كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

«لقد قرر هذا الرئيس أنه إذا كان ضحلاً، وأنصاره ضِحال مثله، فإنه سيبذل ما في وسعه ليجعل مجتمعنا أكثر ضحالة. لعلّ هذا هو هدفه الأشدّ طموحاً، بالنظر إلى مستوى ما انحدرنا إليه». هكذا تكلم دافيد روثكوف، المدير التنفيذي والمحرر في مجموعة «فورين بوليسي»، في توصيف حال «الدولة الضحلة» كما يقودها، حالياً، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وهذه الدولة، على نقيض تلك «العميقة» بالطبع، تبغض «المعرفة، والعلائق، والرؤية، والاحتراف، والمهارات الخاصة، والإرث، والقيم المشتركة»، وتحتفي بالجهل، ولهذا فإنّ ترامب هو بطل هذه الدولة، وقد فاز بالسلطة لأنّ أنصاره «يتهددهم ما لا يفهمونه، وما لا يفهمونه هو كلّ شيء تقريباً»، يضيف روثكوف، في مقال نشره موقع «فورين بوليسي مؤخراً، تحت عنوان «الدولة الضحلة».
ليس هذا فقط، وأبعد من ترامب نفسه (إذْ يقرّ روثكوف أنّ رؤساء على شاكلة رونالد ريغان وجورج بوش الابن لم يكونوا أعلى مستوى، فكرياً، من الرئيس الحالي)، بل إنّ تسمية «أعداء الشعب» التي استخدمها ترامب لتوصيف الصحافة، إنما تنبثق من حقيقة أنّ الرئيس وأنصاره «في حالة حرب مع الحقيقة والمعرفة». وهذه الإدارة صعدت إلى السلطة لأنّ أمريكا «سمحت بانحدار الخطاب، ومستوى التعليم الذي يتلقاه أطفالنا، والمعايير التي اخترناها لأنفسنا»، ولهذا فإنّ ترامب «يسعى إلى مأسسة ذلك الانحدار. إنه في حالة حرب مع ذاك الذي جعل مجتمعنا عظيماً»! وعند الكثيرين من أنصار ترامب، «المعرفة ليست أداة مفيدة بل هي عائق خبيث خلقته النخبة لإبعاد السلطة عن المواطن العادي، رجلاً وامرأة»، والخلاصة ذاتها تنطبق، عندهم، على التجربة، والمهارات، والخبرة، وبالتالي، «الحقيقة صعبة، والضحالة سهلة»، يستخلص روثكوف.
والحال، بادئ ذي بدء، أنّ «أنصار ترامب» ليسوا زمرة أو عصبة أو جمهرة، بل هم 62,979,636 من الناخبين، نساء ورجالاً، أي 46,1 في المئة من مجموع الذين صوّتوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهم، كذلك، 304 (مقابل 228 للخاسرة هيلاري كلنتون) من مجموع الهيئة الانتخابية. هذا يعني أنهم دولة عميقة، بالمعنى الديمغرافي (والديمقراطي، أيضاً، حتى إذا كانت كلنتون قد تفوقت على ترامب في مستوى الاقتراع الشعبي العام)، ولا يغيّر من هذه الأرجحية أنهم، وفق منظورات روثكوف، أنصار دولة ضحلة. حري أن يدور السجال، في المقابل، حول ما إذا كانت الهوية الفعلية لأمريكا الراهنة هي ذلك المقدار من التكامل بين ما هو عميق وما هو ضحل، ما هو معرفيّ وما هو جهل، ما هو كلنتون وما هو ترامب…
وثانياً، وهو التفصيل الأهمّ ربما، هل نمت هذه «الدولة الضحلة» فجأة، من غامض علوم التاريخ الأمريكي؟ وهل استقرت، وباتت ثقافة وسلوكاً وإيديولوجية، في غفلة من أزمنة أمريكا؟ وأين كان روثكوف، نفسه، حين أخذت الضحالة تضرب بجذورها في نفوس 62 مليون امرأة ورجل من نساء أمريكا ورجالها، شيبها وشبابها؟ هذه أسئلة جديرة بإعادة النقاش إلى مفهوم «الإمبريالية الثقافية»، الذي تغنى به روثكوف نفسه قبل عقدين من الزمان، حين كان المدير الإداري لمؤسسة «كيسنجر وشركاه»، أشهر معاقل الاستشارات الكونية الجيو ـ سياسية، حيث عمل عشرات الخبراء، وكبار متقاعدي مناصب رفيعة في الإدارات الأمريكية، من مرتبة مستشار الأمن القومي إلى وزير الخارجية.
أبرز أفكار روثكوف، بصدد «الإمبريالية الثقافية»، سارت هكذا:
ـ تكنولوجيا المعلوماتية، وبالأحرى انفجار تكنولوجيا المعلومات، هو أبرز مظاهر العولمة الراهنة التي يشهدها العالم بأسره.
