فاروق مردم بك: روسيا وإيران أنقذتا الأسد وتتحمّلان معه مسؤوليّة هذه الدماء المسفوكة

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة الكاتب والمترجم والناشر السوريّ الفرنسيّ، فاروق مردم بك، المقيم في فرنسا منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، الذي كرّس حياته لتعزيز الثقافة العربيّة في أوروبا، والذي قلّدته فرنسا في 2018 وسام الشرف بمرتبة “فارس”، عن مجمّل إسهاماته الثقافيّة.

وُلد في دمشق في 1944، وتخرّج من كلّية الحقوق في الجامعة السوريّة في 1965. وفي باريس، أنجز دبلوم العلوم السياسية ودبلوم مناهج التاريخ والعلوم الاجتماعيّة، ومن ثمّ انخرط في العمل السياسي، عربيًّا وفرنسيًّا، في الإطار الفلسطينيّ الفتحاويّ بشكلٍ خاص، وحصل على الجنسية الفرنسيّة في أواخر 1982.

 

يُشرف منذ عام 1995، في دار نشر أكت سود(Actes Sud) ، على سلسلة “سندباد” التي تعنى بالدرجة الأولى بترجمة الآداب العربية الكلاسيكيّة والمعاصرة إلى اللغة الفرنسيّة. وقد أشرف على نشر كتب جماعيّة ذات طابع تاريخيّ أو سياسيّ أو أدبيّ أو ببليوغرافيّ، منها كتابان عن القدس وحقّ العودة، وكتابان في تقييم إنتاج دور النشر الفرنسيّة عن العالم العربي. وتتنوع مؤلفاته بين التاريخي والسياسي والأدبي، نذكر منها: بالفرنسيّة: «مسالك بين باريس والقدس، فرنسا والصراع العربيّ- الإسرائيليّ»، (بالاشتراك مع الصحفي والمؤرخ اللبناني الراحل سمير قصير)، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة”، بيروت 1992-1993، و «الشعر العربي»، مانغو، باريس 1999، و«أن تـكون عربيًّا»، (بالاشتراك مع إلياس صنبر)، “أكت سود”، آرل 2005، و«الشعر الأندلسي»، ميشالون، باريس 2007، و «في رأس بشّار الأسد» (Dans la tête de Bachar al-Assad)، (بالاشتراك مع زياد ماجد وصبحي حديدي) “أكت سود”، آرل 2018. وله في تاريخ الطعام كتاب «مطبخ زرياب»، الذي صدر بالفرنسية عام 1998 وبالعربيّة عن مشروع “كلمة” للترجمة في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عام 2015.

 

ومن مساهماته الأخيرة، باللغة عربيّة، نذكر: «صفحات من دفتر قديم، سبعة كتاب سوريين يروون سيرهم المدرسية، منشورات المتوسط، ميلانو 2019. وكان قد ترجم إلى الفرنسية أعمالًا للشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش.

 

هنا نصّ الحوار..

 

بداية، أترك لك أستاذ فاروق تعريفَ قرّاء (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) بسيرتك الشخصيّة والمهنيّة؟

 

وُلدتُ في دمشق عام 1944، درست في المعهد الفرنسيّ العربيّ (اللاييك) ثمّ في كلّية الحقوق. وبعد حصولي على إجازتها في 1965؛ سافرت إلى فرنسا حيث درست العلوم السياسيّة ومناهج التاريخ والجغرافيا والعلوم الاجتماعيّة، عملت في مكتبة المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقيّة في باريس (1972- 1986) مسؤولًا عن الكتب والدوريّات العربيّة، ومديرًا لمجلّة الدراسات الفلسطينيّة الصادرة باللغة الفرنسيّة (1981-2008)، ومستشارًا ثقافيًّا في معهد العالم العربيّ (1989-2008)، وأُدير سلسلة “سندباد” في دار النشر “أكت سود” منذ 1995. ونشرت بالفرنسيّة، مؤلّفًا أو محرّرًا أو مُترجمًا، نحو عشرين كتابًا في السياسة الدوليّة والأدب وتاريخ الطعام والببليوغرافيا.

 

أنت دمشقيّ المولد، قضيتَ أكثر من خمسين عامًا في المنفى الاختياري، منها ما يزيد عن الأربعين عامًا لم تعد فيها إلى دمشق. ماذا يعني لك هذا على الصعيدين الشخصيّ والعامّ؟ وما هي أسباب عدم عودتك إلى سورية طوال ما يزيد عن أربعة عقود؟

 

لم يكن بقائي طوال هذه السنوات في فرنسا باختياري. كنت أعود إلى دمشق مرّة في كلّ سنة حتّى 1976، ولم أعد بعد ذلك لأسبابٍ سياسيّة، إذ إنّي شاركت في الاحتجاج على دخول الجيش السوريّ إلى لبنان، فصدرت مُذكّرةٌ من الأجهزة الأمنيّة بحرماني من جواز السفر السوريّ وملاحقتي، ولم أكفّ، خصوصًا منذ 1980، عن التعبير عن مُعارضتي سياسة النظام الداخليّة والعربيّة، وبذلك صارت عودتي مستحيلة. أمضيتُ ستّ سنوات صعبة، عانيت فيها الكثير لتجديد إقامتي، ولم أكن أستطيع مُغادرة فرنسا إلى أن حصلت في 1982 على الجنسيّة الفرنسيّة. صرتُ بعدها حتّى العام 2000 أُمضي شهرًا في الشتاء في مصر وشهرًا في الصيف في تونس، وربّما كان هذا نوعًا من التعويض عن حنيني إلى سورية، وسعيًا إلى العيش -ولو قليلًا- تحت سماءٍ عربيّة، على الرغم من أنّي لم أكن أشعر بأنّي غريب في فرنسا. كنتُ منذ وصولي أجيد لغتها، وأعرف الكثير عن تاريخها وثقافتها، وتمسّكت فيما بعد، حين حصلت على جنسيّتها، بحقوقي كاملةً كأيّ مواطن فرنسيّ، وقد شرحتُ هذا كلّه بالتفصيل في 2011 في كتابٍ حواريّ، بعنوان «فرنسانا» ألّفته مع صديقيّ إلياس صنبر وإدفي بلينيل.

الثورة زادتني انتماءً إلى سورية

 

في خضمّ المأساة السوريّة المستمرّة منذ نحو عشر سنوات، أين يقف الكاتب والناشر والمؤرّخ والمثقّف فاروق مردم بك ممّا جرى ويجري؟

 

لم أكن في يومٍ من الأيّام، منذ 1963، أي منذ انقلاب 8 آذار/ مارس، مُناصرًا لحزب البعث. التزمت موقفًا مُعارضًا منه تجذّر أكثر فأكثر منذ انقلاب حافظ الأسد في 1970. شاركت في الثمانينيات والتسعينيات في بعض نشاطات المُعارضة، وبالأخصّ الحزب الشيوعيّ (المكتب السياسيّ)، وكنت دائمًا في صفّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة في صراعها مع النظام. وكان من الطبيعيّ أن أتحمّس للحراك الديمقراطيّ، بعد توريث السلطة لبشّار الأسد، وأن أُسهم في التعريف بالمنتديات وبيانات المُثقّفين الديمقراطيّين والمبادرات السياسيّة التي تبعتها وفي التنديد بالقمع. إلّا أنّ الثورة، منذ التظاهرات الأولى، زادتني انتماء قبل كلّ شيء وفوق كلّ شيء إلى هذا البلد: سورية، وأشعرتني بأنّي قصّرت في حقّه. صار معياري الأوّل في الحكم على كلّ فكر، على كلّ تيّارٍ سياسيّ في العالم، على كلّ شخصٍ ألتقيه، هو موقفه من الثورة بمضمونها الشعبيّ الديمقراطيّ، ومن سورية التي نُريدها وطنًا لجميع مواطنيه. أخذ عليّ بعض الأصدقاء اكتفائي بالعمل الإعلاميّ والثقافيّ باتّجاه الجُمهور الفرنسيّ، ولكنّي أعتقد أنّي لم أكن مُخطئًا في قراري. لا يحقّ -أخلاقيًّا وسياسيًّا- لمن غاب عن بلده أربعين سنة أن يتنطّع لمهمّاتٍ أكبر منه!

 

 تُشرف منذ العام 1995، في دار النشر “أكت سود”(Actes Sud) ، على السلسلة العربيّة “سندباد” التي تعنى بالدرجة الأولى بترجمة الآداب العربيّة الكلاسيكية والمعاصرة إلى اللغة الفرنسيّة. كيف تقوّم هذه التجربة اليوم بالنظر إلى المشهد الأدبيّ والثقافيّ العربيّ في فرنسا؟ ماذا حقّق العرب في العقدين الأخيرين من أثر في الثقافة الفرنسيّة؟

 

ثمّة دراساتٌ جامعيّة عديدة عن مسائل الترجمة من العربيّة إلى اللغات الاخرى، ومنها الفرنسيّة، من حيث تاريخها وعددها وتنوّعها وقدرتها على تغطية الإنتاج الروائي والشعري في مختلف الأقطار العربيّة، وتلقّيها في الصحافة ووسائل تنشيطها. وقد سبق لي في ندواتٍ عديدة (بالأخصّ في دورة 2017 من مؤتمر الترجمة والمُثاقفة المنعقد في الدوحة)، عرض النتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسات، ويُمكن الاستناد إليها. وكثيرًا ما طرحتُ على نفسي وعلى العاملين في هذا الميدان بعضَ الأسئلة الدقيقة والصعبة، انطلاقًا من أرقام التوزيع والمبيع، عن أسباب نجاح ترجمةٍ ما أو فشلها في الوصول إلى أيدي القرّاء العاديّين، أي غير المُختصّين في الدراسات العربيّة والإسلاميّة، وما هي معايير النجاح والفشل. لن أعود بالتفصيل لما قلته من قبل، ولكن سأستعرض بسرعة تجربة دار “سندباد”، وما أُنجزته حركة الترجمة من العربيّة منذ نشأتها حتّى اليوم.

