لندن: إبراهيم حميدي
تهتم واشنطن بموافقة موسكو على تمديد وجود القوات الأميركية شرق سوريا بعد دحر «داعش»، وإبعاد ميليشيات إيران و«حزب الله» عن الجنوب السوري، مقابل تساهل في موقفها من سقف الحل السياسي الذي أعلنه مسؤولون روس قبل أيام، واكتفاء الجانب الأميركي بدعم عملية جنيف وفق القرار 2254، إذ إن البيان المشترك بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في فيتنام، تضمن مرونة إضافية من واشنطن أمام تصور موسكو، وتفاهماً ثنائياً على مرجعية جديدة لـ«الحل السوري» لا تتضمن «الانتقال السياسي» أو دستوراً جديداً، بل «إصلاحات دستورية» ضمن المؤسسات الحالية وفق «التزام» الرئيس بشار الأسد بإنجاز «انتخابات» من دون تحديد كونها رئاسية أو برلمانية، خلافاً لما أعلنه ألكسندر لافرينتييف، المبعوث الرئاسي الروسي قبل أسبوعين.
البيان المشترك، الذي أُعلن في واشنطن وموسكو بعد لقاءات سريعة على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا المحيط الهادئ (أبيك) في دانانغ في فيتنام، كان تتويجاً لسلسلة من المشاورات الأميركية – الروسية بين سياسيين وعسكريين في مناطق مختلفة تكللت بإقرار الوزيرين ريكس تيلرسون وسيرغي لافروف، المسودة الأخيرة للبيان. وحسب مسؤولين غربيين، هناك 8 ملاحظات على وثيقة ترمب – بوتين:
أولاً، منع الصدام وتقاسم النفوذ: اتفق ترمب وبوتين على «الحفاظ على قنوات اتصال عسكرية مفتوحة بين العسكريين للمساعدة في ضمان سلامة القوات الأميركية والروسية على حد سواء» عبر استمرار تنفيذ مذكرة «منع الصدام» بين الجيشين إلى حين هزيمة «داعش»، والتزام البلدين العمل معاً لمحاربة الإرهاب في سوريا.
ونجح هذا الاتفاق، الذي يجري تنفيذه بالاتصال بين مركز في عمان وقاعدة حميميم، أو بين قادة عسكريين على مستوى أعلى، في منع حصول صدام بين الجيشين وطائرات البلدين خلال معارك طرد «داعش» من شرق سوريا، بل إنه ضَمن سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية على الرقة وشرق نهر الفرات، وقوات النظام وحلفائها على دير الزور وغرب الفرات. لكن واشنطن القلقة على مصير قواتها في سوريا بعد الانتهاء من «داعش» وسط بدء موسكو باعتبار هذا الوجود غير شرعي، أعطت أولوية للحصول على شرعية سياسية من بوتين لـ«التنسيق العسكري» في بيان مشترك رئاسي. ويمكن اعتبار هذا بمثابة اعتراف سياسي أميركي – روسي بتقاسم النفوذ: شرق نهر الفرات لحلفاء أميركا، وغرب نهر الفرات لحلقاء روسيا، مع ملاحظة أن البيان تضمن أهمية «وحدة سوريا وسيادتها».
ثانياً، لا حل عسكرياً: تعد إشارة البيان الثنائي إلى أنه «لا حل عسكرياً للصراع في سوريا، وأن الحل سياسي» تأكيداً لموقف إدارة ترمب التخلي عن البرنامج السري لـ«وكالة الاستخبارات المركزية» بتدريب فصائل المعارضة في الأردن وتركيا. البرنامج الذي ينتهي عملياً نهاية العام. وجاء هذا استكمالاً لتخلي واشنطن عن مشروع «تغيير النظام» الذي عبّر عنه أكثر من مرة وزير الخارجية الأسبق جون كيري خلال لقاءاته مع الجانب الروسي. وإسقاط «الحل العسكري» يزيل أي لبس في الموقف الأميركي كما أرادت موسكو. هنا نجح الجانب الأميركي، حسب معلومات، في إضافة عبارة إلى مسودة البيان، تضمنت تأكيد عملية جنيف والقرار 2254.
ثالثاً، التخلي عن مؤتمر سوتشي والتركيز على جنيف: لم يتضمن البيان أي إشارة إلى «مؤتمر الحوار الوطني السوري» الذي كان مقرراً في 18 الشهر الجاري في منتجع سوتشي الروسي. لكن البيان تضمن أن الحل سيكون «في المرحلة النهائية» في مفاوضات جنيف بموجب القرار 2254. ما ترك الباب مفتوحاً أيضاً لبقاء مسار عملية آستانة، أو مسارات أخرى تدعم عملية جنيف والمفاوضات المقررة نهاية الشهر.
رابعاً، شرعنة «التزام» الأسد: تضمن البيان أن الرئيسين ترمب وبوتين «أخذا علماً بالتزام الرئيس الأسد بعملية جنيف والإصلاح الدستوري والانتخابات على النحو المطلوب بموجب قرار مجلس الأمن 2254». هنا، أصر الأميركيون، حسب معلومات، على إضافة عبارتي «عملية جنيف» و«القرار 2254» إلى المسودة الروسية للبيان. وتابع البيان أن الرئيسين «يعتبران أن هذه الخطوات يجب أن تشمل التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن 2254، بما في ذلك الإصلاح الدستوري والانتخابات الحرة والنزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وفقاً لأعلى معايير الشفافية الدولية، بمشاركة جميع السوريين، بمن فيهم أعضاء الشتات، المؤهلون للمشاركة». واعتبر مسؤول غربي هذا الموقف «شرعنة أميركية لموقف الأسد، بحيث إنّ هذا بات سقف الموقف الغربي خلال الاتصالات الدولية المقبلة».
