قال القاضي اللبناني ان الجريمة هي العدالة، وهذا ما قاله القاضي المصري أيضاً، وفي الحالتين نحن أمام واقع غرائبي، لا يمكن تفسيره إلا في سياق واحد اسمه «طبائع الاستبداد»، مثلما علمنا عبدالرحمن الكواكبي منذ قرن.
المحكمة العسكرية اللبنانية التي برأت، أو كأنها برأت، جريمة الوزير السابق ميشال سماحة التي خطط لها، بحسب كلامه، اللواء علي المملوك والفريق بشار الأسد، تشترك مع المحكمة المصرية التي أصدرت حكمها بإعدام محمد مرسي ومعه مجموعة كبيرة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن الفلسطينيين وغيرهم، ممن تسرب الشك في ولائهم للسلطة العسكرية، ومن بين من حكم عليهم بالإعدام الأسير الفلسطيني في السجون الاسرائيلية حسن سلامة، والاستاذ في الجامعة الأمريكية في مصر عماد شاهين.
الأحكام المصرية هدفها الردع والتخويف من جهة، ودفع الإخوان إلى التوحش من جهة أخرى، وبذا يسهل على نظام السيسي تشديد القبضة على السلطة، وإطلاق العنان للدولة الأمنية في قمع المجتمع، بحجة محاربة الإرهاب.
في المقابل فإن القضاء العسكري اللبناني أبدى ليونة غير مسبوقة في التعامل مع مشروع جريمة إرهابية كان هدفها إشعال الفتنة الطائفية في الشمال اللبناني، من خلال كمية كبيرة من المتفجرات، تزرع الموت والرعب، ولا تستثني أحداً.
الطريف أن المحكمة المصرية حكمت بالإعدام على مجموعة من البشر بهدف تحويلهم إلى «إرهابيين»، بينما حكمت المحكمة اللبنانية حكماً مخففاً ولطيفاً على إرهابي لم ينجح في تنفيذ المهمة، بل سقط في المصيدة، وتحوّل إلى بطل مجموعة من الفيديويات التي صورته يأكل الصبير ويتحدث ببساطة عن القتل الجماعي.
كيف نفسر هذه الحكاية؟
لو قلنا إننا أمام لغز، وإن المنطق قد فُقد بشكل كامل، فلن يلومنا أحد. بل ربما كان هدف هذا النوع من الأحكام هو إيصالنا إلى هذا الاستنتاج، بحيث نفقد القدرة على التحليل والتفكير.
المحكمة المصرية واضحة في إعلانها ان ما بدا لنا استقلالاً قضائياً خلال المعارضة الشعبية لحكم الإخوان، تلاشى تماماً، وأن المؤسسة العسكرية قررت إعادة الاعتبار لحكم المخابرات، ووأد ثورة 25 يناير بشكل كامل. وهذا لا يتم إلا عبر القمع الشامل من جهة، وشيطنة الإسلاميين ودفعهم إلى جنون الإرهاب وهاوية التطرف الأصولي.
أما في لبنان فإن المسألة محيرة.
صحيح ان سماحة وقع في مصيدة جهاز المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي كان يقوده وسام الحسن. لكن هذا لا يبرئ الرجل من جهة، كما لا يبرر الجريمة المروعة التي ذهب ضحيتها وسام الحسن، الذي قضى اغتيالاً في متفجرة لم تكتف بقتله، بل قامت بمحوه تماماً، بحيث لم يعثر على أي جزء من جثته من جهة ثانية.
نعود إلى الحكم المخفف، ونسأل ما هو الهدف من إصداره؟
قبل الإجابة على هذا السؤال علينا أن نفهم ماذا كان هدف السيد سماحة أو من أرسله في هذه المهمة؟
بالطبع لم يكن الهدف هو القتل من أجل القتل، رغم أننا يجب أن لا نحذف هذا الاحتمال، لأن نظام الاستبداد المخابراتي المافيوي في سورية أثبت أنه يستسيغ بل ويشجع هواية القتل، بهدف اشعال غرائز الدم في عناصره، واكتساب ولائهم المطلق.
لكننا هنا لسنا أمام عنصر مخابراتي عادي، فالسيد سماحة كان أحد نجوم ثقافة «الممانعة»، صحيح أنه جاء من تجربة وحشية في كنف الفاشية اللبنانية الطائفية، لكنه اكتسب قاموساً سياسياً معقداً من خلال تجاربه مع ايلي حبيقة (بطل مذبحة شاتيلا وصبرا عام 1982)، ثم من خلال عمله كوزير للإعلام، وكمستشار سياسي للرئيس السوري الشاب، وكمهندس لشبكة من العلاقات العامة في خدمة النظام السوري، في الساحات الأوروبية، وخصوصا في فرنسا.
لا شك أن توريط سماحة من قبل مشغليه في هذه القضية يثير العجب، لكن يبدو ان هذا جزء من سياسة التصفيات الداخلية المتبعة في أذرع أجهزة الأمن السورية المختلفة.
الهدف كان إشعال نار الفتنة الطائفية بين السنة والعلويين وبين السنة والمسيحيين، عبر دفع السنة إلى الجنون أمام أهوال القتل العشوائي، وهذا يؤدي إلى دعوشتهم أو دفعهم للالتحاق بجبهة النصرة وغيرهما من تنظيمات الجهادية الأصولية، أي دفعهم إلى الإرهاب.
والواقع ان سياسة الدفع إلى هذا الموقع هي الثابت الوحيد في نظام بشار منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. وقد تقاطعت هذه السياسة مع دعم إيراني بلا حدود وصل إلى حد قيام جنود حزب الله بغزو سوريا من جهة، وبمشروع خليجي- تركي لأسلمة الحراك السلمي ودفعه إلى الهاوية الطائفية الدينية، والقضاء على طابعه الديموقراطي الوطني، من جهة ثانية.
متفجرات السيد سماحة ومشغليه علي المملوك وبشار الأسد كانت تصب في هذا الهدف: تجنين الناس، ودفعهم إلى ردود أفعال همجية، ردا على الإرهاب الإجرامي الذي كانت ستحمله المتفجرات السماحية.
فشل المشروع ووجد السيد سماحة نفسه وراء القضبان، وحين ووجه بأشرطة الفيديو التي صورها العميل المزدوج ميلاد كفوري، انهار واعترف بكل شيء.
كان يجب أن تنتهي قصة سماحة هنا، قصة طموح سياسي ارتهن منذ البداية لأجهزة المخابرات، وانتهى كما ينتهي هذا النوع من الطموحات في العادة.
غير أن عبقرية مشغلي السيد سماحة لا تنضب، فلقد اثبتوا ان داخل كل متفجرة يعدونها، هناك متفجرة أخرى. وحين تكتشف المتفجرة الأولى وتعتقد أنك صرت في أمان، تُفاجأ بمتفجرة ثانية كانت مخفية، وستكون أكثر فاعلية من الأولى.
الحكم المخفف هو المتفجرة الخفية. نظام الاستبداد لا يهمه مصير عميله اللبناني الصغير، لذا قام بتفجير سماحة عبر حكم قضائي، فرح له المتهم، ليكتشف بعد ذلك ان الحكم قد ينفجر به في أي لحظة.
الرهان هو أن يتسبب هذا الحكم في إشعال أزمتين:
الأولى سياسية قضائية، وهذا ما حصل فور صدوره، وهي أزمة مفتوحة على احتمالات عديدة.
والثانية شعبية مليئة بالنقمة والحقد والرغبة في الانتقام، وهذا ما بدأ من خلال ردود الفعل الشعبية الأولى على الحكم في الشمال والبقاع.
حكاية المتفجرات لم تنته عند اكتشافها وفتيلها لم ينزع بعد، بل دخلت طورا جديدا بعد حكم المحكمة العسكرية، وهي في حاجة إلى صاعق يراهن الاستبداد انه وجده في الردود على الحكم.
لا نزال في الحكاية نفسها التي تتوالد في الكوارث التي بدأت مع صعود نجم حافظ الأسد وتأسيسه لديكتاتورية السلالة والمافيا.
والمسألة سبق لسمير قصير أن لخصها في عنوان كتابه: ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان. لن يعود الرشد إلى لبنان واللبنانيين من دون سوريا حرة وديموقراطية، ولا أفق للمشرق العربي بلا سورية متحررة من الاستبداد وطبائعه.
الياس خوري