بتغريدةٍ على موقع تويتر رفع معارضٌ سوري عقيرته “مستعطفاً” الرئيس التركي “إردوغان” أن يتدخل لوقف الاستغلال السافر للجالية السورية في تركيا في مسألة تجديد و إصدار جوازات السفر والوثائق الرسمية و لعل بعضنا وجد في هذه التغريدة ما يشفي غليله بعد سنين من الضياع و الإهمال الذي نتعرض له في غياب الجهات التي سرقت حق تمثيلنا عن تأدية الحد الأدنى من مسؤولياتها (مع خلل و تقصير من الجانب التركي أيضاً رغم الإيجابيات)، غير أن هذه التغريدة تنكأ جراحنا و لا تخيطها ، إذ يُتوقع من طرفٍ يدّعي تمثيل السوريين أن يحمل مطالبهم بجدية و يتقدم بها إلى الجهات المعنية رسمياً كما ينبغي لهذا العمل أن يتم بشكلٍ مؤسّسي و بعملٍ جماعيّ منظّم لا بشكلٍ ارتجالي و صوتٍ منفرد في ساحات وغى التواصل الاجتماعي إلا إذا كان معالي المعارض يتوهم أن لتغريداته وقعَ تغريدات “ترمب” مثلاً ليصبح بوسعه إدارة دفة السياسة من منبر تويتر بينما السلطات التركية تنتظر تبلور هذه الجواهر في فمه !
ليس في الأمر مفاجأةٌ من حيث ضعف “معارضةٍ” لم تكن يوماً جديرةً باسمها و صفتها و لم ترقَ في أي حدثٍ من الأحداث الجِسام التي عصفت بنا إلى مستوى المسؤولية، لكن في الأمر جديدٌ من زاوية مدى تهافت هذه الطبقة الطفيلية و استغفالها للجمهور حين تسكتُ دهراً و تنطق كفراً لتتعامل مع مأساة السوريين المنكوبين بعقلية كشّاش حمامٍ يدير سربه بالصفير و الحركات البهلوانية. بوسعِ هذه المعارضة الهزيلة أن تتكئ على بعض الأعذار – وإن كانت واهية – في الجانب السياسي من دورها الذي انعدمَ تماماً حتى باتت صفراً على الشمال إذ لم تعد حتى طرفاً له وزنٌ و اعتبار في القضية السورية، أما أن يكون حالها في تمثيلنا في القضايا الاجتماعية و القانونية و الإنسانية على ذات الشاكلة فهذا أدهى و أمَرّ و لا ذريعة هنا لهذا القدر من التقصير، إذ لا قوى دوليةً و أجنداتٍ تعطل دورها، و لا خلافاتٍ بينية، و لا اصطفافاتٍ سياسية تمنعها من تأمين غطاءٍ للجاليات السورية المستباحة في بعض بلدان اللجوء بدرجاتٍ مختلفة دون أن تُحرّك ساكناً أو تجترح حلولاً و تبدي الحد الأدنى من الاهتمام الواجب لتدرأ عنها التهم و الشبهات، و تنال شرف المحاولة على أقل تقدير، و إذ تعد الحالة التركية وسطاً بين بلدان اللجوء في توازنها بين الإيجابي و السلبي فهذا لا يقلل من حجم معاناة الجالية السورية-التركية الأكبر عددياً؛ إذ لا يُعقل بعد سبع سنين و نيف أن مئات الآلاف من اللاجئين ما زالوا بلا قيود و وثائق إقامة، وأن التعامل معهم مزاجي و انتقائي في كثير من الحالات، ناهيك عن تركهم لقمةً سائغة لمافيا الهجرة (التي تراجع حضورها بسبب ضغوط الاتحاد الأوربي) و جماعاتٍ أخرى تستغل حاجة اللاجئ لوثائق الإقامة و السفر، فضلاً عن إشكاليات كثيرة في قضايا العمل و التعليم و المعيشة.
جرت محاولاتٌ عديدة لتعويض هذا الغياب و تشكيل مجالس خدمية للجالية تنهض بها من قيعان الضعف و الضياع لكن طابعها الفردي و انعدام الخبرة و الدعم المالي، فضلاً عن الصراعات و الخلافات الشخصية أودت بها إلى الفشل المحتوم أو إلى وجودٍ هامشي بلا مصداقية و لا بعدٍ مؤسسي، بينما لا يعول أحد على دور المنظمات الإنسانية و الحقوقية التي تعجّ بها تركيا بالذات دون أن ينعكس ذلك على تحسين ظروف اللجوء بأثرٍ محسوسٍ يعمّ الجالية و لا يقتصر على أثر جزئي لا يسمنُ و لا يغني من جوع. في هذا السياق يتداول بعض الناشطين فكرة تأسيس منظمة تقوم على التمويل الذاتي من تبرعات السوريين و تتوجه الفكرة بالأساس إلى سد حاجة الفقراء ممن لا معيل لهم أو ممن لا يملكون حق الإقامة، و لا يحظون بالتالي بخدمات العلاج و التعليم التي تقدمها الحكومة التركية للاجئين، و هذا أمر حميد غير أن الحاجة أكبر من ذلك و الأجدى توسيع المقترح إلى منظمة تمثل مصالح الجالية من كل الوجوه – عدا الشأن السياسي – و تسعى إلى إحاطة الوجود السوري بسياجٍ منيعٍ يضمن استقرار أحواله المعيشية و تأمين قدرٍ معقول من التنظيم والتمثيل المؤسسي يحلّ معضلتي الشرعية (تمثيل يحظى بقبول شعبي و اعتراف رسمي) و التمويل (التمويل الذاتي كأحد الطرق لضمان الاستقلالية و تجنب المال السياسي)، فالشرط الشارط لهذا الكيان المقترح هو النأي التامّ عن الاستتباع لأي جهةٍ مُسيّسة سواءً بشكلٍ ظاهر أو متدثرٍ بعباءة نشاطٍ إنساني و غير ذلك، و لعل الجانب الآخر لهذا الشرط اللازم هو التواصل مع جهةٍ رسمية راعية تؤمن ترخيص هذا النشاط و حصانته من التلوث بالفساد المالي و الإداري مع اشتراط الاكتفاء بالرقابة وعدم التدخل في سياسات المؤسسة و فرض أي أجندةٍ عليها.
لا أثير هنا هاجس الحذر من الاختراق و الفساد كاستشرافٍ مُسبق لمصيرٍ أتكهّنهُ فحسب، بل اتّعاظاً بتجربةٍ سابقة كنت ممن خاضوها في السعودية في محاولةٍ فاشلة لبناء هكذا شكلٍ تنظيمي ظنناهُ مستقلاً و مُنصَبّاً بكُليّتِه على مصالح الجالية السورية هناك فاكتشفنا -أنا و بعض النشطاء- في أول منعطفٍ أنه مُستَتبعٌ لأجندةٍ مُسيّسة و أهدافٍ ضيقة و انسحبنا غير آسفين. رغم هذا جرّب أحدنا منذ أشهرٍ قليلة أن يستفيد من هذه المنصة ليرفع مطلباً للقيادة السعودية بالنظر في حال السوريين البائسة و استثنائهم من الإجراءات الجديدة بحق المقيمين وأخذ وضعهم كسوريين لا ملجأ لهم بعين الاعتبار و اتفقنا على إحراج الجهات التي تدعي صفة المعارضة و تمثيل السوريين بطرح مبادرة في هذا الاتجاه عن طريقها و بطبيعة الحال لم يخِب ظننا السيء فيهم و أثبتوا لنا من جديد أنّ مثَلَهم ” مثَل الذين حُمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها” و أن المستجيرَ بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فحتى هذا المطلب المُلِحّ المُحِقّ البسيط لم يجدوا الجرأة على طرحه على أولياء نعمتهم و أربابهم من دون الله. من هنا أُلِحّ على اتخاذ أقصى التدابير الممكنة لتحصين أي تجربةٍ جديدة من أشكال اختراق و توجيهٍ محتومة و ليست محتملةً فحسب.
يبرهن ما تقدم أن الحديث عن إصلاح الخلل المستفحل في الجسم المدعو معارضة أشبه بالحديث الخائب و الممجوج عن إصلاح النظام في دمشق فهي في حالة إفلاس كامل و لا مصداقية لها بالمرة، كما أنها فرصةٌ لإبداء أقصى قدرٍ من الاستغراب و الاستهجان لحالة الولاء الأعمى لحاشية هذه المعارضة التي لم تعد سوى استنساخٍ للموالاة بقناعٍ جديد، فكلما بدرت بادرة أمل في تشكيل بديل عن الائتلاف أو صدر نداءٌ يحثّ السوريين على عملٍ مُجدٍ بعيداً عن تسلطه و مآلهِ المخزي ثارت ثائرة أبواق الائتلاف و شبّيحته و مغسولي الأدمغة من عباده المخلصين و تكرر السؤال المضحك و المهين عن البديل و اختزال المجتمع السوري كله في هذين الصنمين، و إذا لم يكن صنم السلطة من صنع أيدينا فهذا الصنم الجديد من صنع أيدي بعضنا من أدعياءِ الثورة و نحن ما كفرنا باللاتِ لنعبد العُزّى !
ما عاد ممكناً السكوت على هذا الحال و تسليم رقابنا لمعارضة مصطنعة وصفها مرةً تقرير لمركز أبحاث دولي بأنها معارضة بلا سياسة، فما الغريب أن تكون أقصى مخرجاتها تغريدة بائسة لن تجد أذناً صاغية ممن اعتادوا ارتهانها و استساغوا امتهانها؟ و لو كنا تلك الضيعة الضائعة في المسلسل السوري ذائع الصيت لكان لنا مختار يجد من يستقبله و يستمع إليه و يكترث لحاله و حالنا.
أخيراً، و في انتظار نضج حالةٍ كهذه و الأمل أن تبصر النور تحضرني قصة النمل في السردية القرآنية المتميزة باستخدام القصص في قالب رمزي ثري بالإشارات و أرى في بعدها السيميائي / الدلالي إسقاطاً طريفاً على الحالة السورية فهل يقرأ الرئيس إردوغان ما بين السطور المغمورة من الحكاية السورية و يتبسّم كما تبسّم سليمان ؟
( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا … ) الآيات 18-19 من سورة النمل
اقرأ “تغريد النمل” يا سيد إردوغان …

مُناف الفتيّح