كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

خلال السنوات السبع التي انقضت من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، صدرت ـ في لغات شتى، عربية وأجنبية ـ عشرات الأعمال التي تناولت جوانبها المختلفة؛ وإنْ كان الاهتمام الأشدّ قد تركز على الجوانب الاجتماعية والسياسية والإنسانية الداخلية، وكذلك الأبعاد الخارجية الإقليمية والدولية. الثقافة، من جانبها، لم تحظ إلا بمتابعات محدودة؛ ذهب الكثير منها صوب استقراء المعطيات الإثنية والطائفية، وكان مسُّ الآداب والفنون عابراً غالباً.
وبين النماذج النادرة، على الالتفات المعمق إلى الثقافة، هذا المؤلف الجماعي الذي صدر بالإنكليزية سنة 2015، عن جامعة سيراكيوز ـ نيويورك، بعنوان «سوريا من الإصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين»؛ بتحرير مشترك من كريستا سالامندرا وليف ستينبرغ. تضمن الكتاب مساهمات من ماكس فايس: «ما يكمن في الأسفل: النقد السياسي في القصة السورية الراهنة»؛ سالامندرا: «انهمار الدراما السورية، بين التواطؤ والنقد»؛ دوناتيلا ديلا راتا: «’ستراتيجية الهمس’: كيف يصوغ صنّاع الدراما السورية القصةَ المتلفزة في سياق التسلط والتسليع»؛ شاينا سيلفرستين: «اللبرلة الثقافية أم التهميش؟ ثقافة السياسة في الرقص الشعبي السوري خلال إصلاح السوق الاجتماعي»؛ لورا رويز دي ألفيرا: «جمعيات الإحسان المسيحية ونظام البعث في سوريا بشار الأسد: تحليل مقارن»؛ أندريا بندك: «أداء الأمّة: المسيحيون السوريون على خشبة المسرح»؛ توما بييريه: «خلفية التاجر، أخلاق البرجوازي: علماء سوريا واللبرلة الاقتصادية»؛ وستينبرغ: «المنظمات الإسلامية في سوريا بشار: تحوّل مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو».
ليس هنا المقام المناسب لمراجعة الكتاب على أيّ نحو تفصيلي، حتى بإيجاز شديد؛ لأنّ كثافة المادة وتشعّب الموضوعات وتعدد المقاربات، فضلاً عن تفاصيل منهجية وبحثية أخرى عديدة، تقتضي قراءة مفصلة، إذا شاء المرء إنصاف العمل، بما له وما عليه بالطبع. غاية هذه السطور، إذن، هي التنويه بالكتاب في الذكرى السابعة للانتفاضة، من جهة أولى؛ والإشارة إلى أطروحتين على وجه التحديد، من جهة ثانية: «رواية المخابرات»، التي يناقشها فايس؛ ومسلسل «التنفيس»، كما تشخصه سالامندرا؛ وكلا الفصلين ينطلقان، في يقيني، من مسلّمة مشتركة مفادها أنّ ممارسة النقد السياسي عبر السرد القصصي أو الدراما لا تتمّ إلا في باطن الموضوعات، وفي الدلالة المستترة رغم وضوح الترميز فيها.
فايس، الذي يستعير تعبير «رواية المخابرات» من تعليق للشاعر اللبناني عباس بيضون، يختار نموذجين: فواز حداد، في روايته «عزف منفرد على البيانو»، 2009؛ ونهاد سيريس، في «الصمت والصخب»، 2004؛ مع إشارات متفرقة إلى مصطفى خليفة، في «القوقعة»، 2008؛ وسمر يزبك، في «لها مرايا»، 2010؛ وروزة ياسين حسن، في «بروفة»، 2011. ولعلّ لائحة الأعمال هذه هي المشكلة الأولى، المنهجية، في أطروحة فايس: أنه يبدأ الفصل من شرط «الانتفاضة الراهنة»، أي ما بعد آذار (مارس) 2011، ولكنه يبلغ خلاصات (عريضة تماماً في الواقع، رغم أنها سليمة) مستمدة من رواية صدرت قبل سنتين، وأخرى قبل سبع سنوات؛ ثمّ يقرّ بأنّ الخلاصات ذاتها ليست جديدة، لأنّ الموضوعة السياسية تهيمن على الرواية السورية منذ عقود. كذلك فإنّ من الإجحاف الشديد أن يقتصر التحليل على هذه الأسماء، وتُهمل أسماء أخرى ذات أهمية حاسمة، في المرحلة ذاتها قبل الانتفاضة؛ ثمّ يتواصل القصور من خلال تجاهل التحولات الكبرى التي شهدتها الرواية السورية، في طبيعة مضامين الموضوع السياسي تحديداً، على نحو إيجابي أو سلبي، خلال سبع سنوات من عمر الانتفاضة، سواء عند الأسماء التي اختارها فايس أو تلك التي لم يتناولها.
سالامندرا تساجل بأنّ مسلسل «بقعة ضوء» كان عتبة تعبيرية عن أطوار «الانفتاح» التي شهدتها سوريا خلال سنوات الأسد الابن الأولى؛ مذكّرة بأنّ فريق العمل، في اعتماد السخرية والكوميديا والترميز، استلهم أعمال دريد لحام، وجماعة «مسرح الشوك»، و«مرايا» ياسر العظمة. ورغم إقرارها بأنّ «بقعة ضوء» يندرج في سياق «التنفيس»، تستنتج أنه ساعد في توسيع هوامش النقاش العام. مشكلة سالامندرا منهجية، هنا أيضاً، في أنها تقبل بالدور الذي لعبه مخرجون كبار مؤسسون (أمثال هيثم حقي وعلاء الدين كوكش وغسان جبري)، في نقل الخبرة والمهارة وأفق التطوير إلى الأجيال اللاحقة من المخرجين؛ لكنها لا تضع هذه الخلاصة في سياق سوسيولوجي فنّي أعمق، مفاده أنّ المؤسسين (ومعظمهم من خريجي الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية) رسخوا أيضاً مدرسة واقعية اجتماعية في المسلسل السوري، فبات السقف مسيّساً بالضرورة. بهذا المعنى، فإنّ «التنفيس» لم يكن بدافع دغدغة حسّ الاحتجاج لدى الجموع، فحسب؛ بل كان استجابة لذلك السقف الذي ترسّخ واستقرّ حتى بات مطلباً جماهيرياً يصعب إغفاله، بالمعنى التسويقي الصرف. أمزجة الاستقبال الجَمْعية هنا تختلف، أغلب الظنّ، عنها في ثلاثية نجدت أنزور الشهيرة، «الحور العين»، المارقون»، و«سقف العالم»، على سبيل الأمثلة.
ويبقى أنّ هيمنة السياسة على الرواية السورية المعاصرة جزء من عطش السوري إلى التاريخ، أو تعطشه إلى صناعة التاريخ، في موازاة الحال العالقة التي يظلّ يصنعها نظام سياسي يحظر أيّ تاريخ شعبي خارج منظومة الاستبداد. حتمية الانتفاضة كانت، من جانبها، مبتدأ سردية كبرى تتابع ريّ ذلك الظمأ، وروايته.