ـ الولايات المتحدة هي سيّدة هذه الثورة وصاحبة الباع الأطول في تطويرها وتصديرها. إنها تسيطر تماماً على «أوتوستراد المعلومات»، أكثر من أي بلد آخر على الإطلاق. العالم يصغي إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهد التلفزات الأمريكية، ويستخدم البرامج الكومبيوترية الأمريكية، ويأكل الأطعمة الأمريكية، ويلبس الثياب الأمريكية. الأمريكيون يتحكمون في سمع وبصر وذوق ومعدة وعقل العالم. العالم يتأمرك بقوة واضطراد.
ـ ثقافات العالم الأخرى لا تستطيع مقاومة هذا الغزو الأمريكي الشرعي، وحالها أشبه بحال الملك كانوت (أحد ملوك الفايكنغ في القرون الوسطى)، الذي نصب عرشه أمام البحر، وأمر الأمواج بالانحسار. مطلوب بالتالي أن تستغل مختلف إدارات البيت الأبيض هذا الوضع الاستثنائي، فتترجم شعار «الولايات المتحدة بلد لا غنى عنه»، إلى واقع فعلي يدشّن القرن الحالي، ويهيمن عليه.
ـ لا ديمقراطية، ولا أوهام ليبرالية أيضاً، حول ضرورة إفساح المجال أمام الثقافات الوطنية لكي تترعرع وتحتفظ بهوياتها الوطنية. ولا مجال أيضاً أمام فكرة «التعددية الثقافية»، الرومانتيكية في الجوهر، المنتمية إلى عصور القوميات، المعرقلة للمزيد من نشر وانتشار العولمة الشاملة.
ـ البديل الوحيد المتاح، بل المطلوب بإلحاح شديد، هو تعميم الثقافة الأمريكية، وحدها وحصراً. وكتب روثكوف حرفياً: «قد يجادل الكثير من المراقبين بأنه من غير المستحب انتهاز الفرص التي تخلقها الثورة المعلوماتية العالمية، من أجل فرض الثقافة الأمريكية على الآخرين. ولكنني أجادل بأن هذا النوع من النسبوية خطير بقدر ما هو خاطىء. ذلك لأن الثقافة الأمريكية مختلفة جوهرياً عن جميع الثقافات الأصيلة في العالم، وهي جماع متجانس من المؤثرات والمقاربات الكونية، وهي منصهرة في خلاصة خاصة تتيح تطوّر الحريات الفردية والثقافات الفردية على حدّ سواء».
ـ تأسيساً على هذه المحاجّة، تابع روثكوف: «ينبغي أن لا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي ليست في نهاية الأمر سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة أن لا تتردد برهة واحدة في تعميم قيمها وأخلاقياتها. وينبغي على الأمريكيين أن لا ينسوا لحظة واحدة أن ثقافتهم، وحدها ودون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية».
حسناً، أليست هذه الثقافة، الأمريكية والإمبريالية، التي اقترحها روثكوف على الإنسانية جمعاء، هي، ذاتها، التي أنتجت ترامب، وأنصاره، ودولتهم الضحلة التي تبغض المعرفة والحقيقة؟ أم أنّ هذه الثقافة تبدّلت وتحوّلت، أو حتى مُسخت، وجاز التخلي عنها أو نقدها على الأقلّ، وفي هذه الحالة، لماذا لا ينتهج روثكوف هذا الخيار، هذه الأيام تحديداً؟ وهل يصحّ، عقلياً ولكن تاريخياً أيضاً، فصل عوالم السياسة الداخلية الأمريكية، عن السياسات الخارجية، والتساؤل، بالتالي، عن أبعاد «الضحالة» في مواقف ترامب الأخيرة من حلّ الدولتين في فلسطين، مثلاً، أو مراجعة اتفاقيات المناخ، والتجارة الدولية، والنووي مع إيران، في أمثلة أخرى؟
المنطقي أنّ روثكوف غير غافل عن فلسفة الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ولسون (الذي يصعب اتهامه بصناعة دولة ضحلة!)، بصدد الدور الداعم الذي يتوجب أن يلعبه جهاز الدولة في أمريكا، بالنيابة عن الرأسمالية الكونية: «لأنّ التجارة تضرب صفحاً عن الحدود، والصناعيّ يلحّ على امتلاك العالم بأسره سوقاً له، فإنّ من الواجب على عَلَم بلاده أن يرفرف خلف ظهره. ويجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون».
أليس ترامب، في نهاية المطاف، رئيس دولة عظمى، ثانياً، لكنه، أوّلاً، وقبلئذ، رجل أعمال… رأسمالي؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس