كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كانت هدنة جنوبي غرب سوريا، في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، التي اتُفق عليها في تموز (يوليو) 2017 بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن؛ هي الأولى التي تمّ التوصل إليها في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك بعد اللقاء الأول وجهاً لوجه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت الأولى، أيضاً، على صعيد التوافق الروسي ـ الأمريكي حول مصطلح «خفض التصعيد». ويومذاك، تبادل وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريك تيلرسون مع زميله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأدوار في شرح إمكانية التعاون بين البلدين حول الملفّ السوري، كما تقاسما مهمة شرح محاسن خطة الهدنة؛ وذلك رغم اختلافهما في تفسير الحضور الروسي (من خلال الشرطة العسكرية الروسية)، أو التزام النظام السوري والميليشيات الإيرانية بالهدنة، ثمّ دور الرقابة الموكل إلى العناصر الأمريكية والأردنية.
في العمق والخلفية كانت مصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي في صلب هذه الهدنة، على ثلاثة أصعدة ظاهرة (بين أخرى خافية وغير معلنة، معتادة تماماً في حالات مثل هذه). الأول هو الاشتراط الإسرائيلي بأن تكون الدول الثلاث ضامنة لخطوط فصل القوات مع النظام السوري، وحدود الانتشار العسكري الإسرائيلي في الجولان المحتل؛ وهذه الضمانة تشمل، أولاً، عدم اقتراب الميليشيات الإيرانية، بما في ذلك «حزب الله»، من تلك الخطوط والحدود. الصعيد الثاني هو إعادة الوضع العسكري الميداني في هذه المحافظات الثلاث إلى ما قبل آذار (مارس) 2011، حين انطلقت الانتفاضة الشعبية وخرجت المظاهرات الأبكر في مدينة درعا وبلداتها وقراها؛ أي: طرد كلّ القوى العسكرية «الغريبة»، سواء انتمت إلى الموالاة أم المعارضة، وإعادة جيش النظام وحده على المنطقة. وأما الصعيد الثالث فقد كان يخفي استبطاناً إسرائيلياً للترابط الطبيعي بين مواطني سوريا الدروز في السويداء والجولان المحتل، من جهة أولى؛ ودروز 1948 في فلسطين، من جهة ثانية؛ على خلفية كبرى، من جهة ثالثة، هي اتساع رقعة الانتفاضة، واستمرار حكومة بنيامين نتنياهو في دعم بقاء بشار الأسد، ولكن ليس دون استغلاله في الضغط على النظام لجهة تقييد الوجود العسكري الإيراني أو حتى البدء تدريجياً في سحبه من سوريا.
خلال التوافق الأمريكي ـ الروسي، ثمّ الأردني استطراداً، كانت فصائل المعارضة المسلحة خارج السياق عملياً، لا هي في العير ولا في النفير! وتستوي في هذا تلك التي تطلق على نفسها صفة «الجيش الحر»، وارتباطها الفعلي تقيده أوامر غرفة الـMOC، أي مقر القيادة والتنسيق الذي تديره الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن منذ عام 2013؛ أو «جيش خالد بن الوليد» الداعشي، وكتائب «النصرة» التي سبق أن قايضت النظام على ترحيل عناصرها إلى إدلب. وهذه الفصائل لا تسدد اليوم ثمناً متأخراً لارتهانها أو اتكائها على الحل العسكري، أو تراخيها عن القتال حين اقتضت الحاجة، أو خلافاتها ونزاعاتها وانشقاقاتها وفساد بعض قادتها، فحسب؛ بل تدفع اليوم ضريبة مضاعفة لقاء اطمئنانها إلى مساندة الغرب لها في أحلك الظروف، وتصديقها بأنّ واشنطن تضمن هدنة تموز 2017 وستفرض على النظام وروسيا مواصلة الالتزام بها.
المسلسل بدأ هكذا: قبل شروع النظام في عملية اجتياح ريف درعا، بدعم جوي مكثف من الطيران الحربي الروسي (ومشاركة، ما تزال نشطة، من ميليشيات شيعية مثل «لواء ذو الفقار» في معارك بلدة بصر الحرير)؛ كانت هيذر ناورت، الناطقة باسم الخارجية الأمريكية، قد حذرت نظام الأسد من «إجراءات حازمة ومناسبة» في حال انتهاك وقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد. الفصل التالي من المسلسل كان إعلان ناورت أن الولايات المتحدة «ما تزال ملتزمة بالحفاظ على استقرار منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا والهدنة المرتبطة بها». الفصل الثالث، الراهن، كان رسالة السفارة الأمريكية في عمّان إلى الفصائل: «نحن في حكومة الولايات المتحدة نتفهم الظروف الصعبة التي تواجهونها الآن ولا نزال ننصح الروس والنظام السوري بعدم القيام بأي عمل عسكري يخرق منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا. ولكن لا بد من توضيح موقفنا: نفهم أنكم يجب أن تتخذوا قراركم حسب مصالحكم ومصالح أهاليكم وفصيلكم كما ترونها، ولكن ينبغي ألا تسندوا قراركم على افتراض أو توقع بتدخل عسكري من قبلنا»!