 

حين أسّس بيار برنار دار “سندباد” كان عدد الكتب العربيّة المترجمة قليلًا جدًا، ويكاد يكون معدومًا في الأدب الحديث (بضعة كتب لطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وجبران خليل جبران). ويرجع له الفضل في نشر أول رواية بالفرنسيّة لنجيب محفوظ («زقاق المدق»، سنة 1970، قبل تأسيس “سندباد”)، ثمّ في العمل الدؤوب حتّى سنة 1992 على ترجمة التراث والأدب الحديث شعرًا ونثرًا، ومعها عشرات الدراسات في العلوم الاجتماعيّة. كان نصف إنتاج “سندباد” يباع في الجزائر، ولذلك عانت الدار أزمة مالية خانقة، حين توقف التصدير، وأصيب بيار برنار بمرض عضال لم يمهله طويلًا، فتوفي في 1995. وكان من حسن الحظ أن تنتقل ملكية “سندباد” إلى “أكت سود” التي كانت قد بدأت في 1990 بنشر ترجمات للأدب العربيّ المعاصر، وتعهدت بالحفاظ على اسم الدار وعلى أهم سلاسلها، وبذلك أصبحت الناشر الأوّل في فرنسا (50% من مجموع ما نُشر حتّى الآن)، وربّما في أوروبا، للأدب العربيّ المترجم. ويشتمل كتالوج “أكت سود”، في آخر سنة 2020، على أكثر من 300 ترجمة صدرت بعد شراء “سندباد”، و14 نشرتها قبل 1995، بالإضافة إلى ما يقرب من 50 ترجمة، نشرها بيار برنار بين 1970 و1992.

 

يُمكنك أن تستنتج، إذا تفحّصت هذا الكتالوج، أنّه يضمّ نماذج من الأدب العربيّ، قديمه وحديثه، تُعرّف القارئ الفرنسيّ بأنواعه واتّجاهاته المُختلفة، وإن كانت هذه النماذج، بطبيعة الحال، أقلّ عددًا ممّا ينبغي، بالمُقارنة مع غزارة الإنتاج في العالم العربيّ. كنتُ دائمًا أتمنّى أن تُشارك دور النشر الكبيرة الأُخرى في حركة الترجمة، ولكنّها أحجمت لأسبابٍ ماليّة بالدرجة الأولى (كلفة الترجمة والإعداد وصعوبة التسويق)، وليس بإمكان سلسلة “سندباد” في أحسن الأحوال أن تُسوّق أكثر من خمسة عشر كتابًا مُترجمًا في كلّ سنة. ولا بدّ من أن أُضيف أنّنا نُعاني، منذ أربع سنوات أو خمس، انخفاضًا في عدد المبيعات (وهذه حال الأعمال المُترجمة عن جميع اللغات، وبالأخص اللغات غير الأوروبيّة) في أجواء سياسيّة وأيديولوجيّة مُتحفّظة إزاء كلّ ما يمتّ بصلةٍ إلى العرب والمُسلمين، ولذلك اضطررت منذ سنتين إلى الاكتفاء بنشر تسع ترجمات فقط من أدبنا المُعاصر، وواحدة لكتابٍ من كتب التراث إذا توفّرت. ولا أخفي قلقي من تطوّر الأمور بالاتّجاه المُعاكس لما نتمنّاه، ولما حقّقناه أيضًا، أعني حضور الأدب العربيّ في المشهد الثقافيّ الفرنسي، من خلال بعض الكتّاب الذين انتشرت أعمالهم على نطاقٍ واسع وأعيد نشرها، أو من خلال الدراسات الجامعيّة عنهم والندوات والمهرجانات الشعريّة، إلخ.

 

قلّدتك فرنسا عام 2018 وسام الشرف بمرتبة “فارس” عن مجمل إسهاماتك الثقافيّة، وذلك بعد أن سحبته في العام نفسه من بشّار الأسد بعد إجرامِه اللامتناهي ضدّ شعبك. ماذا عنى لك ذلك؟

 

دعنا من بشّار الأسد. نال وسام الشرف الفرنسيّ، بغير حقّ، لأغراضٍ سياسيّة، مثل كثيرين من الحُكّام في العالم، وسُحب منه، بحقّ، لأسبابٍ سياسيّة أيضًا.

 

فوجئت حين أعلمني صديقٌ في تمّوز/ يوليو 2018 بأنّي مُنحت هذا الوسام، حتّى إنّي تردّدت في قبوله مع ما في ذلك من إساءة إلى الذين رشّحوني له من غير علمي، وتمهّلت في الردّ على الرسالة الرسميّة التي تشرح الإجراءات الشكليّة التي لا بدّ منها لإدراج اسمي في سجلّ الحائزين عليه. حرصت فيما بعد، يوم تسلّمته، على أن أبيّن معنى أن يكون المرء، بفضل مُصادفاتٍ مُتعاقبة، في موقع الوسيط بين ثقافتين، العربيّة والفرنسيّة، ينتمي إليهما معًا، ويحتفظ بحقّه في نقد ما يراه يستحقّ النقد في العالم العربيّ وفي فرنسا على السواء.

حشد التأييد للثورة والتنديد بالنظام الأسديّ

 

ترأست جمعية “سورية حرّيّة” في فرنسا مدة طويلة، ماذا تحدّثنا عن الجمعيّة، عن مدى حضورها وأنشطها في الآونة الأخيرة في الأوساط الثقافيّة الفرنسيّة، وما هو الدور المأمول الذي يمكن أن تلعبه في قادم الأيّام لإحداث تغيير ما في المجتمع المدنيّ الفرنسيّ؟

 

تأسّست هذه الجمعيّة في أيّار/ مايو 2011، فهي من أوائل الجمعيّات الفرنسيّة والأوروبيّة التي أخذت على عاتقها حشد التأييد للثورة والتنديد بالنظام الأسديّ. وتركّز نشاطها منذ البداية في الميدان الإعلاميّ باتّجاه الرأي العامّ الفرنسيّ، أعني بذلك أنّها لم تكن يومًا جمعيّة للجالية السوريّة، من مُقيمين قدماء ولاجئين جدد، وقد نشأت جمعيّات أخرى لهذا الغرض في عدّة مدن فرنسيّة.

 

شاركت “سورية حرّيّة” في كثير من النشاطات الثقافيّة، الأدبيّة والفنّيّة، وفي بعض المُبادرات الاجتماعيّة وأدرت في إطارها، منذ 2013 حتى بداية جائحة كورونا، ندوات سياسيّة في آخر كلّ شهر حول تطوّر الأوضاع في سورية والمواقف العربيّة والدوليّة منها، وآمل أن نتمكّن من متابعة هذه الندوات في المستقبل القريب، ولو بشكل غير مباشر عن طريق الإنترنت. وليس سرًّا أنّ نشاط “سورية حرّيّة”، مثل غيرها من الجمعيّات ومن المساهمات الفرديّة، لم يتمكّن من تأسيس جبهة قويّة مُناصرة للشعب السوريّ، وذلك لأسبابٍ عدة، منها ما يعود إلى الأوضاع الداخليّة في فرنسا، ومنها إلى تحوّلات الثورة نفسها. من جهةٍ أولى، ثمّة التحفّظ الذي ذكرته إزاء كلّ ما يتعلّق بالعرب والمُسلمين، مُضافًا إلى اللامبالاة العامّة بما يجري بعيدًا عن أوروبا، بل عن الأراضي الفرنسيّة (كم تبدو غريبةً في أيّامنا حماسة الستّينيات والسبعينيات لفيتنام والتشيلي والبرتغال!). ومن جهةٍ ثانية، احتلّت أخبارُ الإرهاب الجهاديّ صدارة الأجهزة الإعلاميّة وطُمس ما عداها، بالسكوت عن تطلّع قطّاع واسع من الشعب السوريّ إلى الديمقراطيّة، أو بإنكار جرائم النظام وحلفائه الإيرانيّين والروس.

حرفت الدعاية المُضادة الأنظار في جميع الأوساط السياسيّة، من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار، عن المأساة السوريّة باسم “المعطيات الإقليميّة والدوليّة المعقّدة”، وأدّت عمليّات (داعش) الوحشيّة، وخصوصًا ما ارتكبته في فرنسا، إلى اعتبار الحرب ضدّ الإرهاب أولى الأولويّات، وأنّ النظام الأسديّ في نهاية المطاف أهون الشرور. وقد تذكرُ تصريح إيمانويل ماكرون بأنّ بشّار الأسد عدوّ شعبه، وليس عدوّ فرنسا، بمعنى أنّ عدوّها الأوحد هو (داعش) وأشباهها من التنظيمات الجهاديّة العدميّة. وجاءت التطوّرات الأخيرة، من جائحة كورونا إلى الجرائم الإرهابيّة الجديدة، لتُغيّب سورية تمامًا عن المشهد.

 

ما العمل في هذه الظروف؟ لا أرى إلّا العناد، عنادنا وعناد أصدقائنا، في التذكير بلا هوادة، وبجميع الوسائل المُتاحة، بما يُعانيه الشعب السوريّ بأسره من هذا النظام، وبما يجرّه إفلاته من العقاب على الشرق الأوسط وعلى العالم كلّه من ويلات.

 

أين تكمن جذور الغموض وتشتت اليسار العربيّ والأوروبيّ، ولا سيما الفرنسيّ، تجاه ثورة شعبك؟

 

يتخبّط اليسار في العالم أجمع في أزمة وجوديّة، هذا في الوقت الذي تحتاج فيه البشرّية إلى يسارٍ جديد، يستخلص دروس تجاربه المأساويّة السابقة، ويُحلّل تحليلًا موضوعيًّا، من غير مُسلّمات أيديولوجيّة، تحوّلات الرأسماليّة في عصرنا. لقد احتدّت أزمة اليسار، بشقّيه الشيوعي والاشتراكيّ – الديمقراطيّ، منذ بداية الثمانينيات، وأدّى انهيار الأنظمة “الاشتراكيّة” وهيمنة الأيديولوجيّة النيولبراليّة، باسم “انعدام البديل”، إلى فقدان الأحزاب الشيوعيّة نفوذها في صفوف الطبقة العاملة (بمعناها الواسع) حتّى إنّها تكاد تنقرض تمامًا في أوروبا. أمّا الاشتراكيّون-الديمقراطيّون الذين تولّوا مقاليد الحكم في زمن العولمة، فقد امّحت أكثر الفروق التي كانت تُميّزهم عن اليمين اللبراليّ، واستمرّ قضم المكتسبات الاجتماعيّة القديمة وخصخصة الخدمات العامّة أو تطعيمها بالرأسمال الخاصّ.

