كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

في كتابه «إرادة القيادة: دور أمريكا الذي لا غنى عنه في المعركة العالمية من أجل الحرية»، الذي صدر بالإنكليزية الشهر الماضي، يناقش أندرس فوغ راسموسن، وزير خارجية الدنمارك الأسبق والأمين العام السابق للحلف الأطلسي، ضرورة وجود الولايات المتحدة في الصفّ الأوّل المسؤول عن قيادة الكون. على خلاف عقيدة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، يمتدح راسموسن رؤساء سابقين من أمثال هاري ترومان وجون كنيدي ورونالد ريغان؛ ليس من أجل مساندة دعاة الحرية و«القِيَم الحضارية» المعاصرة (الغربية، إجمالاً، بالطبع)، فحسب؛ بل كذلك لردع القوى «المفسدة» في الأرض.
ولأنه كان على رأس الـ«ناتو» أثناء تدخّل الحلف في ليبيا، وعمليات القصف الجوي الماحقة التي نُفّذت تحت شعار إسقاط الدكتاتور الليبي معمر القذافي؛ فإنّ الحال الليبية الكارثية هذه الأيام، فضلاً عن مستقبل البلد الذي يبدو مظلماً في كلّ معيار ومقياس، هي دليل أوّل، ومأساوي، يوضح مآلات التطبيق العملي لنظرية راسموسن حول القيادة الأمريكية. فإذا وضع المرء أوباما جانباً، وعاد القهقرى إلى نماذج التدخل الأمريكية في العراق أيام جورج بوش الابن، فإنّ الطامة تبدو أكبر، وأشدّ دحضاً لآراء الدنماركي المولّه بالقائد الأمريكي!
والحال أنّ زبغنيو بريجنسكي ـ أحد أقطاب السياسة الخارجية الأمريكية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومهندس «الصناعة الجهادية» في أفغانستان ضدّ السوفييت ـ كان، قبل عقد من الزمان، قد بلغ نتيجة مناقضة لما يحلم به راسموسن اليوم. ففي كتابه «الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية»، 2005، اعتبر بريجنسكي أنّ الهيمنة العالمية وهمٌ عفا عليه الزمن؛ في حين أنّ قيادة عالمية من طراز آخر هي الخيار الوحيد الصالح لمستقبل أمريكا. من الواضح أنّ العالم يعيش حال انتقال تاريخية، وفي رأي بريجنسكي فإنّ الولايات المتحدة هي القوّة العسكرية والثقافية الدافعة التي توجّه ذلك التحوّل، شاءت ذلك أم أبت. غير أنّ السؤال، مع ذلك، ظلّ التالي: ما هي رؤية أمريكا لذلك المستقبل، وكيف ستُفرض تلك الرؤية على امتداد العالم؟ بعض الإجابة أتى في سلسلة الكوارث التي أعقبت كلّ تدخّل أمريكي، من أي طراز ونمط وطبيعة!
ولكي يبقى المرء في المثال الليبي، فإنّ «عقيدة أوباما»، دون سواها، لم تمنع القاذفات الأمريكية من دكّ الأخضر واليابس في ليبيا، وإلحاق دمار شامل بقطاعات واسعة من بنية البلد ومعماره المدني؛ ولم تمنع، في النتيجة، منظومة الأخطاء الأمريكية الكبرى، العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وما نتج عنها من وقائع ساخنة ما تزال تلاحق هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية يومذاك، والمرشحة الرئاسية اليوم. راسموسن كان هناك، أسوة بسيّد البيت الأبيض، وقادة «العالم الحرّ» عن بكرة أبيهم. وكذلك كان برنار ـ هنري ليفي، مشعوذ الفلسفة الفرنسي وعرّاب المشاركة الفرنسية في التدخّل؛ وأيضاً… كان فلاديمير بوتين هناك، حتى إذا لم تشارك قاذفاته في القصف، إذْ لولا رضا موسكو لما صدر قرار مجلس الأمن الدولي الذي أسبغ «شرعية دولية» على عمليات الأطلسي.
الآن، بعد هذا كله، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تستنجد بالمملكة العربية السعودية، لاحتضان مفاوضات ليبية ـ ليبية شاملة، تشارك فيها جميع «أطراف النزاع»؛ لعلّ الرياض تجترح حلاً على طريقة اتفاقية الطائف اللبنانية. وإذْ تحرص واشنطن على إعلان دعمها لحكومة الوفاق الوطني، وأنّ «النفط ثروة كلّ الليبيين ومسؤولية إدارته وحمايته من اختصاص المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق»؛ فإنها، من جهة ثانية، تحار في أمر رجلها السابق، الجنرال خليفة حفتر، الذي فرض قبضته العسكرية على قطاع النفط تحديداً. وأمّا البنك الدولي، ربيب الرأسمالية المعاصرة وقرين الحلف الأطلسي، فإنه لا يكتفي بالتباكي على اقتصاد ليبيا، بل ينذر ببساطة: هذا بلد على شفير الهاوية.
.. ثمّ يأتيك مَن يحلم بتدخّل أمريكي جديد، يبشّر بهاوية أفظع!

“القدس العربي”