وهذا مسلسل في الحنث بالوعود، والطعن في الظهر، والالتفاف من خلفٍ وأمام وميمنة وميسرة؛ تكرر مراراً منذ أن شرعت غالبية أبناء سوريا في انتفاضة شعبية واسعة النطاق، مشروعة ونبيلة وسلمية، لكنها محطّ عداء من قوى إقليمية ودولية كبرى، ومحطّ تردد أو تخاذل أو مقايضة من أشباه «أصدقاء» و«حلفاء»؛ ثمّ الأهمّ ربما: أنها انتفاضة تسير على نقيض ما أرادته وتريده دولة الاحتلال الإسرائيلي من نظام «الحركة التصحيحية»، الأسد الأب والأسد الوريث، الذي حفظ حال اللاحرب واللاسلم بالمصطلح الأكثر إراحة للاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وللعربدة الإسرائيلية في لبنان. وما تفعله إدارة ترامب اليوم ليس سوى إعادة إنتاج، مع اختلاف الظروف والسياقات والشروط، للسياسة المركزية التي انتهجتها الإدارة السابقة في ظلّ رئاسة باراك أوباما. وكما أنّ المرء لم يكن يملك رفاه تقديم العزاء إلى «معارضة» إسطنبول حين لهثت خلف السراب الأمريكي، والغربي عموماً؛ فلا عزاء أيضاً للفصائل المسلحة التي عقدت الآمال على الخبراء العسكريين من أمريكا وبريطانيا وفرنسا، فلم تحصد سوى توافق الرعاة مع الذئب على حُسن اختتام مصير الضحية.
غير أنّ نطاق الضحية ليس مقتصراً على هذه الفصائل التي اطمأنت وانخدعت وخدعت ذاتها وأوغلت في التبعية، إذْ أنّ حكم التاريخ في ما كان لها وما سيكون عليها خلال سنوات العمل العسكري هو الفيصل في نهاية المطاف؛ بل الضحية الأولى الكبرى هي 750 ألف نسمة من المدنيين في هذه المنطقة، يتهددهم التهجير مجدداً، ولكن إلى اللامكان في واقع الأمر، أو بين مطرقة النظام والطيران الحربي الروسي وأشباح المجاز، وسندان الأردن الذي يعلن أنه لن يستطيع استيعاب المزيد من اللاجئين. وفي هذا السياق، لن تعدم فتاوى رهط «الممانعة» في تخوين أية أسرة تجد ذاتها مضطرة إلى اللجوء نحو مناطق الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وكأنّ الخيارات الأنسب و«الأطهر» متاحة وفيرة. كذلك لن تعدم رهط دعاة «الصمود والتصدي» و«القتال حتى آخر قطرة دم»، وكأنّ ما تبقى من قدرات الفصائل العسكرية جديرة بهذا الخيار الشمشوني، على أيّ نحو.
وما جرى قبل أيام، في تنصل واشنطن من التزامها بما اتفق عليه رئيسها مع بوتين حول منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا، يعيد تذكير المضلَّلين والسذّج بأنّ الأجندة الفعلية لإدارتَي أوباما وترامب، تجاه انتفاضات العرب، ما تزال في الجوهر تحتفظ لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي بأولوية قصوى، لا تدانيها أخرى. كذلك فإنّ النكث بالوعود ليس ممارسة جديدة على الإدارات الأمريكية بأسرها، بل يمكن هنا استعادة المثل الفرنسي الشهير عن وعود لا تُلزم إلا الحمقى الذين يصدقونها! ومنذ انتفاضة تونس، أواخر 2010؛ مروراً بميدان التحرير، والانقلابات فيه وعليه؛ وحتى أيامنا هذه حين توضع الانتفاضة السورية، وحوران رائدتها، على مذبح الاستشهاد؛ كرر أوباما وترامب، أسوة بأمثال هيلاري كلنتون وجون كيري وريك تيلرسون ومايك بومبيو… اللعبة ذاتها، التي انطوت على اتفاق الراعي مع الذئب، حول أفضل طرائق افتراس الضحية.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس