في منتصف آذار عام 2011، فجّر الشباب السوري ثورةً سلميةً، ما لبثت أن انخرطت فيها كلُّ فئات الشعب ومكوناته، رافعة شعاراتٍ وطنيةً تدعو إلى الحرية والديمقراطية والكرامة، متلاقية مع أحلام وطموحات السوريين في إنهاء نظام التسلط والاستبداد والفساد الذي جثم على صدرهم لمدة نصف قرن. فكانت استحقاقاً موضوعياً وتاريخياً لشعب يغرق طيلة هذا الزمن في جور القمع والخوف والصمت، في ظل نظام ٍيعتقدُ بتأبيد سلطته وسيطرته على المجتمع بقوة القهر وتعميم النهب والفساد الممنهج وتمزيق المجتمع؛ وإطفاء جذوة الحياة الحرة الكريمة لدى شعب مبدع للحياة والحضارة ومتعطش للحرية والديمقراطية والعدل.
تطوي ثورة شعبنا العظيم هذه الأيام عامها التاسع وتدخل عاشره، لم تغير من أهدافها كل صنوف القتل والتدمير والتهجير والمجازر وحرب الإبادة، التي مارسها النظام وحلفاؤه -الاحتلالان الروسي والإيراني-وميليشياتهم الطائفية ضدها، وكشفت عجز الأمم المتحدة، وتواطؤ ونفاق المجتمع الدولي وتردده وخذلانه للشعب السوري، وتخليه عن مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وضربه عرض الحائط بالقوانين الدولية والإنسانية، وتخليه السافر عن الوقوف إلى جانب مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والمواطنة التي يدعيها. وإلا فكيف نفهم هذا السكوت المخزي عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت تحت سمع وبصر العالم أجمع؟ دون أن يغيب عن بالنا هنا في سياق الصيرورة السورية ما كشفته أيضاً من تردٍ للوضع العربي وتمزقه وعجزه وتخلفه وارتهانه.
ونتيجةً لإمعان النظام في سياساته الإجرامية ضد الشعب وإصراره على البقاء في السلطة بأي ثمن، تحولت سوريا إلى ساحة للصراع الدولي والإقليمي، وذلك بعد استقدامه دولاً ومليشيات طائفية لإنقاذه من السقوط، وإفساحه المجال لدخول قوى التطرف والإرهاب لتكون ذريعة تمكنه من استهداف جميع السوريين وحياتهم ومستقبلهم. لقد دخلت البلاد مرحلةً بالغة التعقيد بسبب تضارب مصالح الدول واستراتيجياتها الخاصة في سوريا وفي المنطقة عموماً. وأدت مؤخراً إلى مواجهات سياسية وعسكرية فيما بينها، يدفع الشعب السوري فواتيرها من حياته وحياة أبنائه ومستقبلهم، ووحدة بلادهم وحريتها واستقلالها.
إنّ السوريين في جميع مناطقهم يعانون اليوم أوضاعاً اقتصادية ومعيشية كارثية وصلت حدّ الجوع وانعدام أدنى مقومات الحياة، وأضعفت للقدرة الشرائية لدى 90% منهم بسبب انهيار قيمة الليرة السورية، ونضوب العملة الصعبة في المصرف المركزي، وتدمير جميع مقومات الاقتصاد، ورهن البلاد وثرواتها قد جعل جميع فئات الشعب السوري من موالاة ومعارضة على مستوى واحد من الفقر والسخط والغضب والاحتقان.  وبدأ هذا الوضع ينذر بانفجارات شعبية جديدة. تلوح إرهاصاتها في بعض المدن السورية.
إن النظام الأسد الذي وضع نفسه في موقع العداء للشعب، ويتصرف كقوة احتلال واغتصاب للحقوق، قد فقد شرعيته الداخلية والخارجية بعد أن أنجز مهمته في التدمير المنهجي لسوريا وشعبها، وبالتالي فقد أصبحت صلاحيته منتهية ما عدا ورقة للتفاوض بيد القوى التي منعت سقوطه. والتي لم تعد متمسكةً به إلا بمقدار ما يخدم مصالحها الأنية والمستقبلية. فاستمراره غدا مكلفاً كثيراً للروس الذين ما عادوا يستطيعون تحمل هذه التكلفة أمام المواقف الأميركية والأوروبية التي تدعو لحل السياسي يمرّ عبر جنيف وفق قرار مجلس الأمن 2254. وبالتالي فلا يتوقع منهم، المساهمة في إعادة الإعمار أو عودة اللاجئين ولا ينتظر منهم مواقف سياسية داعمة. لذلك أصبح من الصعب إعادة تأهيل الأسد لأن دوره قد انتهى، وكلّ السيناريوهات المحتملة لرحيله باتت ممكنة بانتظار تفاهم الأمريكان والروس عليه وتوافق دولي على بديله. هذا لا يعني أنّ الحلّ السياسي بات قريبًا، لأن الطرف الأميركي ليس على عجلة من أمره، وقد وضع الملف السوري في ثلاجته حتى الانتهاء من انتخابات الرئاسة الأميركية، وخلال هذه الفترة يتم تفعيل قانون قيصر، كورقة ضغط قوية تجبر الروس على القبول بالتخلي عن الأسد وبالحل السياسي وفق القرار 2254.
ومهما يكن من أمر فإن ثورة الشعب السوري، وهي تقف جريحةً على عتبة عامها العاشر، ورغم حملة التيئيس التي تقودها قوى الثورة المضادة، إلا أنها تزال تمتلك من تصميم الشعب وتضحياته ومن استخلاص دروسها وتجاربها مقومات الاستمرار والنهوض، وأصبحت بكل بساطة من مكوِّنات الوجدان الجمعي السوري. وأن الذين أرادوا أن يجعلوا من مأساة السوريين درسًا بليغاً لشعوب المنطقة أن فكرت بالخروج على أنظمتها المستبدة والفاسدة. قد لطموا بتفجر الموجة الجديدة من الربيع العربي في كلّ من السودان والجزائر والعراق ولبنان مما أثبت أن الثورة السورية كانت وستبقى ملهمةً لكلّ الشعوب المتطلعة للحرية والعدالة. وهذا يؤشر بوضوح إلى أن الشعوب العربية مصممة على بلوغ ربيعها وامتلاك حريتها وفرض إرادتها إن آجلاً أو عاجلاً.