يُمكن القول وفق المُعطيات الميدانية حتى الساعة، وبعد مضي عشرة أيامٍ، على حرب الإبادة التي يشنها النظامُ وحليفتاه، روسيا وإيران، في الغوطة الشرقية، إن مدن وبلدات وقرى هذه المنطقة المحاصرة منذ خمس سنوات، استوعبت الصدمة الكبيرة الأولى، التي أرادت القوات المهاجمة والمُحاصِرةُ إحداثها، عبر القوة النارية المكثفة والعنيفة (براً وجواً)، وضرب الأحياء السكنية والبنى التحتية بما فيها المشافي، ثم بدء محاولات تقدّم القوات على الأرض في جبهات متزامنة، بهدف إرباك، فَكسْرِ الدفاعات العسكرية للفصائل المُدافعة، وبثّ الرعب في نفوس المدنيين، ووضعهم أمام خيارين: الموت، أو معابر روسيا “الآمنة” لتهجير أهل الغوطة. وقد استبقت الأخيرة جلسة مجلس الأمن الدولي، أمس، حول الوضع الإنساني في سورية، وآلية تطبيق القرار 2401 لوقف “العمليات العسكرية فوراً”، بتحميل المعارضة مسؤولية نجاح الهدنة التي يرى سكّان الغوطة في آلية تطبيقها الروسية، محاولةً جديدة للتهجير.

وقتل القصف المدفعي والصاروخي العنيف، والجوي الكثيف، بحسب آخر الإحصائيات التي وثقها ناشطون في الغوطة وجهات حقوقية، نحو ستمائة مدني، بينهم عشرات الأطفال والنساء (إحصائية المرصد السوري تتحدث عن مقتل أكثر من 582 شخصاً منذ الثامن عشر من الشهر الجاري، بينهم 146 طفلاً و88 سيدة)، إضافة لنحو ثلاثة آلاف مصاب خلال عشرة أيام. كذلك، أجبر القصف ما تبقّى من السكان، الذين تتطابق معظم الإحصائيات على أنهم بحدود تسعين ألف عائلة، على ترك منازلهم التي دُمّرت أو تتعرّض للقصف، ليعيشوا منذ عشرة أيام في الأقبية، كون الإقامة فيها تقلّص مخاطر البقاء خارجها.

ورغم ذلك، فإن المناورة الروسية، بالالتفاف على قرار مجلس الأمن 2401، بعد إفراغه من مضمونه، والزعم بمنح “هدنة إنسانية” لخمس ساعاتٍ يومياً، عبر توفير “معبرٍ آمن” لخروج من يشاء الخروج من المدنيين، لم تؤتِ أكلها خلال نهاري أمس الأربعاء، وأول أمس الثلاثاء؛ إذ لم يُسجّل خروج مدني واحد من “المعبر الإنساني” المُفترض خلال هذين اليومين، ولو أنه لا يمكن الجزم بما يمكن أن يستجدَّ من تطورات خلال الأيام المقبلة. فحالة “الجحيم في الغوطة”، بحسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، تبقى مفتوحة السيناريوهات مع مواصلة قوات النظام، استخدام قوة نارية كثيفة في قصف المدن والبلدات، وجبهات القتال، وقد أحرزت أمس الأربعاء، أوّل تقدمٍ فعليٍ على الأرض منذ بداية الحملة الضخمة قبل عشرة أيام، على جبهة حوش الضواهرة، شرقي دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية.

وقال حمزة بيرقدار، المتحدث العسكري باسم “جيش الإسلام”، الفصيل الذي يقاتل في جبهات حوش الضواهرة ومحيطها، إن مقاتلي فصيله “اضطروا للخروج من منطقة معمل سيفكو (نقطة متقدمة في جبهة حوش الضواهرة)، للتثبيت في خطوطهم الخلفية حيث لاتزال المعارك جارية”، موضحاً أن “خسائر مليشيات الأسد كانت كبيرة جداً خلال ساعات الليل”. وتحدّث بيرقدار عن استخدام قوات النظام في تلك المعارك لـ”المدفعية الثقيلة والطيران الحربي والصواريخ المحمّلة بالمواد الحارقة المحرمة دولياً (نابالم – فسفور) والغازات السامة”.

هذا التقدّم المحدود، لقوات النظام، يأتي بعد محاولاتٍ استمرت على مدار أسبوعٍ كامل، لاقتحام جبهات بقيت عصية عليها طيلة الأشهر الماضية. وتقاتل قوات الأسد هناك اليوم بأعدادٍ أكبر، بعد استقدام تعزيزاتٍ عسكرية من جبهات حماة وإدلب ودير الزور نحو ريف دمشق.

وقال المتحدّث الرسمي باسم “فيلق الرحمن”، وائل علوان، في حديث لـ”العربي الجديد”، إنه وبرغم حملة القصف الوحشية وحشد النظام لتعزيزاتٍ عسكرية كبيرة، فإن “المقاتلين على الجبهات يسجّلون صموداً كبيراً، وقد استعدوا لهذه المعارك، وهم أبناء الغوطة، ويعرفون الجبهات جيداً، ويدافعون عنها، رغم أنهم يقاتلون قوات النظام التي لديها دعم عسكري مفتوح، ومدعومة من الطيران الروسي والمليشيات الإيرانية”.

ولفت علوان إلى أنّ “ادعاءات روسيا حول إتاحتها خمس ساعات يومياً لخروج المدنيين، هي خطة كانت بدأتها مع تدمير البنى التحتية للمدنيين، وزرع الخوف في قلوبهم، خشية تعرضهم للهلاك بسبب الحصار الكامل بلا أدوية ولا أغذية، ولا مشافٍ”، لكن “رغم كل ذلك، لم يخرج مدني واحد، فهم متمسكون بأرضهم، معنوياتهم عالية جداً. رغم كل ما يكابدونه من آلام ومآسٍ شديدة، فإنهم لا يتذمرون، ومتمسكون بالبقاء في الغوطة الشرقية، ونحن نحمل مسؤولية إغاثتهم لمؤسسات المجتمع الدولي والأمم المتحدة”.

