وسام سعادة

بعد هزيمة انتفاضة السبارتاكيين في برلين، وسحقها على يد حكومة فردريش ايبرت الإشتراكية – الديمقراطية المستعينة بميليشيات «الفرايكوربس» اليمينية المتطرفة، كتبت القيادية الثورية روزا لوكسمبورغ مقالتها الأخيرة قبل اختطافها واعدامها، وهزأت من «حراس النظام العام» (الأوردر) الذين يسعدون كل نصف قرن لأن «النظام العام» عاد يسود في مدينة خرجت عن طوعه. اعتبرت روزا في مقالتها «النظام العام يسود في برلين» أن هؤلاء «الظفراويين» الزاهين بانتصارات الطغاة السفّاحين على المنتفضين والمتمرّدين، من فرصوفيا إلى باريس إلى برلين، لا يدركونّ أنّ «النظام العام» الذي يحتاج دورياً لهذا الكمّ من الذبائح الدموية ذاهب لا محالة نحو خرابه.
في كلمات روزا لوكسمبورغ الأخيرة الكثير من المحفوظ سرّه لحلب، ما دام «النظام العام» أو «الإخماد العام» يتجّه لأن يسود في عاصمة الشمال السوري، هي أيضاً. وعنوان مقالة روزا «النظام العام يسود في برلين» يستعيد في الأساس كلمات وزير الخارجية الفرنسية هوراس سيباستياني أمام البرلمان عام 1831، حيث جاء الرجل، بكل صفاقة، يسخر من المطالبين بدعم الإنتفاضة البولندية بوجه الروس، بأنّه قضي الأمر و»عاد الهدوء»، أي «النظام العام»، أي «الجيش الروسي»، يسود في فرصوفيا المستباحة. بعد 115 عاماً على إخماد الروس لإنتفاضة فرصوفيا، تعود كلمات سيباستياني، بما يعادلها، لتلخّص ما يردّده، ليس فقط النظام البعثيّ وأبواقه وأعوانه، بل أيضاً شبكة واسعة من السياسيين والصحافيين والأكاديميين في الغرب، فتجدهم يرقصون كالنسانيس لأنّ «النظام العام عاد إلى حلب». الإرتياح في الغرب، لمناظر تركيع وإخماد المدن العاصية، من زمن نقولا الأول إلى زمن فلاديمير بوتين، عمره من عمر الحداثة السياسية.
بيدَ أنّ «سيباستيانيي» اليوم سيحتجون، بأنّ السلسلة مقطوعة بين إنتفاضة فرصوفيا وكومونة باريس وروزا لكسمبورغ وبين الفصائل المسلّحة السوريّة التي تنقل بالباصات إلى خارج حلب. فالأرستوقراطية البولندية الثائرة عام 1831، كما الطبقة العاملة البرلينية عام 1919، تشتركان في الإنتماء إلى تركة عصر التنوير الأوروبي، وإنتقال السيادة من الغيب إلى الإنسان، في حين تصعب المكابرة على العداء الدفين الذي تكنّه الفصائل الجهادية في سوريا ضد مشاريع التنوير لتهبيط السيادة من فوق إلى تحت، أي من الإله إلى الإنسان.
والسلسلة هي بلا شك مبتورة. هناك أمل أن تجد ضابط مخابرات سوريّ سمع بالرفيقة روزا لوكسمبورغ، وليس هناك أمل أن تجد من سمع بها بين أمراء الفصائل المسلّحة، بما فيها التي تحيل على مسمّى «الجيش الحرّ» بشكل أو بآخر. الخيارات الأيديولوجية لهذه الفصائل ليست فقط مجرّد «قشرة» عارضة يمكن تنحيتها جانباً، والنفاذ بعد ذلك إلى الوجدان التحرّري المُخزّن أو المورّى، بلا مشاكل. أن تكون الثورة تحرّرية ورجعية في وقت واحد فهذه معضلة لا يمكن حلّها بثنائية «الظاهر الرجعي» و»اللب التحرّري»، أو العكس. وأن تكون الثورة تحرّرية ورجعية في وقت واحد، فهذا تاريخ ممتد، للمفارقة، من إيران حتى سوريا، ايران التي يتحرّك نظامها «الثوريّ الرجعيّ» بشهوانية عطشى لمحاربة «الثورة الرجعية» في سوريا.
بيد أنّ السلسلة المبتورة بين ثورات تنتمي إلى مرجعيات عصر التنوير، وبين ثورات مناوئة للتنوير، لا يعني أنّ السلسلة الموازية، السيباستيانية، من أحباء تركيع المدن العاصية، مبتورة. بالعكس تماماً، هنا يطغى التواصل والتكرار وامتداح «النظام العام» إيّاه، وترنيم الأهازيج المغتبطة بمشاهد «الإخماد»، وفقاً للمعادلة التي نسبها كارل ماركس للفرسائيين الغزاة وهم يهمّون بسحق كومونة باريس، بأنّ «نهاية من رعب خير من رعب بلا نهاية». وأكثر ما يجعل سلسلة السيباستيانيين، موصولة ببعضها البعض، هي فكرة إعادة «النظام العام» (الأوردر): امتداح فضائل ومحاسن «الهدوء» في مدينة مستباحة أو مدمّرة، ونشدان السكينة فوق الركام والجثث. علماً أنّ سيباستيانيي الأمس ما كانوا يعترفون للمتمرّدين والمنتفضين بنسبهم التنويري العقلاني الذي يبرّر سيباستيانيو اليوم نصرتهم لنظام آل الأسد بعدم التزام ثوار سوريا به. بالعكس تماماً. كانوا يعتبرونهم مجرمين ومجانين، و»داعش ونصرة» بالسليقة أو بالدم. فبعد خمس سنوات على سحق كومونة باريس، نشر الطبيب وعالم النفس سيزار لومبروزو كتابه «الإنسان المجرم» عام 1876، كحصيلة لأبحاثه العينية على جثث الضحايا وعلى السجناء من «الكومونار»، «ليخلص» أنّهم مجرمون بالولادة، وهذا باد من تكوينة الفك والأنف والحاجبين، ومن استظرافهم للأوشام. وبالتوازي، طوّرت اللغة المواكبة للإدارة الإستعمارية في القرن التاسع عشر، وفي الهند والجزائر خصوصاً، تفرقة بين «قبائل لصوصية مجرمة» وبين «أقوام محلية محاربة». القبائل المجرمة أعتبرت كذلك بحكم تكوينها الوراثي، وينبغي قمعها أو عزلها وعدم التغافل عن طبيعتها المتأصلة فيها تلك، و»الأقوام المحلية المحاربة» ينبغي الإستفادة من نخوتها وشجاعتها في القتال (ويمكن حتى – بحدود معينة – المحافظة على التقدير المعطى لها حتى لو تمّردت هي الأخرى)، وإستخدامها لتأمين النظام العام، ولو اقتضى الأمر بنقلها إلى مستعمرة أخرى عبر البحار. خلف كل الرطانة حول كون النظام السوريّ «أهون الشرّين»، وحول كون أهون الشرّين هو الشرّ القادر على إخماد الشر الآخر، تجري استعادة هذه الثنائية الكولونيالية التقليدية بين «القبائل المجرمة» وبين «الأقوام المحلّية المحاربة».
يتعاطى النظام البعثي في سوريا مع نفسه على أنّه «النظام الهيكلي» (السستام، أو النسق)، وعلى أنّه «نظام الحكم» (الريجيم)، لكنّ الفرقة «السيباستيانية» الموالية له بين ساسة اليمين واليسار («النابغة» ميلانشون، مثلا!) وفي الأكاديميا والإعلام الغربيين تمتدحه لطبيعة ثالثة، وهي أنّه «النظام العام» (الأوردر)، وأنّ نجاحه في إخماد تمرّد في نقطة بعينها، هو نجاح لكلّ «حرّاس النظام العام» للبشرية «المفيدة» عبر العالم. ينتقل هؤلاء من تجريم متمرّدين بعينهم على نظام الأسد إلى تجريم فعل التمرّد نفسه على آل الأسد. في البدء، يساجلون ضدّ التناول الأخلاقوي للأوضاع السوريّة، فيكون بديلهم عن هذا التناول تجريم المنتفضين والمتمرّدين، وإن لزم يجرّمون الأسد نفسه، لا مشكلة، ما دام المجرم المناط به تحقيق النظام العام وإخماد المجرمين الآخرين! عندما تدعو الناس لأخذ مسافة عن التناول الأخلاقوي للأوضاع يصير غير علمي وغير أخلاقي في آن أن تتناول الأوضاع بشكل «كريمينولوجي» فظ، حتى اذا نحيت عن المشهد الجريمة الكبرى، المتمثلة بواقعة استخدام النظام للسلاح الكيماوي ضد المنتفضين عليه (وتسليمه على أثرها، ترسانته منها في مقابل غض الطرف عنه، بعد قرع طبول الحرب ضده ثم الإستعاضة عنها بعرض المبادلة)، زادت الفاتورة، الأخلاقية والسياسية والعلمية.
بين روزا لوكسمبورغ والفصائل المقاتلة في حلب مسافة من الصعب اجتيازها. لكنّ «الهدوء يسود حلب» كما ساد قبلها كل المدن العاصية على «النظام العام» في القرنين الماضيين. لا يعني هذا أنّ الحرب السورية آيلة للإنحسار، مثلما أنّ الأسلوب «النبوي» لمقالة روزا الأخيرة، عشية اعتقالها وقتلها، مفيد لتشخيص الآلية القربانية لـ»النظام العام»، والمحتفلين بـ»سكينة» المدن المستباحة والمدمّرة، أكثر من فائدته لصالح توقعها أن ينقلب السحر على الساحر في خاتمة الأمر، ولو أنّ روزا أجادت فهم مسألة أساسية، كلية الراهنية حيال سوريا أيضاً، وهي مسألة التناقض بين «النظام العام الذي يسود» في مدينة بعد مدينة، وبين مفهوم «السلام». النسانيس السعيدون بمنظر المدن المحطّمة، والصمت الصاعد من أكوام الجثث، هم أعداء موصوفون لفكرة السلام.

٭ كاتب لبناني

“القدس العربي”