من قال إن الحرب السورية انتهت يأكل اليوم كلامه وورطة اللاعبين الميدانيين تتعمّق

لن تأتي التهدئة المؤقتة بنزع فتيل الأزمة بين روسيا وتركيا بأي استقرار في سوريا لأن قمة الغرِيمين بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس رجب طيب أردوغان فشلت في مُعالجة الخِلافات الجدّية ونجحت فقط في توفير إنقاذ ماء الوجه لزعِيمين عَنيدين وسط غليان في العلاقات الروسية – التركية، بالذات العسكرية.
لم تؤدِ القمة الى إحياء أية عملية سياسية لسوريا أو الى خريطة طريق لوقف نارٍ دائم أو الى تعزيز أدوار الضامِنين لوقف النار على نسق اتفاقيات “آستانة” التي ضمّت روسيا وتركيا وإيران.
بل ان غياب إيران الكُلّي عن المشهد بالرغم من أن قواتها وقوات “حزب الله” تُشارك في القتال في معركة ادلب، إنما يعكس أمرين: الأول، تصنيف بوتين وأردوغان لنفسيهما بأنهما عملاقين والآخرين ملاحق في سوريا، والثاني، ان تفشي فيروس “كورونا” في إيران أيقظ القيادات الإيرانية الى احتمال تحوّله الى وباء لن يتمكّن النظام من احتوائه سيما وأن الملالي يرفضون تبنّي إجراءات يعتبرونها مُنافية للدين كمنع صلاة الجمعة لفترة طويلة. “حزب الله”، بِدوره يقع في مآزقه العديدة داخل لبنان وإقليمياً ودولياً، وهو ضَالع في المعارك في ادلب الى جانب الرئيس السوري بشار الأسد لكنه مُنشغل بالتحدّيات التي تُطوّقه والمخاطر الآتية عليه وتُهدده بالانهيار إذا ثابر في أخذ لبنان برُمّته الى الانهيار. بشار الأسد كان حاضراً غائباً في قمة موسكو التي توجّه أردوغان اليها مُرغماً بعدما حاول عقدها في أنقرة ثم سوتشي لكنه واجه رفض بوتين القاطع وإصراره على عقد القمة في العاصمة الروسية.
وافق أردوغان مُرغَماً بعدما طوّقته حملة الأوروبيين عليه واتهمته بابتزاز أزمة اللاجئين السوريين ودفعهم الى الهجرة نحو الدول الأوروبية – فقرر عدم فتح جبهات اضافية عليه سيما وأن موقعه داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) ليس أبداً قوياً. فالولايات المتحدة ذات الأهمية المميّزة في قيادة حلف “الناتو” لا تثق بأردوغان ولا يُعجبها ما حاول القيام به قبل تصادمه مجدداً مع بوتين عندما أصر على شراء منظومة S-400 الروسية المضادة للصواريخ رغم الاحتجاجات الأميركية ومعارضة بقية أعضاء الـ”ناتو”.
هذه المنظومة ما زالت مُعلّقة في مواقع تصنيعها في روسيا فيما الولايات المتحدة ما زالت تدرس امكانية التعويض عنها من خلال توفير تركيا بمنظومة “الباتريوت” – والاحتمال ضعيف جداً. فما يريده أردوغان في سوريا لا يتوقف عند سوريا، وإنما له طموحات إقليمية وتداعيات داخلية.
وما يشكل أولوية لبوتين في سوريا لم يعد سهل المنال كما تخيّل البعض في فترة ولادة “آستانة” أو في زمن الإصرار على أن روسيا تملك سوريا بلا منازع وانها انتصرت قطعاً في هذه المعركة الاستراتيجية. فمعارك سوريا مستمرة برغم وقف النار فيما مأساة شعبها تتحول الى كارثة إنسانية غير مسبوقة.
أتت نتائج قمة موسكو فقيرة جداً لأن أردوغان لم يحصل على شيء يُذكر مما أراده حقاً وهو أمرين: أحدهما، انسحاب القوات السورية الى الخُطوط التي نصّت عليها اتفاقية “سوتشي” – وهذا ما رفضه الجانب الروسي. والآخر ان أردوغان أراد أن تتوقّف روسيا عن دعم أي هجوم يقوم به الأسد وأن تتوقّف عن دعم الأسد عسكرياً، فلاقى الرفض القاطع من بوتين والمؤسسة العسكرية الروسية.
وحسب المصادر، أتى الكلام على لسان بوتين نفسه ليؤكد أنه لن يتخلى عن دعم سوريا والأسد. فالأسد مفتاح ضروري حالياً لتثبيت التواجد العسكري الروسي في سوريا، ولا استغناء عنه. ثم ان بوتين وعَدهُ بأنه سيدعمه في معركة ادلب ولم يعد قادراً على التنصّل من الوعد بالرغم مما أدى اليه من خطورة وقوع تصادم عسكري بين روسيا وتركيا.
بوتين بدوره لم يحصل على ما سعى وراءه من أردوغان، أي الالتزام بعمليات ضد من تعتبرهم روسيا مجموعات إرهابية. فالرئيس الروسي أوضح أن لا حلول واردة ولا شيء سيَجدّ على العلاقة بين البلدين لإصلاحها جوهرياً ما لم يتعهد الرئيس التركي، “بضمانات جدّية، بمحاربة تلك المجموعات الإرهابية” حسب مصدر روسي، “وأردوغان لم يلبِّ طلب الضمانات”.
اتفاق وقف النار بدون ضمانات يعني، من وجهة النظر الروسية، انه قابل للتنفيذ طبقاً لتعهدات الدولتين “إنما ليس من قِبل المجموعات الإرهابية”. وهذا يجعله هشّاً. ثم ان الرئيس التركي كان واضحاً تماماً أثناء المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الروسي أن في حال استمر الرئيس السوري بعملياته العسكرية ضد القوات التركية، فإن الردود العسكرية عليه ستكون أقسى مما كانت عليه وأعنف.
لذلك، ان اتفاق وقف النار يكاد يكون عبارة عن شِراء هدنة عابرة. حتى الممر الآمن قيد البحث بين وزيري الدفاع الروسي والتركي لا معنى عميق له سوى إبقاء الحديث مفتوحاً بين المؤسستين العسكريتين. فلقد كانت قمة موسكو انتصاراً لمنطق وزارة الخارجية التي شجّعت بوتين على مسلك الديبلوماسية فيما أرادت وزارة الدفاع تلقين أردوغان درساً غالياً في سوريا.
ما لم يحدث في قمة موسكو هو الحديث عن أية خطوات اضافية نحو التسوية السياسية في سوريا. وفي غياب هذه المسألة الجوهرية، ان وقف النار عابر بالتأكيد، وان الورطة في سوريا ليست محصورة بتركيا أو بروسيا أو بإيران أو “حزب الله” أو حتى الأسد الذي يتمتع بدعم روسيا وإيران وحزب الله. انها ورطة مفتوحة الأفق لجميع اللاعبين الميدانيين في سوريا.
انها ورطة رجب طيب أردوغان للأسباب التالية: أولاً، انتهاء الشراكة التركية – الروسية يعني خسارة ورقة مهمة للرئيس التركي في إطار مفاوضاته ومناوراته مع أعضاء حلف شمال الأطلسي وبالذات مع الولايات المتحدة. –
ثانياً، ان الإصرار على السيطرة على ادلب وعلى نفوذ تركيا في سوريا سيؤدي في نهاية المطاف الى مواجهة مع روسيا لأن موسكو لن تتراجع عن دعم القوات السورية التي تحارب القوات التركية.
ثالثاً، في غياب معالم للتسوية السياسية، ومع إصرار أردوغان على معارضة إجراء الانتخابات في سوريا الى حين عودة المهجّرين، تبدو الساحة السورية مفتوحة على المزيد من المشاكل للرئيس التركي من الناحية الكردية الفائقة المهمة له سورياً وداخل تركيا، ومن الناحية الشخصية لأردوغان الذي يريد توطيد سلطاته داخل تركيا والفوز بالانتخابات المصيرية لطموحات القيادة السنّية التي يسعى وراءها بالذات من خلال مشروع “الإخوان المسلمين”.
ورابعاً، ليس سهلاً على أي لاعب، مهما كان ماهراً، أن يقفز على الحبال كما يفعل أردوغان سيما وأن شركاءه هم من المتشدّدين والمتطرّفين وأحياناً الإرهابيين، فيما معارضوه هم من مستوى روسيا وأوروبا والولايات المتحدة أيضاً التي لم تُقدّم له سوى الدعم اللفظي في سوريا وهي تراقب مغامراته في ليبيا ولا تنسى له تحدياته عندما أصرّ على صفقة S-400 الروسية.
انها أيضاً ورطة فلاديمير بوتين الذي لا يريد المواجهة العسكرية بين روسيا وتركيا لكن مؤسسته العسكرية بدأت تفقد صبرها وهي متحمّسة لقطع الطريق على رئيس تركيا واستفزازاته لها، حسب تصوّرها. ثانياً، ان خسارة العملية السياسية في سوريا تشكّل ورطةً للأجندا والقيادة الروسية التي كانت ظنّت انها تملك خيوط اللعبة في سوريا وان النصر كان مضموناً لها ولحليفها في دمشق. ثالثاً، ان الكلفة لروسيا في سوريا عالية بينما وعود الانتهاء من الصراع تراجعت ومعها تراجع الدعم الشعبي الروسي لبوتين بسبب اندفاعه سورياً. رابعاً، تبدو الولايات المتحدة في الموقف الأفضل وهي تتفرّج على مشروع تورّط روسيا في مستنقع سوريا تحارب تركيا والمجموعات الإرهابية بلا معونة أميركية فيما وضعت أميركا يدها على المناطق السورية الغنية بالنفط. وأخيراً، لقد خسر بوتين، بخسارته الشريك التركي، ورقة شق حُفرة عميقة داخل حلف شمال الأطلسي والتي كانت ثمينة جداً له، فتراجعت أسهم استثماراته عبر سوريا فيما ارتفعت أسهم ورطته.
ورطة إيران و”حزب الله” متعدّدة المصادر والاعتبارات، وشراكاتها داخل سوريا متأرجِحة بين العلاقات التحالفية مع روسيا وبين منافسات مع القيادة الروسية في سوريا. إيران وأذرعها استثمرت كثيراً في سوريا وورطتها اليوم هي في البقاء للعب دول المكمّل كما في المغادرة رغماً عنها لأنها تقع في أكثر من ورطة في محطاتها الداخلية.
فأولاً، ان فيروس “كورونا” قد يهدّد مصير النظام في طهران ليس فقط لأن رجال الدين يقفون في وجه الإجراءات الضرورية للوقاية من تحوّل الفيروس الى وباء، وإنما أيضاً لأن إيران ليس لديها آلية أما لقياس مدى تفشي الفيروس أو لظبطه طبيّاً. “ثقافة البازار لا يمكن إيقافها”، قال إيراني مشيراً الى ان “العزل غريب عن هذه الثقافة”. وبالتالي، ان السيطرة على هذا الوباء تبدو في غاية الصعوبة وقد تكون القيادة الإيرانية غير قادرة على ايقاف هذه الكارثة، بحسب قول المطّلِعين على الوضع داخل إيران.
وعليه، الأرجح أن تنحسر الاهتمامات الإيرانية الخارجية في سوريا بالذات، إنما أيضاً في العراق وكذلك لبنان، أكثر فأكثر، بسبب الكورونا ذات الأولوية القاطعة. هذا لا يعني توقّف “الحرس الثوري” أو “فيلق القدس” عن العمليات في الساحات السورية والعراقية واللبنانية واليمنية وغيرها. لا يعني ان الورطة الإيرانية في إيران وسوريا وغيرها ستؤدي بالقيادة الإيرانية الى إعادة النظر في سياساتها والتجاوب مع الدعوات الأميركية والأوروبية الى إعادة التفاوض على الاتفافية النووية والتخلّي عن طموحات التوسّع خارج الحدود الإيرانية. “إطلاقاً” قال مصدر عالم بالتفكير على مستوى القيادات في طهران، “ان المرونة غير واردة حتى في ظروف العقوبات وكورونا القاتلة”.
“حزب الله” أيضاً ليس في أحلى حالاته داخل لبنان لأنه مُطوَّق شعبياً في لبنان وبالعقوبات الأميركية التي تطاله حتى في أفريقيا. انه في ورطة شأنه شأن جميع اللاعبين في سوريا بمن فيهم بشار الأسد.