ماتزال أصداء الحملة المفاجئة، التي أطلقتها عدة مواقع إعلامية روسية، ضد نظام الأسد وعائلته، تتفاعل على نطاقِ واسع في معظم وسائل الإعلام العربية والدولية. وتطرح العديد من الأسئلة المثيرة للجدل، في أسبابها ودوافعها، وعن توقيتها والأهداف التي تسعى وراءها.

   لم تقتصر الحملة على بضع مقالات نشرتها “وكالة الأنباء الفيدرالية الروسية” التي يديرها الملقّب بـ “طباخ الكريملين”، والتي استهدفت “عشيرة الأسد” وفساد أسرته محملةً إياه مسؤولية الانهيار الاقتصادي وفشله في محاربة الفساد وعجزه عن إدارة البلاد. بل تعدّتها إلى محاضر لجلسات حوار ودراسات جرت في أروقة أحد المنتديات الدولية التي أسسها “بوتين”، ثم التقرير الذي أصدره “المجلس الروسي الفيدرالي للشؤون الدولية” والذي يقدم استشاراته للخارجية الروسية، فقد سلط الضوء على المخاطر والتحديات التي تواجه الاقتصاد السوري، والحاجة الماسّة لتحقيق إصلاح سياسي واقتصادي، يعيد بناء مؤسسات الدولة، وذلك عبر حل سياسي يحظى بتمويل ودعم المجتمع الدولي، إلا أن زبدة القول تكثّفت في مقالة كتبها السفير الروسي السابق في دمشق “ألكسندر اكسينيو نوك” والذي يعمل مستشاراً في المجلس الروسي للشؤون الدولية ونشرها في ١٦\٤\٢٠٢٠ في موقع “كومير سانت” بالروسية والانكليزية والذي تناول فيه بالتحليل أوضاع الاقتصاد السوري الذي نخره الفساد ودمرته الحرب، مبدياً خشيته من أن يؤدي فساد السلطة وعجز “الأسد” إلى فقدان الإنجازات التي حققتها بلاده جراء التدخل العسكري عام ٢٠١٥. ومؤكداً أن الأسد لا يملك الإرادة الحقيقية للإصلاح، وأنه سيكون من الصعب جداً حل الأزمة السورية ببقائه.

   بصرف النظر عن الجهة التي تقف خلفها ودرجة قربها من مركز القرار، بعد أن جرى التنصل منها رسمياً واعتبارها مفبركة، إلا أن الحملة تفضح نفسها بنفسها، إذ ليس مصادفةً أن تصدر هذه التقارير والمقالات عن مواقع ومنصات شبه رسمية دون أن تتبناها جهة رسمية. فالتنسيق والتزامن يوضحان أبعاد الحملة ومراميها في ظل إعلام يقوده نظام أمني شديد المركزية، ولا يسمح بصحافة حرة ولا يقيم وزناً لاستطلاعات الرأي وإن حاول الإيحاء بهما.

   لعل ما يثير الاستهجان في حملة التشهير التي وجهتها وكالة الأنباء الروسية ضد عائلة الأسد وتورط أفرادها في إدارة شبكات الفساد. وأن يصبح القمع والتعذيب والنهب والمتاجرة بمقدرات الشعب وحتى جرائم الحرب جميعها تُهماً تخرج من قلب “موسكو” ضد “حليفها الأسد” ولمن لا يصدق إما بوصفها اكتشافاً جديداً ولو متأخراً أو نوبة من “صحوة الضمير” أصابت نظاماً يقود دولة مخابرات عالمية، وتقوم سلطته أصلاً على شبكة من المافيات ذات الباع الأطول في عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والجريمة المنظمة، ويشهد له العالم بخبرته في إدارة الحروب الأهلية وسحق إرادة الشعوب وزرع أنظمة الفساد والاستبداد وتثبيتها بالقوة في غير مكان في العالم ومنها بلدنا المنكوب باحتلالاته. فـألاعيب الإعلام الروسي ليست جديدة علينا ولا المدرسة النازية التي ينتمي إليها وتعتمد التضليل وقلب الحقائق وموت الضمير من أجل التغطية على جرائم الأسد بل ومنع وصول المساعدات الإنسانية للهاربين من جحيم موت فرضه ثلاثي الإجرام “بوتين” و”الأسد” و “خامنائي”. 

   ثمة ما هو جدير بالاهتمام فيما عبر عنه السفير الروسي السابق في مقالته -التي ورد ذكرها-وقال فيها (على بلادي أن تعيد النظر في مستقبل سوريا ومصير قيادات النظام. حيث لا يمكن بأية حال إدامة الواقع العسكري من دون إعادة بناء الاقتصاد السوري، ومن دون بناء نظام سياسي عبر تسوية دولية). ربما لأن ما كتبه يشير إلى الاتجاه للباحث عن دوافع الاحتلال الروسي من وراء هذه الحملة وأهدافه. فالمصاعب الاقتصادية أجبرت بوتين على الاعتراف لأول مرة :( أننا نمر بأسوأ أزمة اقتصادية بسبب الكورونا). فالأخطار المحدقة بالاقتصاد الروسي كشفتها تداعيات أزمة مكافحة الكورونا، والتي أضافت إلى قائمة العقوبات الأمريكية والأوروبية، وهبوط أسعار النفط إلى أدنى المستويات منذ عقدين، وتدهور سعر “الروبل”، أبعاداً إضافية دفعتها للخشية من فقدان استثماراتها في الأزمة السورية ومحاولة ترميم اقتصادها المأزوم بابتلاع ما يمكن تحصيله من موارد اقتصادية سورية، وكأن الهدف إبعاد المنافس الإيراني عن دائرة الشراكة والمضاربة، وإجبار “الأسد” على فتح الاقتصاد السوري أمامها ثمناً لاستمرارها في دعم بقائه. ورأت في انشغال العالم عنه التوقيت الأنسب لذلك. 

   كما يمكن قراءة ما كتبه الدبلوماسي المخضرم بمنحى أن الروس أصبحوا غير قادرين على الإبحار عميقاً في الأزمة السورية وفرض شروطهم، وذلك بسبب التكلفة الباهظة للحرب فيها، والتي لم تعد موسكو تتحملها كما لم يعد بإمكانها خوض المزيد من المعارك بعد إدلب، وأن عقبة الوجود التركي والأمريكي والموقف الأوروبي لا يمكن حلها عسكرياً إلا في أوهام الأسد وإيران، كما أن أوضاع النظام السياسية والعسكرية والاقتصادية بدأت تشكل إلى جانب طهران عبئاً ثقيلاً على خيارات موسكو السياسية.