كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

في مناسبة الحدث الأمريكي الجلل، بامتياز، أي امتناع واشنطن عن التصويت بدل استخدام الـ»فيتو» في مجلس الأمن، بصدد قرار يخصّ إسرائيل؛ وكذلك، في مناسبة تغريدة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب («لا يمكننا السماح بأن تستمر معاملة إسرائيل بازدراء كامل وقلة احترام»)، التي تستحق صفة «التاريخية» بالمعنى الأشدّ تعبيراً عن المسخرة؛ ثمة مغزى في استعادة هذه الحكاية، حول العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية إجمالاً، وتراث الرضوخ أمام ضغوط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بصفة محددة.
وفي هذه الحكاية لم يكن الراضخ سوى الجنرال دافيد بترايوس، القائد السابق للقوّات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، والقائد السابق للقيادة الوسطى CENTCOM، و«البطل الأمريكي الكبير» حسب توصيف جون ماكين. الفصل الأول يبدأ من أواخر العام 2009، حين كلّف بترايوس فريقاً من الباحثين العسكريين بزيارة الشرق الأوسط، والاستماع إلى رأي عدد من الزعماء والمسؤولين العرب، حول الأسباب التي تجعل أمريكا مكروهة إلى هذه الدرجة في أنظار أبناء المنطقة؛ وكأنّ الجنرال، ومعه أفراد الفريق، كانوا يجهلون حقيقة تلك الأسباب! وفي 16 كانون الثاني (يناير) 2010، أرسل بترايوس فريقه إلى وزارة الدفاع الأمريكية، لعرض نتائج الأبحاث على الأدميرال مايكل مولن، رئيس الأركان المشتركة.
وقيل إنّ الأخير أُصيب بالذهول وهو يتابع عرض التقرير، الذي استغرق 45 دقيقة، مدعماً بالصور والشرائح والتسجيلات الصوتية والبيانات الإحصائية. والخلاصة، ببساطة، كانت هذه: إنّ فشل أمريكا في كبح جماح إسرائيل يعرّض المصالح الأمريكية للخطر، ليس في بلدان الشرق الأوسط وحدها، ولكن في جنوب شرق آسيا أيضاً.
الفصل الثاني: في 18 من الشهر ذاته، ومن باب متابعة خلاصات التقرير، أرسل بترايوس إلى مولن اقتراحاً غير مسبوق، يوصي فيه بسحب الضفة الغربية وقطاع غزّة من اختصاص القيادة الأوروبية EUCOM، وضمّها إلى اختصاص القيادة الوسطى؛ وذلك لمنح العرب إشارة قوية، حتى إذا كانت رمزية، بأنّ الولايات المتحدة تضع النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في صدارة اهتماماتها، وتعتبره القضية المركزية في المنطقة.
يومذاك، توفّر مَن رجّح (مثل غاري لويب، أستاذ التاريخ في جامعة تافتس، وأحد أبرز المساهمين في المؤلف الهام «حروب صليبية إمبريالية») بأنّ البيت الأبيض، أكثر من الـ»بنتاغون»، كان المقصود بالتوصية تلك، والتي ذهبت أدراج الرياح، بالطبع.
الفصل الثالث: في 9 آذار (مارس)، قام الأدميرال مولن بزيارة إسرائيل، فاجتمع مع غابي أشكنازي، رئيس أركان جيش الدولة العبرية؛ وتردد أنّ الأوّل أبلغ الأخير ضرورة أن تضع إسرائيل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في «سياق إقليمي أعرض»، له تأثير مباشر على وضع أمريكا في المنطقة. وفي اليوم إياه ـ يا لمحاسن الصدف وتصاريف الأقدار! ـ يكون جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، في زيارة رسمية إلى إسرائيل، حيث سيتلقى الصفعة الشهيرة: أنّ حكومة بنيامين نتنياهو لا ترفض تجميد المستوطنات، فحسب؛ ولكنها تستقبل بايدن بالعزم على بناء 1600 مستوطنة جديدة، وفي القدس الشرقية.
وقيل إنّ نائب الرئيس استشاط غضباً (خلال جلسة مع نتنياهو، خاصة ومغلقة بالطبع)، فأبلغ الأخير أنّ قرارات كهذه «بدأت تكتسي طابعاً خطيراً بالنسبة إلينا. وما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان.
هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة». والصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في «يديعوت أحرونوت»، زوّد العالم بتفصيل حاسم آخر، جاء على لسان بايدن خلال تلك الجلسة: سوف يكون لمثل هذه القرارات «تأثير مباشر على السلامة الشخصية للقوّات الأمريكية التي تكافح الإرهاب الإسلامي»!