كان تيلرسون قد قال بعد لقائه المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في جنيف نهاية الشهر الماضي: «تريد الولايات المتحدة سوريا كاملة وموحدة، لا دور لبشار الأسد في حكمها»، مضيفاً: «عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته. القضية الوحيدة هي كيفية تحقيق ذلك».
خامساً، غياب الانتقال السياسي والحكم: لم يتضمن البيان أي إشارة إلى «الانتقال السياسي» أو «بيان جنيف» لعام 2012، ونص على تشكيل «هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة». صحيح أنه ذكر القرار 2254، لكنه لم يتضمن أمرين: الأول، البند الأول في القرار المتعلق بتشكيل «حكم تمثيلي غير طائفي». الثاني، صوغ دستور جديد. وعكس البيان الثنائي تبنّي واشنطن موقفاً أقل من تفسير موسكو لموقف الأسد. إذ إنه بعد لقاء ألكسندر لافرينتييف، مبعوث الرئيس الروسي، مع الأسد في دمشق قبل أسبوعين، ذكر البيان الرسمي السوري تأكيد الأسد «الاستمرار في الحرب على الإرهاب من جهة، ودعم المسار السياسي من جهة أخرى، عبر رفع وتيرة المصالحات الوطنية، والحوار بين الجميع عبر مؤتمر حوار وطني في سوريا، وصولاً إلى تعديل الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة».
وتجاهل البيان السوري وقتذاك الإشارة إلى الانتخابات الرئاسية أو الدستور الجديد. لذلك كرر لافرينتييف أكثر من مرة استعداد الأسد لـ«دستور جديد، وانتخابات برلمانية ورئاسية، وإشراف دولي بموجب القرار 2254». لكن «الدستور الجديد» و«الانتخابات الرئاسية» لم يَردا في البيان الأميركي – الروسي، ما يعني أن سقف البيان أقل مما قاله لافرينتييف في آستانة نهاية الشهر الماضي.
سادساً، تراجع إزاء الشتات السوري: لم يتضمن البيان تأكيد مضمون القرار 2254 المتعلق بمشاركة سوريّي الشتات في الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، بل إنه أشار إلى حق «أعضاء الشتات، المؤهلين للمشاركة» في هذه الانتخابات. وقال دبلوماسي: «خلال عملية فيينا نهاية 2015، قدم الروس هذا التنازل المتعلق بمشاركة اللاجئين السوريين في الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، لإقناع الأميركيين بالتخلي عن مرجعية بيان جنيف، لكن الروس نجحوا الآن في إقناع الأميركيين، أول من أمس، بتقديم تنازل إضافي وتمييع القرار 2254».
سابعاً، اهتمام أميركي بميليشيات إيران و«حزب الله»: أكد ترمب وبوتين في البيان أهمية «خفض التصعيد» باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار وإيصال المساعدات الإنسانية. وإذ استعرضوا «التقدم» في هدنة جنوب غربي سوريا بموجب اتفاقهما في هامبورغ في 8 يوليو (تموز) الماضي، رحّبا بمذكرة تفاهم جديدة أميركية – روسية – أردنية وُقِّعت في عمان في 8 من الشهر الجاري.
ويتوقع أن تعزز هذه المذكرة نجاح مبادرة وقف النار لتشمل «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر «حركة النجباء» و«حزب الله» المنتشرين بين دمشق وحدود الأردن والجولان المحتل. ومن المقرر أن يراقب مركز الرصد في عمان تنفيذ ذلك، علماً بأن موسكو لم تطلب قبل الآن من طهران التزام تنفيذ سحب «القوات غير السورية» من جنوب البلاد.
ثامناً، رهان على روسيا ضد إيران: يكشف البيان رهان واشنطن على سعي موسكو لـ«تقليص» نفوذ إيران في سوريا وسحب ميليشياتها من جنوب البلاد بما ينسجم مع رسائل نقلها مسؤول الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات الأميركية إلى مسؤولين في المنطقة ودمشق الأسبوع الماضي، بوجوب إبعاد «حزب الله» وإيران عن الجنوب، في وقت تحدثت تقارير عن تعزيز إيران وجودها العسكري، كان آخرها تقرير «بي بي سي» عن قاعدة عسكرية إيرانية في منطقة الكسوة على بعد 50 كيلومتراً من حدود الجنوب.
وانقسم مسؤولون غربيون إزاء قراءة البيان المشترك، بين ترحيب بعضهم، كونه توافقاً سياسياً بين البلدين لدعم العملية السياسية في جنيف بموجب القرار 2254، وإطلاق مسار طويل للتفاهم على الحل، وبين تشكيك في التزام موسكو بتنفيذ ذلك. وقال مشككون في جدوى البيان، إن المفاوضات المقبلة لن تتناول «الانتقال السياسي» أو تشكيل «حكم» بموجب القرار 2254، بل إنها ستركز على أمور: كيفية إصلاح الدستور الحالي؟ وهل الانتخابات تكون برلمانية أم رئاسية؟ هل مبكرة أم في موعدها في 2021؟ وهل يشارك الأسد أم لا؟ وما طبيعة الرقابة الدولية؟ ومن هم سوريو الشتات الذين سيشاركون في الانتخابات؟