 

في هذه الظروف، كان الردّ الشعبيّ العفويّ على تغوّل الرأسماليّة هو الشعبويّة، اليمينيّة المُتطرّفة واليساريّة على السواء، وسادت في كليهما نظريّات “المؤامرة” والشكّ في المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام الرصينة، وردّات الأفعال المباشرة على غرار “كلب بافلوف”. وأعتقد أنّ موقف اليسار الشعبويّ من الثورة السوريّة منذ بدايتها، قبل عسكرتها وهيمنة الجهاديّين في المناطق التي أفلتت من النظام، هو هذه الحساسيّة السياسيّة البدائيّة. حين تقرأ تصريحات القادة الشعبويّين وشطحات شبكات الاتصّال الاجتماعيّة، يُخيّل إليك أنّ النظام الأسديّ تقدّميّ، بل اشتراكيّ، وعلمانيّ، وفي طليعة الصمود والتصدّي للمؤامرات الإمبرياليّة، وأنّ كلّ ما يُنقل من أخبار عن جرائمه لا أساس لها من الصحّة. أضفْ إلى ذلك شعبيّة “حزب الله” في بعض الأوساط اليساريّة الأوروبيّة، وقد تضاعفت بعد 2006، على غرار ما رأيناه في البلاد العربيّة.

 

ولا عجب في أن يكون اليمين المُتطرّف مُناصرًا مُتحمّسًا لبشّار الأسد (ولبوتين طبعًا)، ولا أن تنتشر في صفوف اليمين الليبيراليّ (الذي ينزع أكثر فأكثر إلى التطرّف) الفكرة القائلة بأنّ طرفي الصراع في سورية هما النظام الأسديّ والجهاديّة العدميّة، وأنّ الأوّل أهون الشرّين.

 

يقودني كلامك عن الأوضاع السياسيّة في فرنسا إلى سؤالك عن التوتّر الراهن في العلاقات العربيّة الفرنسيّة الذي أثاره حديث الرئيس ماكرون عن أزمة الإسلام، ثمّ ردات الأفعال على العمليّة الإرهابيّة التي قام بها شاب شيشاني في ضاحية من ضواحي باريس. ألا تتحمّل العلمانيّة الفرنسيّة نفسها جزءًا من المسؤولية؟

 

صحيح أنّ العلمانيّة الفرنسيّة مُتشدّدة في الفصل بين الدين والدولة، بالمُقارنة مع الدول الأوروبيّة الأخرى، وهذا بسبب صراعها الطويل والمرير مع الكنيسة الكاثوليكيّة، ولكنّها تضمن ممارسة المؤمنين لشعائرهم الدينيّة بحرّيّة، على أن لا تتحوّل أماكن العبادة إلى منابر سياسيّة، وأن لا تُرتكب فيها مُخالفات قانونيّة. الفكرة المركزيّة في العلمانيّة الفرنسيّة هي حياد الدولة إزاء جميع الأديان، وهذا يعني ابتعادها عن التدخّل في شؤونها الداخليّة والامتناع عن تمويلها. وقد تكيّفت الكنائس المسيحيّة شيئًا فشيئًا مع قانون 1905 الذي يُنظم العلاقة بينها وبين الدولة، مع العلم بأنّها فقدت من جرّاء تطبيقه مكانتها القديمة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة. ما حدث منذ سبعينيات القرن الماضي هو استقرار مئات الألوف من العمّال المهاجرين الآتين من المغرب العربيّ بصورة خاصّة، حاملين معهم تقاليدهم الاجتماعيّة والدينيّة الإسلاميّة التي تختلف بطبيعة الحال عن العادات المُتأصّلة في فرنسا. هؤلاء المُهاجرون القُدامى يُقدّر عددهم في أيّامنا هذه، مع أولادهم وأحفادهم، بخمسة ملايين نسمة، كلّهم تقريبًا يحملون الجنسيّة الفرنسيّة، وهذا جعلهم يُشكّلون نحو 8% من مجموع الشعب الفرنسيّ، وجعل الإسلامَ الدينَ الثاني في البلاد بعد الكاثوليكيّة. لن أتعرّض بالتفصيل لهاتين النقطتين (خصائص العلمانيّة الفرنسيّة من جهة، وأوضاع المُسلمين من جهةٍ ثانية) مُكتفيًا بثلاث ملاحظات: الأولى أنّ الحكومات الفرنسيّة المُتعاقبة لم تُعالج المشكلات التي نشأت عن هذا التطوّر الديموغرافي المُهمّ (مشكلات اقتصاديّة وسكنيّة وتعليميّة ودينيّة) فاستفحلت شيئًا فشيئًا، ورافقتها حملات عنصريّة معادية للمُسلمين مع اتساع نفوذ اليمين المُتطرّف؛  والثانية أنّ ثلث المُسلمين على الأقل، بحسب استطلاعات الرأي العامّ، لم يندمجوا في المُجتمع الفرنسيّ، وأكثرهم من الشبّان، وجعلوا من الإسلام دينًا احتجاجيًّا اخترقته الجماعات الجهاديّة، فتعرّضت فرنسا أكثر من أيّ دولةٍ أُوروبيّةٍ أُخرى لعمليّات إرهابيّة أدّت إلى مقتل مئات المواطنين؛  والثالثة أنّ الحرب على الإرهاب وعلى ما أسماه ماكرون “الانفصاليّة الإسلاميّة” تقتضي عدم الانفصال عن جُمهور المُسلمين المندمجين في الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والكفّ عن التسلّي بإهانتهم. ولا بدّ أيضًا لهذا الغرض من وضع خطّةٍ شاملة، تُعبّاُ لها أجهزة الدولة وتُرصد الموازنات الضروريّة، لدمج الشبّان الذين أشرت إليهم (المُقيمين في غيتويات الضواحي الفقيرة المُهملة والتائهين بين تعاطي المُخدّرات والتطرّف الدينيّ) في الجماعة الوطنيّة، باعتبارهم مواطنين يتساوون مع غيرهم في الحقوق والواجبات. ولن تعجز فرنسا، إذا شاء مُشرّعوها وحكّامها، عن أن تجد حلًّا ملائمًا لكلّ المسائل المُعلّقة منذ سنوات في صدد ممارسة المُسلمين شعائرهم الدينيّة بحرّيّة وكرامة، كتمويل بناء المساجد وتأهيل الأئمّة من غير اللجوء إلى بعض الدول العربيّة وتركيا وإيران، فتتلافى بذلك استتباعهم سياسيًّا من قبل هذه الدول أو من قبل الجماعات الإسلاميّة المُتطرّفة.

 

يطرح التوتّر الحالي مسألة أُخرى لا تخصّ الإسلام وحده، وإنّما جميع الأديان: تكفل الدولة الفرنسيّة حرّيّة الضمير وحرّيّة التعبير، حتى حرّيّة التجديف والسخرية من العقائد الدينيّة، وهذه أيضًا وريثة الصراع القديم مع الكنيسة ولا مجال للرجوع عنها. ما يأخذه كثيرون على مجلّة “شارلي إيبدو”، ومنهم رجال دين مسيحيّون، هو الإمعان في إهانة المُسلمين برسومها التي تسخر من مُقدّساتهم، وكأنّها تتقصّد إثارتهم لتُثبت استحالة اندماجهم في المُجتمع الفرنسيّ، وما يأخذونه على بعض المسؤولين والإعلاميّين هو إصرارهم على أنّ الإعجاب بهذه الرسوم “فريضةٌ علمانيّة” ودليلٌ على احترام القيم الجُمهوريّة. ولا حاجة إلى التأكيد أنّ هذه المواقف الرزينة تترافق مع إدانة الإرهاب بشدّة، ولا تُهوّن من شأن الأزمة الأخلاقيّة التي يتخبّط فيها العالم الإسلاميّ.

تطييف “الثورة اليتيمة” وتحويلها إلى حرب أهليّة

 

أعود وإياك نحو عقد من الزمن، تحديدًا منتصف آذار/ مارس 2011، لأسألك: ماذا حدث، لماذا حدث، من المسؤول؟

 

ما حدث انتفاضة شعبيّة عارمة، في ظروفٍ محليّة وإقليميّة ودوليّة غير مُلائمة. أسماها ياسين الحاج صالح “الثورة المُستحيلة”، وأسميتها “الثورة اليتيمة”. كانت مستحيلةً، لأنّ نظام حافظ الأسد “فخّخ” المجتمع السوريّ، بحيث ينفجر إذا تحرّكت فيه نملة، ولأنّ الشعب السوريّ حُرم من السياسة طوال أربعين عامًا، ودُمّرت جميع مُنظّماته الأهليّة المستقلّة، ولم تتوفّر له قيادات سياسيّة ذات حُضور فعلي على الأرض، استأثر بتمثيل الثورة أشخاصٌ أفقدوها مصداقيّتها أمام العالم -حكوماتٍ وشعوبًا- بسبب تناحرهم وولائهم لهذه الدولة أو تلك، ورفضهم اتّخاذ موقفٍ صريح من الجماعات الجهاديّة وانقطاعهم عن الجيل الشاب الذي انطلق من عقاله في آذار/ مارس 2011.

 

وكانت ثورةً يتيمةً، لأنّ الدول الغربيّة التي ادّعت “صداقتها” للشعب السوريّ، لم تكن تنوي نصرته إلّا ببعض المبادرات الدبلوماسيّة، خلافًا لأوهام الذين نصّبوا أنفسهم متكلّمين شرعيين باسمه. لم يُدركوا منحى سياسة باراك أوباما الخارجيّة، وخشيته من توريط الولايات المُتّحدة من جديد في الشرق الأوسط، على الرغم من أنّ الإدارة الأميركيّة أعلنت بصراحة رفضها التدخّل لتأمين ممرّ للمساعدات الإنسانيّة أو لإقامة منطقة عازلة أو لفرض حظر جويّ، فكيف يُنتظر منها التدخّل العسكريّ المباشر على طريقة حلف شمال الأطلسيّ في ليبيا… وإلى هذا، لا أستخفّ بالرأي القائل إنّ إسرائيل كانت تعارض إسقاط النظام القائم، لأنّه حرص على مهادنتها بعد حرب 1973، مهما علا صراخ أجهزته الإعلاميّة، ولأنّ من مصلحتها استمرار الاقتتال في سورية لإنهاكها. وعلى الصعيد الشعبيّ، كان قطاع واسع من الرأي العامّ في الولايات المُتّحدة وأوروبا يُعارض أيّ تدخّل خارجيّ، بعد فضح أكاذيب بوش عن العراق، ونظرًا إلى نتائج الغزو الأميركي الكارثيّة وإلى الوضع المتردّي في ليبيا بعد سقوط القذّافي. ولأنّ التدخّل الدوليّ لم يكن في حساب أيّ قوّةٍ قادرة عليه، كان الخلاف الذي احتدم بين أنصاره السوريّين، وبين الذين تذرّعوا برفضه لتبرير مواقفهم الرماديّة مضحكًا مُبكيًا. كانت روسيا، حليفة النظام، على النقيض من الولايات المُتّحدة، تسعى إلى تثبيت موقعها كدولة عظمى، فانتهزت الفرصة التي سنحت لها لصدّ المبادرات الدبلوماسيّة الغربيّة في مجلس الأمن، ثمّ للتدخّل العسكريّ الذي أتاح للنظام استعادة أغلب المواقع التي كان قد خسرها في السنوات الأولى من الحرب. ولا يُمكن بأيّ حال مقارنة التدخّل الإيراني الكثيف، المُباشر وغير المُباشر من خلال الميليشيات الشيعيّة، مع التدخّل السعوديّ والتركيّ والقطريّ الذي أدّى إلى استتباع المعارضة “الرسمية” وترسيخ انقساماتها.

 

إلى أيّ مدى ألحقت (عسكرة الثورة) ضررًا بالثورة والقضيّة السوريّة، ومن قبل، برأيك، هل كان حمل السلاح ضروريًّا؟

 

لم تكن عسكرة الثورة في بدايتها قرارًا من أحد، انطلقت بصورةٍ عفويّة بلا قيادة موحّدة ولا إستراتيجيّة واضحة المعالم. كان النظام يتمنّى أن يلجأ الثوّار إلى السلاح للدفاع عن أنفسهم، فيُبرّر بذلك بطشه بالمتظاهرين السلميّين الذين كانوا يكتفون بالهتاف والغناء وإزالة رموز النظام من شعارات ولافتات وتماثيل.

 

لا أعتقد أنّه كان بالإمكان تفادي العسكرة، بعد أن زجّ بشّار الأسد جيشه في قمع المتظاهرين، وبعد أن انشقّ ضباطٌ وجنودٌ تضامنًا مع المُتظاهرين. لم يكن هؤلاء، ولا من انضمّ إليهم من المدنيّين، مُستعدّين للمعركة التي فُرضت عليهم. خاضوها بشجاعة، ولكنْ بعشوائيّة، وارتكبوا فيها أخطاء فادحة، أهمّها في نظري السيطرة على مدنٍ آهلة بالسكّان، خصوصًا حلب الشرقيّة، وهم لا يستطيعون حماية المدنيّين فيها. لم تنحرف الثورة أو “تُخطف” كما قيل لأنّها تعسكرت. الخطأ القاتل هو أنّ المعارضة لم تتوقّع هذا التحوّل الحتميّ ولم تتهيّأ له، بعكس النظام المُدجّج بالسلاح والمدعوم بقوّة من إيران. ولم يصعب فيما بعد على الإسلاميّين الجهاديّين أن يُسيطروا على المناطق المحرّرة، بسبب تشرذم كتائب الجيش الحرّ وصعوبة تسليحه وتمويله، والاحتقان الطائفي الذي ازداد حدّةً، بسبب التدخّل الإيراني وتدفّق الجهاديّين الغرباء، وكذلك انحسار الحراك الشعبيّ المدنيّ ومقتل عشرات الألوف من الناشطين أو اعتقالهم.

 

 يجب مع ذلك أن لا ننسى أنّ هؤلاء الجنود والضبّاط طردوا النظام من نصف البلاد، ولو توفّر لهم السلاح النوعيّ المضاد للطائرات؛ لما كان باستطاعة النظام استعادة بعض مواقعه -وهو لم يستعدها إلّا بفضل روسيا وإيران- و لما تمكّن الجهاديّون من ترسيخ وجودهم، ولما تمكّنت تركيا في السنتين الأخيرتين من تعبئة فُتات الجيش الحرّ وغيره من المسلّحين المرتزقة في معارك داخليّة وخارجيّة لا تمتّ بصلة لتطلّعات الشعب السوريّ.

 

تشرذم أطياف وقوى وأحزاب المعارضة السياسيّة والعسكريّة السوريّة، وغياب مظلّة جامعة توحدهم، وهم في مواجهة مفتوحة مع النظام الأسديّ على الأرض وفي المحافل الدوليّة، هل سببه الحفاظ على المصالح الذاتية للمعارضين السوريّين، بعد أن تحوّل بعضهم إلى أمراء حرب، أم هو نتيجة الولاءات للقوى الإقليميّة والدوليّة، أم ترى أسبابًا أخرى؟

 

 لنتّفق أوّلًا على أنّ روسيا وإيران هما اللتان أنقذتا النظام حتّى الآن، وأنّهما تتحمّلان معه مسؤوليّة كلّ هذه الدماء المسفوكة وكلّ هذا الدمار في العمران، وتشرّد ملايين السوريّين في داخل البلاد وفي خارجها. ولكنّ هذا لا يعفي من المسؤوليّة جميع الهيئات الهزيلة المنخورة بتناقضاتها الداخليّة التي تشكّلت تباعًا مُدّعية تمثيل قوى الثورة والمُعارضة، ولم تكن تمثّل إلّا رعاتها الإقليميّين. يبقى أن نفهم أسباب سلوكها الانتحاري وإصرارها على الخطأ بعد الخطأ، ولا فرق في ذلك بين الإخوان المُسلمين وبين المُنحدرين من أحزابٍ قوميّة أو يساريّة قديمة، ومعهم أنصاف الليبيراليّين الجدد. هل السبب سوء تقدير المعطيات السياسيّة أم العصبيّة الحزبيّة الضيّقة أم الفساد الماليّ أم الطموح الشخصيّ أم هذه الأسباب مُجتمعة؟ ولكنْ، لماذا لم تتشكّل تنظيمات موازية؟ لماذا عزف السوريّون الذين لا يُشكّ في إخلاصهم ويجمعهم هدفٌ نبيل عن العمل تحت مظلّةٍ واحدة؟ وينسحب هذا السؤال على الجمعيّات الصغيرة في الشتات، إذ تجد العشرات منها في كلّ دولة، وما من سبيلٍ إلى توحيدها، أو إلى التنسيق فيما بينها، حتى ليبدو لك أنّ كلّ فردٍ من أفرادها جمعيّة مستقلّة مُكتفيةٌ بذاتها!

 

هل تتفق مع من يرى أنّ السوريّين في المرحلة الراهنة لم يعد لهم أيّ تأثير في «العمليّة السياسيّة» سوى انخراط بعضهم بمسارات مرسومة تعوِّم نظام بشّار الأسد؟

 

مَن يُصدّق أن الحلّ مرهونٌ بمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين المعارضات التي تكلّمنا عنها والنظام؟ ولكن من الواضح، مع هذا، أوّلًا أنّ سورية لم تفلت من أيدي السوريّين فقط، بل من أيدي جميع اللاعبين، وثانيًا أنّنا في وضعٍ فريد يتمثّل في عجز أيّ قوّة من القوى الفاعلة في المنطقة عن حسم المعركة لصالحها وحدها، وثالثًا أنّه لا حلّ إلّا باتّفاقٍ ما بين هذه القوى: الولايات المُتّحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، على الأقلّ بين الولايات المُتّحدة وروسيا. افترض أنّه ليس من مصلحة أيٍّ منها إقامة نظامٍ ديمقراطيّ في سورية، كما أفترض أنّ الروس، خلافًا للإيرانيّين، يُفضّلون ترقيع النظام بقيادة جديدة على الإبقاء على بشّار الأسد.

 

كيف للنخب السياسيّة والثقافيّة اليوم التمكّن من رسم سياسات تُفكك بنيّة الدولة الأبويّة الاستبداديّة، وتنهي ثقافة الإفلات من العقاب، وتستعيد مؤسّسات الدولة، وتعمل من أجل التغيير الجذريّ لإرساء الديمقراطيّة والعدالة الانتقاليّة في سورية الجديدة؟

 

جهدت مراكز أبحاث، وجهد باحثون مُنفردون منذ 2011 في رسم مثل هذه السياسات، ولدينا عشرات الدراسات في كلّ منها، وفي قضايا دستوريّة واقتصاديّة واجتماعيّة تفصيليّة. ولكن أين نحن الآن من هذا كلّه في أوضاعنا الفاجعة؟ وأين هي القوى السياسيّة التي ستكون قادرةً في يومٍ ما على تنفيذ برنامج إصلاحيّ مبنيّ على كلّ هذه الجهود؟ أولى مشكلات الطيف الواسع من المُثقّفين الذين يتطلّعون إلى الديمقراطيّة هي ابتعادهم عن السياسة، رفضهم العمل الجماعيّ، الحذر الدائم من نيّات الآخرين الشرّيرة، اكتفاؤهم بالتحسّر على ما آلت إليه الأوضاع، والحكم على كلّ ما جرى ويجري في العالم انطلاقًا من أيديولوجيّة ليبيراليّة باهتة ومُريحة يعتقدون أنّها تُنجيهم من العمى الأيديولوجيّ الذي ابتليت به الأجيال السابقة.

 

هُزمَت الثورة السوريّة، غير أنّ ما تكبّده السوريّون من عذاب طوال عشر سنين لم يكن بسبب هزيمتها فقط، بل لأنّ سورية كانت مقبرة الثورات العربيّة. دفع السوريّون ثمن فشل “ربيع” 2011 في مصر واليمن وليبيا، وسيدفعون ثمن فشل انتفاضات 2019 في الجزائر والعراق ولبنان. ولذلك ربّما كانت البداية الصحيحة، بعد الاعتراف بالهزيمة، هي السؤال عن أسباب عجز الشعوب في هذا العصر، وليس الشعوب العربيّة فحسب، على الرغم من زخم تظاهراتها السلميّة المليونيّة، عن التخلّص من أنظمتها الاستبداديّة، وقد تؤدّي معرفة الجواب إلى تصويب المسار في المستقبل وإعداد العدّة لثوراتٍ ديمقراطيّة ظافرة.