متكلسة متخلفة لا يستطيع المتبنين بها أن يذهب بعيدًا في مغامرته التي ركب غمارها في بداية الثورة، والتي تضطره إلى النكوص إلى متطلباتها عندما يصبح التهديد بتفكيكها أكثر من جديّ.