من ثوار درعا البلد إلى أحرار جبل الزاوية

  بغموضٍ بنّاءٍ أو مدمِّرٍ، وبموقفٍ متواطئٍ أو بتخلٍّ مخزٍ، فإن شكوكاً متزايدةً باتت تحفر عميقاً حول حقيقة الموقف الأممي والدولي. وتثار أسئلة جوهرية عن دوافع غياب موقفٍ أمريكي فاعلٍ ومؤثر ما زال يلقي بظلاله المأساوية على مصير القضية السورية برمّتها، بعدما صار الزمن السوري يقاس بالدم والتشريد والحصار والتجويع، كما بات من المؤكد أن قوى الاحتلال وفي مقدمتها الاحتلالان الروسي والإيراني يجدان في هذه البيئة الدولية مرتعاً خصباً لمواصلة تنفيذ أجنداتهما بأقسى صور الوحشية والإجرام، بل صار بوسعهما التحرك بحرية أوسع في مربع الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة في الملف السوري، عبر غياب سياسة واضحة؛ بسبب تراجع هذا الملف في أولويات إدارة بايدن.

  فصلٌ دمويٌ جديد، مآسٍ وكوارث تضاف إلى سابقاتها، وكأن قدر السوريين على مدى أكثر من عشر سنوات أن تهرق دماؤهم في مواجهة شُذّاذ الآفاق والمتواطئين معهم حول العالم، ليس دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم فحسب، بل أيضاً دفاعاً عن أمن وكرامة شعوب برمَّتها يغرق أبناؤها بكل ألوان الخوف والإذلال والاستعباد، ويتنافس طغاتها في التواطؤ على خذلان الشعب السوري وتركه وحيداً يصارع جحافل الغزاة والطغاة، ويصد مخاطرهم عن مصير شعوب مضطهدة ومكلومة، تتمزق دولها ويتحكم الفقر والجوع والتشرد في مصير أبنائها.

  ينبري أحرار سوريا اليوم، لمواجهة ما يحاك لمستقبلهم من مشاريع دولية وإقليمية تستهدف وجودهم وحياة أطفالهم في درعا وإدلب، رغم ما خبروه ولسنوات طوال من صنوف الخذلان الأممي والدولي والإقليمي، بل والعربي على نحو خاص. لكنهم يخوضون بثبات وإصرار معركة المصير لدرء مخاطر الاقتلاع والتهجير على يد ألدِّ أعداء الشعب السوري من الاحتلالات الروسية والإيرانية والإسرائيلية والأسدية وغيرها، ويتصدى الأحرار في حوران لجحافل الفرقة الرابعة وقطعان الميليشيات الإيرانية ومن والاها، والتي تحاول اجتياح أرضهم وتهدد بانتزاعهم من جذورهم وسوقهم إلى مسالخ الأسد النازية ليواجهوا قتلاً وتعذيباً تحت مسامع وأنظار عالمٍ لم يعد يرى أو يسمع. 

  بالرغم من حدة التنافس المستتر بين قوى الاحتلالين الروسي والإيراني على تقاسم الغنيمة السورية، إلا أن المآزق المشتركة التي يتخبطان بها مازالت تشكل الأساس العميق لاندفاعتهما العدوانية ومواصلة إجرامهما للإجهاز على الضحية، فالعدوانية المشتركة لحليفي الأسد روسيا وإيران وأذنابهما من عصابات “التعفيش والتشبيح”، كانت وراء حملة التصعيد العسكري في كل أرياف إدلب وخاصةً جبل الزاوية لإضافة فصل جديد من القتل والتدمير والتهجير الممنهج، وهي ذاتها مضافاً إليها أجندات دولية وإقليمية مشبوهة وراء قرار التصعيد العسكري على حوران وحصار درعا البلد كمنطلق لعمليات تغيير ديمغرافي تخدم مصالح أطراف مختلفة نسجت خيوطها عن سابق عمد وإصرار.

إن  وحشية الاحتلال الروسي ليست جديدة على المشهد السوري، إلا أن ضراوة القصف الصاروخي الممنهج وغارات الطيران الحربي منذ أكثر من شهرين على ريف إدلب الجنوبي وخاصة في جبل الزاوية، تعكس إلى حد بعيد شهوة موسكو للانقلاب على تعهداتها التي لم تعد تلبي مصالحها، وتعبيراً عن استماتتها للخروج من مأزق المرواحة في المكان التي بدت تكاليفه باهظة الأثمان، وذلك عبر التهديد بموجات تهجير جديدة في رسائل متعددة الأهداف للأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري لتكرار سيناريو الحصار والتجويع الذي طبقته بنجاح في سراقب ومعرة النعمان وغيرها.

 لم يلقَ هذا العدوان الوحشي آذاناً صاغية من الفاعلين الدوليين لوقف حمام الدم، وكان من المؤسف تهافت أداء الفصائل المسلحة وضامنهم التركي في الدفاع عن حياة المدنيين في مناطقهم، مثل ما يسجل التقاعس المريب للضامن التركي للرد على عدوان استهدفه مباشرةً فاكتفى الجميع برد رمزي يحفظ ماء الوجه ويحاول امتصاص النقمة. 

 من الواضح بعد أكثر من ثلاث سنوات على اتفاق التسوية الذي أبرم برعاية دولية وبإشراف روسي مباشر في محافظة درعا، وانقلاب الأسد وحلفائه عليها؛ لأنه لم يحقق لهم الأهداف المرجوة في عودة درعا إلى حضن الأسد وسلطته. فالتطورات السياسية والميدانية التي شهدتها مدن وبلدات المحافظة باتت مثارَ قلق كبير لروسيا ومحطَّ غضب واستياء الأسد وإيران بسبب فشلهم في تطويعها لم تقتصر على العمليات الأمنية والهجمات المباشرة ضد رموز النظام ومقراته الأمنية وميليشيات إيران، بل أنها توِّجت باتساع رقعة التظاهرات الرافضة للمسرحية الانتخابية، وعودة الشعارات المطالبة بإسقاط النظام إلى الواجهة السياسية إضافة إلى سلسلة الإضرابات والاعتصامات وخاصة في درعا البلد بعد إغلاق مراكز الاقتراع، وكانت خشية موسكو الكبرى من تحول مشهد الجنوب السوري بعد تمرد أهل حوران وعصيان جبل العرب لأوامر السلطة إلى نموذج ملهم لباقي مناطق التسويات التي أبرمت برعايتها، وعودة الحالة الثورية إليها مما يعطي الانطباع بفشلها في ضبط الأوضاع الميدانية، ويرسل رسالة للرأي العالم الدولي بأن أجندتها في سوريا لا تلقى تجاوباً على الأرض.

 لكن إيران التي ما فتئت تستظل بخيمة الاحتلال الروسي في سوريا لا تفوّت الفرصة في توسيع وتثبيت نفوذها الإقليمي وتجميع الأوراق الرابحة عبر تعزيز وجودها في الجنوب السوري، وخاصة على الحدود الأردنية وبالقرب من تخوم الجولان المحتل. أما الأسد الذي طالما تبجح في خطاباته بإصراره على استعادة إدلب وشرق الفرات فقد بدت جحافله في درعا إلى جانب حزب الله وميليشيات إيران بمظهر هزلي مضحك فاجأ الروس والمجتمع الدولي والمطبّلين لشرعيته، وبدا وكأن سلطته لا تتعدى أجهزته الأمنية وثكناته العسكرية وبعض أحياء دمشق. أما موسكو فلم تجد مصلحتها في توفير غطاء جوي لهذه العملية العسكرية وفضَّلت لعب دور الوسيط الذي يعزز مكانتها كراعٍ للتسويات والتهدئة بما يخدم أجندتها لرسم حل سياسي وفق تصوراتها، وبدأت بتنفيذ خطتها في استدراج تسويات ممنهجة و متدرجة هدفها في المآل الأخير ضبط انتشار السلاح وحصره بعيداً عن متناول المدنيين وخاصة عن عناصر فصائل التسوية وإتاحة الفرصة للواء الثامن بقيادة أحمد العودة للعب دورٍ أمني وعسكري قادر على ضبط الأوضاع بعد تطعيمه بعناصر مضمونة الولاء للأسد، وتسهيل انخراط عناصر التسوية في هذا الجهاز الذي سيكون ذراع موسكو في تثبيت نفوذها في الجنوب السوري.