ورغم أنّ الجيش الروسي يدعّي بأن القصف الذي تشنّه المعارضة حال دون مغادرة المدنيين، إلا أنّ شهادات مباشرة لسكان من الغوطة تفيد بأن “الرأي الغالب في المنطقة المنكوبة لديه حساسية بالغة على مسألة مغادرة المنطقة في هذه الظروف، خصوصاً بعد موجات تهجير الزبداني وبابا عمرو وحلب وداريا… لأن أهل الغوطة يدركون أنهم في حال تركوا أرضهم اليوم، فإنهم لن يعودوا إليها يوماً”.

وفي هذا السياق، قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحافي أمس، إن “الوضع في سورية صعب ومعقد وآفاق التسوية متعلقة بالأطراف المتنازعة”، مضيفاً أنّ “المسلحين لا يسمحون لنا بإخراج المدنيين من الغوطة الشرقية، ويقصفون دمشق يومياً بما في ذلك سفارة روسيا، ولا يمكننا أن نصبر على ذلك”. في حين حمّل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أمس، فصائل المعارضة السورية مسؤولية إنجاح “الهدنة الإنسانية” في الغوطة الشرقية، موضحاً من جهة أخرى أن بلاده ستواصل دعم النظام السوري “للقضاء على التهديد الإرهابي”. وقال لافروف أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة “أعلنت روسيا والحكومة السورية إقامة ممرات إنسانية في الغوطة الشرقية، الدور الآن على المسلحين (من فصائل المعارضة) والأطراف الراعية لهم للتحرك”، مشيراً إلى أنّ “المسلحين المتمركزين هناك (في الغوطة) يواصلون قصف دمشق ومنع إيصال المساعدات وإجلاء الراغبين بمغادرة” المنطقة.

من جانبها، دعت الخارجية الفرنسية، أمس، حلفاء النظام السوري إلى ممارسة أقصى ضغط عليه حتى يلتزم بوقف إطلاق النار، مؤكدةً أن حكومة النظام لم تلتزم بوقف إطلاق النار المدعوم من الأمم المتحدة في الغوطة الشرقية على عكس مقاتلي المعارضة.

بدورها، بعثت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، أمس، برسالة إلى روسيا وتركيا وإيران تطلب فيها اتخاذ كل الخطوات الضرورية لضمان وقف القتال في سورية. ودعت موغيريني إلى عملية “آمنة ومستقرة تقودها الأمم المتحدة لتسليم مساعدات إنسانية وتوفير خدمات وعمليات إجلاء طبي” في الغوطة الشرقية.

إلى ذلك، اعتبر المحلل العسكري أحمد رحال، أن طريقة النظام حالياً في الغوطة الشرقية، أشبه ما تكون بنظرية عسكرية قدمها قبل عقود جنرال إيطالي يُدعى جيوليو دوهيت، تعتمد على أن “الآلية التي يمكن الانتصار بها في الحرب بسرعة هي القصف الاستراتيجي والمركّز على المدنيين في مناطق (العدو)، مع إبقاء الاشتباكات مستمرة بشكل متوسّط ومنخفض الوتيرة على الجبهات، على مبدأ: لا يمكن استمرار وتيرة الحياة الطبيعية في ظلّ التهديد الدائم بالموت والدمار”.

وبحسب هذه الاستراتيجية، فإن “عامل الهزيمة في الحرب يأتي من قهر الشعب من خلال القصف الممنهج والمكثّف بهدف إيقاع عدد كبير من القتلى بين صفوف المدنيين، إضافة إلى تدمير البنية التحتية الاستراتيجية والمستشفيات ومستودعات الطعام وآبار المياه وطرق المواصلات. وهذا الأسلوب من القصف سيجبر المدنيين على قبول الهزيمة، أو بأسوأ الأحوال زرع روح الهزيمة في المدنيين، سيجعلهم ينقلونها إلى المقاتلين وفق آلية نفسية معروفة: الحفاظ على الحياة من أهم المتطلبات”. بالتالي إن “العامل الجوهري في تحقيق هذا النصر وفق هذه الخطة، هو عاملٌ نفسي بأساليبٍ عسكرية. وهذا ما طبّقه الروس في غروزني، عاصمة جمهورية الشيشان (1999)، ثمّ في مناطق متعددة أهمها في حلب (2016) والآن في الغوطة الشرقية”.

ويرى المحلل نفسه في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أنه “لا يمكن الحديث عن أن الغوطة الشرقية الآن قد استوعبت أو امتصت الصدمة الكبيرة بشكل كامل، لكنّ صمود المقاتلين على الجبهات هناك أسطوري، وهم يُفشِلون حتى الآن أي تقدّم بري”، لافتاً إلى أن “النظام والروس والإيرانيين يدركون جيّداً قوة الفصائل في الغوطة، ولذلك يعمدون إلى محاولة كسر ذلك بالمجازر الوحشية بحق المدنيين يومياً”. وختم رحال حديثه بالقول إنّ “هناك حراكاً دولياً هذه الأيام، لم تتضح معالمه بعد، أبرز عناوينه فتح ملفات كيميائي النظام، وتهديد دول كبرى بضربة عسكرية ضده أو ضد القواعد الإيرانية. وكل هذا يقرأه الروس جيداً، وربما يشكل عائقاً إضافياً أمام تطبيق خططهم في الغوطة الشرقية”.