عضو الامانة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري

جورج صبرة
بعد أن احتلت روسيا موقعاً جديداً على الخريطة الجيوسياسية في المنطقة ، من خلال هجومها العسكري على الأرض السورية في شهر تشرين الأول الماضي ، وأخذت استحكاماتها على الأرض وفي البحر والجو . قامت السياسة الروسية بالهجوم المعاكس على الساحتين الإقليمية والدولية . وقدمت أفكاراً لمسلسل من الاجتماعات والمؤتمرات تحت اسم ” فيينا ” . بدأت ثنائية فرباعية ، وتصاعد العدد حتى شمل أكثر من عشرين دولة ومنظمة إقليمية وأممية ، كما حصل في الحلقة الثالثة من فيينا التي عقدت 13 – 14 تشرين الثاني الجاري . وبدءاً من الاجتماع الثاني 30 تشرين الأول ، استدعت فيينا عدداً من المشاركين كدول ومنظمات ، يتساءل كثيرون عن أهمية هذا الحضور ومشروعيته وضرورته . وكذلك عن نوع المساهمة التي تنتجها هذه المشاركة ، خاصة وأن بعضاً من هذه الدول ( إيران مثلاً ) لم يعترف بالعملية السياسية ، إنما يعتمد الحل العسكري ، ويشارك فيه عبر قوات مسلحة على الأرض . وتشكلت بفعل ذلك المؤتمر ” المجموعة الدولية لدعم سورية ” لبحث كيفية الوصول إلى حل سياسي للصراع .
في البيان الصادر عن الاجتماع في 14 / 11 / 2015 تكرر ذكر بيان جنيف1 لعام 2012 ست مرات في محاولة للتأكيد على أهمية البيان المذكور كمرجعية أساس للعملية السياسية ، التي تسعى لإيجاد حل سياسي في سورية . غير أن ذلك لم يستطع أن يخف حقيقة الخروج عن قاعدة جنيف وخطتها الرئيسة بشكل كامل . إذ بدا واضحاً أن هذا التأكيد المتكرر ، أتى للتغطية على حجم الانحراف الذي حصل في فيينا ، بعيداً عن الأساس الذي بنيت عليه العملية السياسية . وهو يشي برغبة دفينة لا يمكن إخفاؤها في العقل السياسي الروسي لدفن جنيف1 وبيانه وخطته وتفاصيله ، وإخراجه من دائرة الفعل والاعتبار ليصبح شيئاً من الماضي . وكذلك ما بني عليه من مؤتمر جنيف2 وقرار مجلس الأمن 2118 وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 262 لعام 2013 . وللأسف نجحت السياسة الروسية في وضع رؤيتها وإرادتها على طاولة المؤتمر ، وجعلتها الأساس في بناء مخرجاته . مستفيدة من امتداد إرهاب داعش وجرائمه البشعة ، التي طالت مواقع عديدة في المنطقة والعالم . كان أخطرها وأشدها تأثيراً تفجيرات باريس عشية انعقاد المؤتمر .
وفي مسعى مواز لتغييب جنيف وإرثها الإيجابي في مؤتمريها الأول والثاني ، بدأ الحديث عن بيان فيينا Vienna Communique كشريك في المرجعية السياسية للحل ، ثم تدريجياً تتم عملية إهمال جنيف ، لتبقى فيينا في مقدمة الصورة ورهن التداول على طاولة المناقشات . والهدف من وراء ذلك طي المفهوم الأساس للحل واستبداله بآخر . هذا المفهوم الذي حاز على قبول السوريين ، ليكون المنطلق لبداية مرحلة انتقالية ، تفضي إلى الحل المنشود ، وهو ” هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية ” ، وبني على أساسه مؤتمر جنيف 2 . وعوضاً عن ذلك ، تقدم فيينا صيغة بديلة وملتبسة ، إذ تتحدث عن ” حكم موثوق شامل وغير طائفي ” governance دون الإشارة إلى مفهوم واضح له ، أو أي ألية عملية لتحقيق ذلك . مما يمكن أن يحيل – بمراوغة غامضة – إلى ” الحكومة الموسعة ” أو ” حكومة الوحدة الوطنية ” التي اعتمدها الروس والإيرانيون ، ويعملون على تسويقها . وفي أحسن الأحوال إلى تركيبة ملفقة تكون تسوية شكلية على الطاولات ، وتصبح مشكلة حقيقية على الأرض ، لا تصمد أمام أول امتحان . وبالتالي يبقى النظام في بنيته الأساس الأمنية والعسكرية والفئوية ، مع إجراء ” إصلاحات سياسية ” و ” تغييرات دستورية ” استنسابية وغير محددة . وتبقى رهناً بإرادة النظام وضمن رغبته وفي إطار مفاهيمه .
القضية الثانية التي جرى تغييبها هي مصير بشار الأسد . فرغم الخلاف الظاهر في التصريحات بين الولايات المتحدة وروسيا بهذا الشأن ، وشدة الوضوح والحسم فيما أكده مراراً – ويعيد تأكيده – عادل الجبير وزير الخارجية السعودية بشأن رأس النظام السوري ، فقد خلا اجتماع فيينا ومخرجاته من أي إشارة للموضوع . مما يشي بالرغبة في تجاوزه ، رغم أن جميع مؤسسات الثورة ومنظماتها العسكرية والثورية والسياسية ، وكذلك الروابط والتجمعات الدينية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني ، التي وقعت على بيانات مشتركة ، كانت أكثر إصراراً على هذه القضية والتمسك بأولويتها ومحوريتها في أي حل .
إن مصير بشار الأسد وموقعه في إطار أي حل سياسي ليس شيئاً ثانوياً أو طرفياً يمكن تجاهله أو تجاوزه ، لأنه من أساسيات هذا الحل . فإضافة إلى ما يمثله من رمزية للنظام المتوحش وارتكاباته ، ومسؤوليته الأولى والأخيرة عن التدمير المنهجي الذي طال البلاد والعباد ، فإن التفكير بمرحلة جديدة لإخراج البلاد مما هي فيه ، يقتضي بالضرورة إزاحة الذين ارتبطت بأسمائهم وأفعالهم مرحلة التدمير الشامل لسورية . إذا أراد الفاعلون للحل السياسي أن يكون حقيقياً ومقبولاً ، ويكتب له النجاح . إن الحل السياسي المنشود يجب أن يحمل رسالة واضحة للسوريين بأن عصراً جديداً قد افتتح ، يقطع مع الماضي ، ويفتح الباب لولادة سورية جديدة . ورحيل بشار الأسد عنوان هذه الرسالة .
وغني عن القول ، إن وضع قضية ” تصنيف المنظمات الإرهابية ” و ” الوفد الذي يمثل المعارضة ” بأيد غير سورية ( مع الاحترام للجميع دولاً وأفراداً وأصدقاء ) أمر خارج عن حدود المقبول . وفيه تعد واضح على مهمة هي من الشأن السوري . وليس لأحد أن يكون بديلاً عن السوريين في تقريرها .
باختصار ، كان الشعب السوري المغيب الأكبر في فيينا وما نتج عنها .
وهكذا . . بعد أن رمى اجتماع فيينا منجزات جنيف السياسية إلى الخلف . وجعل بشار الأسد وزمرته الحاكمة محوراً أساسياً للحل السياسي وممراً له . وفوض المبعوث الدولي السيد ستيفان ديمستورا باختيار وفد المعارضة للمفاوضات . وكلف الأردن بإجراء التصنيفات اللازمة للمنظمات الإرهابية في سورية . وحدد جدولاً زمنياً ومواعيد مفترضة للعمليات المقترحة . فما الذي تركه للسوريين غير الانصياع لإرادة الآخرين والتجاوب مع مصالحهم وتنفيذ القرارات التي يتخذونها ؟
بعد ذلك وفوقه ، لم يتعب السيد سيرجي لافروف من تكرار تصريحه ليلاً نهاراً ” إن مستقبل سورية يحدده السوريون ” . شكراً سيادة الوزير على هذه اللفتة الكريمة . هل بقي شيء لم يحدد بعد بغياب السوريين ؟ !
استنبول 17 / 11 / 2015