الفصل الرابع: في 16 آذار، يمثل الجنرال بترايوس أمام لجنة القوّات المسلحة في الكونغرس (حيث سُيصاب بإغماء مؤقت، استدعى تاجيل الجلسة)؛ فيقدّم شهادة مكتوبة تقع في 56 صفحة، يقول في إحدى فقراتها: «المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تطرح تحديات ملموسة على قدراتنا في رعاية مصالحنا. ويحدث غالباً أن تنقلب التوترات الفلسطينية ـ الإسرائيلية إلى عنف ومواجهات مسلحة واسعة النطاق. والنزاع يثير شعور العداء لأمريكا، بسبب إدراك تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. والغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحدّ من قوّة وعمق الشراكات الأمريكية مع الحكومات والشعوب في المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي. وفي غضون هذا، تلجأ «القاعدة» ومنظمات أخرى متحزبة إلى استغلال هذا الغضب لحشد الدعم».
الفصل الخامس: في اليوم ذاته، تسارع سارة بيلين، المرشحة الرئاسية السابقة عن الحزب الجمهوري، إلى كتابة مقال في صفحتها الشخصية على الـ»فيسبوك»؛ توجه فيه الملامة الشديدة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، ونائبه بايدن، بسبب «اختلاق» مشكلة مع إسرائيل حول المستوطنات، تستفيد منها «إيران وحلفاؤها الإرهابيون». وإذا كانت بيلين قد تعمّدت توفير الجنرال بترايوس، لأسباب جلية تخصّ موقعه العسكري وشعبيته الطاغية لدى أعضاء الحزب الجمهوري يومذاك، فإنّ النقد المبطن كان يطاله أيضاً، وربما أكثر من أوباما وبايدن. وأمّا المغزى الأهمّ في مقالة بيلين، فقد كان قرع جرس الإنذار المبكر أمام الجنرال، الذي التقط الإشارة على الفور في الواقع، وابتدأ مسيرة الانحناء!
الفصل السادس: في 18 آذار، يتلقى الجنرال بترايوس رسالة إلكترونية من أحد المستشارين في وزارة الخارجية الأمريكية، يحيل فيها رابطاً لمقالة تمتدح مواقف بترايوس من النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ وتشير إلى مقالة بيلين، وتضع الجنرال في مصافّ أعلى من الأخيرة في أيّ سباق قادم على بطاقة ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية. والمستشار هذا أراد لفت أنظار الجنرال إلى أنّ اللعبة أخطر بكثير من الإدلاء بآراء لا ترضي اللوبي اليهودي، لأنها في نهاية المطاف يمكن أن تمسّ مستقبل الجنرال المدني… الرئاسي، في البيت الأبيض، ليس أقلّ!
الفصل السابع، والأخير: يقرّر الجنرال إحالة الرسالة الإلكترونية إلى ماكس بوت، عضو «مجلس العلاقات الخارجية» وأحد أشرس، وأغبى، أقلام المحافظين الجدد، فيستعطفه ضمناً: «أنت تعلم بأنني لم أنطق بهذا الكلام شخصياً، بل هو مدوّن في شهادة توثيقية فحسب». ويردّ بوت: «لحسن الحظّ، يا أخي، هي محض مسائل في الصحافة ليست لها مصداقية، ولكن أظن أنّ عليّ كتابة مقال آخر قصير، أوضّح فيه للناس ما قلتَه أنت، على نقيض ما في التصريح الرسمي».
وبعد أن يردّ الجنرال شاكراً، يسأل: «هل يفيد التذكير بأنني استضفت إيلي فيزل وزوجته في مقرّ أركاننا الأحد الماضي؟ أو أنني سأكون الخطيب الرئيسي في الذكرى الـ65 لتحرير معسكرات الإعتقال النازية؟». ذروة المهزلة، السوداء دائماً، أنّ بوت ردّ بالقول: «لا أظنّ أنّ لهذا صلة بالموضوع، إذْ أنك لستَ متهماً بالعداء للسامية»!
سبعة فصول، قصيرة متلاحقة، كانت كافية لكي ينقلب ضمير الجنرال رأساً على عقب، فلا يكتفي بالتنازل عن تصريحات جاءت مكتوبة باسمه، رسمياً، وأمام الكونغرس، فحسب؛ بل يسقط إلى درك استعطاف واحد من أسوأ كتّاب مجلة «كومنتري»، الصهيونية اليمينية المحافظة، لكي يحفظ له ماء الوجه أمام تماسيح اللوبي اليهودي، أو في مواجهة مرشحة خائبة مثل بيلين. وفي المقابل، كيف للمرء أن لا ينتقل من أمثولة رضوخ جنرال كان يومها الأكثر شعبية في الشارع الأمريكي، إلى أمثولات انحناء الرئيس الأمريكي أوباما، نفسه، أمام نتنياهو؟ وكم من المرّات تكررت فصول مشابهة، لا جديد فيها سوى إعادة إنتاج القديم؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس