عضو الامانة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السوري

جورج صبرة

لا يستطيع أحد أن ينفي تعرض الوطنية السورية لمحنة قاسية، نتيجة ما جرى ويجري في البلاد منذ أكثر من أربع سنوات. وليس لأحد أن يتجاهل حقيقة تشابك عناصرها الداخلية والخارجية، ومؤثراتها الإقليمية والدولية. من المخططات والمشاريع الإيرانية والإسرائيلية، وليس انتهاء بها، إلى الخرائط المتعددة التي تظهر وتختفي على طاولات مراكز البحث والقرار التي دأبت على التبشير بـ ” الشرق الأوسط الجديد “. ولأن سورية بوابة المشرق، فهي موضع التقاء الحضارات وساحة اصطدام المصالح ومنصة الصراع على النفوذ، ومن الطبيعي أن تكون المختبر الأوسع لهذه المشاريع، وقاعة الامتحان الكبرى للمكونات الوطنية والقوى الاجتماعية والجماعات القومية والدينية والطائفية المتماثلة في معظم أنحاء منطقة أساسها التعدد، وجوهر الإعمار البشري فيها قائم على التنوع، وضمان بقاء الجميع عبر التاريخ. فلا أحد بمقدوره أن يلغي أحداً، أو ينفيه. غير أن شعوبها دأبت على خوض امتحان الوطنية بين حين وآخر لأسباب إقليمية ودولية.

إن العوامل الداخلية (التاريخية والمستجدة) تشكل إضافة نوعية للعوامل الخارجية، وتعمل على تبييئها وتفعيلها. فتجعل المحنة الوطنية السورية اليوم أكثر جدية وأشد خطورة وإيلاماً من ذي قبل. خاصة بعد أن كشف عنها رأس النظام في خطابه الأخير، عندما ” بق البحصة ” كاشفاً عن نوايا النظام وحلفائه في طهران فيما يتعلق بالشأن السوري. فقد أعلن على الملأ، أنه لم يعد معنياً بسورية التي عرفها العالم خلال قرن مضى، ورسمتها الخرائط التاريخية والجغرافية والسياسية. إنما بمنطقة أو مناطق يريد الدفاع عنها ويستطيع.  وبذلك أفسح المجال لمصطلح ” سورية المفيدة ” ومفهومها، أن يخرجا من السر إلى العلن ومن صيغة التوقع والتحليل إلى صيغة المعلومة والخبر. كما وضع تعريفه الخاص للسوريين، نافياً أن يكونوا أصحاب البلاد الأصليين الذين ورثوا أرضها وسماءها أباً عن جد، وشكلت رفات أسلافهم تربتها، وصنعوا تاريخها وحضارتها. بل أولئك الذين يستقدمهم من شتى أصقاع الأرض على خلفية مذهبية للدفاع عنه في الصراع الدموي المتوحش الذي أشعله في سورية وبين السوريين.

عندما نتحدث عن الوطنية السورية، نذهب مباشرة إلى الأرض والشعب. تلك الأرض التي اسمها التاريخي سورية، وحددتها خريطة الانتداب للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى. دخلتها قوات الجنرال غورو 1920، وثارت ضد الاستعمار ثورتها الكبرى 1925، وخرج أخر جندي فرنسي من أراضيها في 17 نيسان 1946. وذلك الشعب متعدد الإثنيات والأديان والمذاهب، الذي يعيش فيها منذ مئات السنين بل آلافها. وأولئك الذين وفدوا إليها بأشكال متنوعة ونتيجة أسباب مختلفة، في إطار التحرك السكاني الذي تشهده الامبراطوريات عادة، وخاصة في ظروف الصراعات الكبرى. وما أكثر الامبراطوريات التي نشأت في سورية أو امتدت إليها. فقلب العالم القديم لا بد أن يكون كذلك. فتلاقت على هذه الأرض وتفاعلت اليهودية والمسيحية والإسلام بجميع تفرعاتها ومذاهبها وكل مدارسها الفكرية والعقائدية والطقوسية. وتجاور فيها العرب والكرد والسريان الآشوريين والتركمان والشركس والأرمن، بكل انتماءاتهم وانتساباتهم الفرعية. وجد الجميع أنفسهم في سورية، واختاروا أن يعيشوا فيها رغم توفر البدائل. أخذوا منها وأعطوها، وقبلوا بها وطناً في حياتهم المعاصرة.

شكل عقد العشرينات من القرن الماضي المخاض الذي ولدت بفعله وكنتيجة له ” الدولة السورية الأولى “. واجتهد الذين أنشأوها بأن تكون الوعاء الذي يستوعب الجميع دستورياً وقانونياً على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. بحيث تنفتح أمام الجميع أيضاً أبواب العيش بكرامة وأمن، وتتوفر لهم سبل التقدم والارتقاء كجماعة وكأفراد.

نشأ مشروع ” الدولة الوطنية “(1) في سورية بولادة دستور 1930، الذي أنتجته جمعية تأسيسية انتخبت لهذا الغرض عام 1928 برئاسة هاشم الأتاسي، مع وجود نائبين له هما: فوزي الغزي وفتح الله أسيون. وانتخبت الجمعية التأسيسية إبراهيم هنانو رئيساً للجنة التي وضعته. عربي وكردي وتركماني ومسيحي على رأس الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور، وصدر عام 1930.

محن كثيرة وامتحانات متكررة

تعود جذور الوطنية السورية إلى بداية القرن الماضي، حين بانت بوضوح بداية النهاية لعصر الامبراطوريات، وولادة عصر الدولة الوطنية / القومية. ففي عام 1908 انتصرت الثورة الكمالية في استنبول، وعزل السلطان عبد الحميد الثاني، وبدأت بالظهور وبقوة معالم دولة تركية في السلطنة، عبر ما سمي حركة التتريك التي بدأت تفرض رؤيتها وتوجهاتها. وكان هذا أول امتحان للسوريين العثمانيين، الذين يشكل العرب غالبيتهم وعصبهم الرئيس. فتنادوا لعقد مؤتمر في باريس 18 / 6 / 1913 (2) لمناقشة ” الاحتلال الأجنبي والنضال الوطني “. شاركت فيه نخبة متنوعة من الوطنيين النهضويين من أبناء سورية الطبيعية (بلاد الشام) أمثال: عبد الحميد الزهراوي، عبد الغني العريسي، سليم سلام، نجيب عازوري، شارل دباس، عوني عبد الهادي، محمد عزة دروزة، جميل مردم بك. اجتهد المؤتمرون في إيجاد موقع لأبناء وطنهم في أجواء الاهتزازات والانهيارات الكبرى للامبراطوريات وأجواء الحرب العالمية الأولى، التي بانت نذرها في الأفق. فاهتموا بأمر تحصيل الحقوق في إطار الدولة العثمانية. وفي الجلسة الثانية للمؤتمر، تحدث ندرة المطران عن ” حفظ الحياة الوطنية في البلاد العربية العثمانية، ورفض دعاوي حماية نصارى سورية من أجل تحقيق المطامع الأجنبية “. لم يكن المطران في ندائه هذا غير عابئ بحماية المسيحيين وهو منهم، لكنه كان معنياً أكثر بالوطنية السورية، التي تشكل رابطة عيش وأمان وازدهار للجميع. ويريد فضح هذه الشعارات التي تطورت فيما بعد إلى ” حماية الأقليات “. وهي كما أدرك الجميع من قبيل دس السم في الدسم.

جاءت محنة البذور الوطنية، التي زرعها مؤتمر باريس سريعاً على يد جمال باشا السفاح، عندما علق على أعواد المشانق في كل من بيروت ودمشق عام 1915 و1916 نخبة من الوطنيين السوريين، تتضمن عدداً كبيراً من مندوبي المؤتمر المذكور، الذين لم يتجاوز عددهم 28 مندوباً. غير أن الوطنية السورية رصدت ذكرى شهدائها في ساحتي الإعدام بدمشق وبيروت بتسمية كل من الساحتين باسم ساحة الشهداء، وخلدت أسماءهم كأبطال في سجل الخالدين.

استقلال سورية / محاولة أولى

دخلت الوطنية السورية امتحانها الجديد مع دخول الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق، حيث رفع الكردي أحمد بارافي علم الثورة العربية على سراي الحكومة. وبين حزيران 1919 وتموز 1920 انعقد فيها ” المؤتمر السوري العام “(3) الذي كان بمثابة برلمان سوري، ترأسه هاشم الأتاسي، وضم في عضويته مسيحيين وأكراداً ويهودياً هو يوسف لينادو. أعلن المؤتمر في آذار 1920 ” استقلال سورية باسم المملكة السورية العربية “، واتخب الأمير فيصل ملكاً عليها. تلا محمد عزة دروزة بيان المؤتمر على الجماهير في ساحة الشهداء (المرجة) بقلب دمشق.

تحدث المؤتمر عن الأمة السورية وقال: ” لا تزال البلاد رازحة تحت الاحتلال والتقسيم العسكري ” في إشارة إلى نزول الجيش الفرنسي على الساحل السوري بعد الحرب عام 1919. ونص بيانه بالحرف ” رأينا بصفتنا الممثلين للأمة السورية في جميع أنحاء القطر السوري. وجوب استقلال سورية. وحفظ حقوق الأقلية. وأن تدار مقاطعات هذه البلاد على طريقة اللامركزية الإدارية “. وضع المؤتمر دستوراً للبلاد، وشكل حكومة برئاسة رضا الركابي.

غير أن محنة الوطنية السورية هنا لم تتأخر. فبعد أن نشر دستور الدولة الوليدة في 13 تموز، سارعت قوات الانتداب الفرنسي بقيادة الجنرال غورو إلى إسقاطها ودخول دمشق في 25 تموز 1920 كقوة احتلال أجنبي، أنهت محاولة بناء دولة سورية لأول مرة. لم تتوقف المحنة عند احتلال سورية، بل تابعها غورو بتقسيم البلاد مذهبياً ومناطقياً. فأنشأ دويلات دمشق وحلب والعلويين، ثم ألحقها عام 1921 بدويلة جبل الدروز. قسمت سلطات الانتداب سورية رغم أن لجنة كنج – كراين الأممية عام 1919 أوضحت في تقريرها أن ” الوحدة الاقتصادية والجغرافية والجنسية السورية واضحة، ولا تبرر تقسيم البلاد. وإن توحيد سورية يتماشى مع أماني شعبها ومبادئ عصبة الأمم “.

رفض السوريون في مختلف مناطقهم تقسيم البلاد، ولم تتوقف المظاهرات والمطالبات بوحدتها واستقلالها بين عامي 1920 – 1922 (4). والعلويون والدروز هم الذين رفضوا التقسيم والدويلات التي أنشئت لهم. وتمثل الرد الحقيقي والكبير على مشروع التقسيم بالثورة السورية الكبرى عام 1925. إذ ثار العلويون بقيادة الشيخ صالح العلي 1919 في وجه الاحتلال الفرنسي للساحل، قبل دخول الفرنسيين دمشق. وتتالت بعد ذلك الثورات في مختلف المناطق دفاعاً عن الوطن السوري. في حوران، في حمص، في جبل الزاوية بقيادة إبراهيم هنانو، في دير الزور بقيادة رمضان شلاش، وفي الغوطة بقيادة حسن الخراط. واجتمعت إرادة الثوار في مختلف المناطق على إطلاق الثورة السورية الكبرى في 21 تموز 1925 واختيار سلطان باشا الأطرش لقيادتها. تم ذلك في مؤتمر ” ريمة الفخور ” بعد معركة المزرعة، التي قضى فيها الثوار على حملة الجنرال ميشو ضد السويداء.

حملت الثورة السورية رسالة وطنية شاملة في رفض الانتداب، وما فعله من تقسيم في البلاد. وأعلنت أهدافها ببيان واضح ” توحيد سورية ساحلاً وداخلاً، والاستقلال ورفض الانتداب “. ونجحت الوطنية السورية من جديد في امتحانها الأصعب. فرغم أن الثورة لم تنته بانتصار عسكري، لكنها أنتجت انتصارات سياسية، كان من نتائجها إعادة توحيد البلاد، وإجراء انتخابات فاز فيها إبراهيم هنانو وهاشم الأتاسي، وأفضت إلى إعلان ولادة ” الجمهورية السورية ” بدستورها الجديد، وعلمها الجديد، الذي اعتمدته الثورة السورية اليوم. وأقر دستور الدولة 1930 ” سورية جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام. البلاد السورية وحدة سياسية. ولا عبرة لكل تجزئة طرأت عليها بعد الحرب العالمية ” (5). وبقي هذا الدستور سارياً حتى عام 1947.

توفي إبراهيم هنانو عام 1935، فأضربت البلاد من أقصاها إلى أقصاها الإضراب الستيني المعروف في هبة وطنية قل نظيرها. سافر بنتيجتها الوفد الوطني (سعد الله الجابري – هاشم الأتاسي – فارس الخوري) إلى باريس للتفاوض على معاهدة الاستقلال، وعندما عاد الوفد بعد توقيع المعاهدة، استقبل بحفاوة شعبية كبيرة، لأنه حقق شيئاً باهراً ومنتظراً للوطنية السورية في مختلف مناطق البلاد.

وفي الانتخابات الأولى بعد الجلاء في 7 تموز 1947، لم يحصل أي حزب على الأغلبية في مجلس النواب. فكانت الحكومات ائتلافية أو حزبية مطعمة. ومن بين 136 مقعداً هي مقاعد المجلس، اختص غير المسلمين منها بـ 19 مقعداً، واحد منها ليهودي هو وحيد مزراحي(6).

استطاع دستور 1950 أن يشكل وعاء للوطنية السورية الجامعة في دولة الاستقلال، ومرت مواده الـ 166 بتوافق وطني شامل. باستثناء مادة واحدة، تختص بدين الدولة أو بدين رئيسها. وجرى نقاش حولها، حسمه المسلمون عبر مشايخهم وقادة الرأي فيهم لصالح ” دين رئيس الدولة الإسلام ” (7)، وليس دين الدولة. ويعتقد معظم السوريين بإمكانية اعتماده لعبور المرحلة الانتقالية، ريثما يتم وضع دستور جديد.

نعمت سورية في مرحلة الدولة الاستقلالية الأولى، وبظل دستور 1950 بمرحلة من الاستقرار والإنتاج والتفاعل الوطني بين المكونات على طريق الاندماج الاجتماعي، وأثمرت الوطنية السورية نظاماً (لا يخلو من عيوب)، لكنه أرسى اللبنات الأولى للدولة الحديثة قوننة ومؤسسات، ووضعها على سكة النهوض في مختلف جوانب الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية. فدخلت سورية دولة الوحدة مع مصر 1958 دون ديون خارجية وبميزان تجاري رابح. باختصار، كان الكيان الوطني المستقل تجاوزاً لما قبله، وأرقى مما جاء بعده من حكم سلطاني استبدادي غاشم. لأنه سمح بتفتح كل الزهور في الحديقة السورية الوارفة.

إنهم يقتلون الوطن

مع نهاية العهد الديمقراطي في الدولة السورية 1958، بدأت تتجمع خيوط المحنة الجديدة للوطنية السورية. ففي دولة الوحدة (1958-1961) ساد الخطاب العروبي الصارخ متجاهلاً خصوصية سورية (الإقليم الشمالي من دولة الوحدة)، كما كان لجهاز المخابرات (المكتب الثاني) وتصرفاته أثر سلبي بالغ الأثر على الروح الوطنية الجامعة للسوريين. جاء بعده الإحصاء الاستثنائي الذي أجري في محافظة الحسكة 1962 ليشكل أبرز خيوط بداية المحنة، حين حرم بنتيجته عشرات الآلاف من الكرد السوريين -أو الذين تواجدوا على الأرض السورية آنذاك -من الجنسية. وشكل استيلاء حزب البعث على السلطة 1963 وممارساته خلال نصف قرن عاملاً فيصلاً في تشابك خيوط المحنة وتعقيدها، وإيصالها إلى ما وصلت إليه اليوم. ليصبح تجاوزها أكبر الامتحانات وأصعبها للوطنية السورية ولمكونات الشعب السوري دون استثناء.

ألغى نظام البعث الحياة الدستورية، وأحل محلها إرادة الحزب والجماعات والأفراد. فأصدر دساتير مؤقتة في الأعوام 1964 و1969 و1971 (ليس فيها من الدستور غير الاسم)، تساعده على الحكم كيفياً دون اعتراض أو مساءلة. وقد كانت دساتير ورقية فقط لتوضع في الأدراج، لأن الحكم بيد ” مجلس قيادة الثورة ” أو ” القيادة القطرية ” أو اللجان العسكرية المستترة. وكلها منظمات فئوية وغير دستورية، لا شأن بالشعب السوري بها، إلا أن ينصاع لها ويكون ضحيتها. وفي دستور 1973 قدم أكبر طعنة للوطنية السورية، عندما طوَّب سورية ومن عليها، بكل ما فيها تحت الأرض وفوق الأرض لحزب البعث، يتصرف فيها تصرف المالك بملكه. تحت شعارات ثورية حيناً وقومية حيناً، لكنها استنسابية وفئوية مغرضة في كل الأحيان. وأسس لنهج التمييز على أساس قومي وطائفي وسياسي فعلياً وعلى أرض الواقع، ضارباً عرض الحائط بالوطنية والمواطنة والمساواة، التي أبقاها حبيسة الأدراج والملفات الدستورية والقانونية، لكن وسائل دعايته السياسية والثقافية والإعلامية تجأر فيها ليل نهار.

ففي دستور 1973، يكون الرئيس ” عربياً سورياً “. وحزب البعث هو ” القائد للدولة والمجتمع “، كما جاء في المادة الثامنة منه. والقيادة القطرية لحزب البعث ترشح الرئيس، وليس لأحد أن يترشح خارج هذه القناة. وبذلك قسم السوريين إلى فئات متراتب في علاقتهم بالدولة ومؤسساتها، تذكر بتراتبية العصور الوسطى. فالبعثيون للحكم. وأعوانهم في ” الجبهة الوطنية التقدمية ” للدعم والمساعدة في الإدارة وخدمة البعث وسلطته. والشعب للاستفتاء بـ (نعم) والتصفيق في المسيرات وتقبل المنح والعطاءات. أما المعارضة، فلها مكان واسع في السجن، أو رحب في الخارج.

هذا على صعيد الشعب. أما على صعيد الأرض، فما فعله نظام البعث وحافظ الأسد شخصياً خلال حربي 1967 و1973 أشد خطورة وأعمق أثراً على الوطنية السورية من كل ما فعله الجواسيس وعملاء إسرائيل، ما عرف منه وما بقي طي الكتمان. ولذلك حديث آخر ورجال آخرين، يقدمون شهادتهم ورؤيتهم للموضوع.

التمييز سياسة معتمدة

غير أن أخطر المنافذ التي فتحها لضرب الوطنية السورية، كانت عبر سياسة التمييز الواقعية التي اعتمدها في إدارة الدولة، وتسيير أجهزتها ومؤسساتها. حين قدم حظوة شبه علنية لأبناء الطائفة العلوية في احتلال المناصب والمواقع المؤثرة. بدأت هذه الظاهرة لطيفة خجولة ومتأنية، لكن سرعان ما صارت وقحة وعلنية وبارزة إلى حد الفجور. بدأت في المؤسسة العسكرية وكلياتها، وفي الأجهزة الأمنية ومفاصلها. ثم تطاولت إلى وسائل الإعلام والثقافة، ومواقع النفع والانتفاع في الجمارك والتموين والاقتصاد. لتصل أخيراً إلى جميع مفاصل الدولة من البعثات العلمية والتعليم الجامعي إلى النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني. باختصار هو احتلال مكشوف للدولة السورية. وإلا كيف يمكن أن نفسر أن يرأس الجامعات الحكومية الأربعة رؤساء من الطائفة العلوية، بما فيها جامعة دمشق؟ !

ألغى التمييز الواقعي على الأرض لصالح العلويين أثر التمييز السياسي المقنن لصالح البعثيين. إذ لم يعد بالإمكان تأمين المصالح التمييزية لملايين السوريين بعد توسع القاعدة الانتهازية لحزب البعث من أجل ربط الجميع بحبل السلطة. والحاجة إلى الولاء المنضبط الأعمى تقتضي تقديم الطائفي على السياسي. وفي الوقت نفسه كانت سياسات التضييق التمييزية ضد المواطنين الكرد تزداد. فمن إجراءات وممارسات تحد من تملكهم الأرض، إلى مشروع الحزام العربي 1973. إضافة إلى تهميش هذا المكون الوطني السوري في العمل العام ومؤسسات الدولة، وتركه نهباً لتسلط الأجهزة واستغلالها، دون أن يحصل على حقه في التعليم والعمل وفرص العيش الكريم. وبدأ جرح الوطنية السورية يتسع ويتعمق.

زرعت دولة الوحدة المصرية – السورية جرثومة سطوة الأمن والمخابرات في جسد الوطن دولة ومجتمعاً. وجاءت الدولة البعثية لتؤسس نظاماً كاملاً للدولة الأمنية البوليسية، تدير بوساطته الدولة، مستعينة بخبرات دولية من الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وغيرها من أجهزة المخابرات المعروفة في العالم. ولأن أبناء الطائفة العلوية يتحكمون بالمفاصل الرئيسة لهذه الأجهزة، لم يعد من المهم سلم التراتبية الوظيفية، أي أن تكون وزيراً أو مديراً عاماً أو رئيساً لهيئة. فإن كنت علوياً ستكون المدير الفعلي وصاحب الرأي والمشورة والقرار، حيثما كان موقعك في سلم الإدارة. وإذا كنت غير ذلك، فأنت لست القائد أو المدير أو الوزير الحقيقي، مهما كانت رتبتك ومرتبتك، وكائناً ما كانت فخامة سيارتك والمكتب الذي تجلس فيه. وما حدث بين الجلادين وفيق شحادة ورستم غزالي مؤخراً، وأدى إلى نهاية الأخير، يدخل في هذا السياق. (قال لي وزير سابق من وزراء النظام من دير الزور هو الآن في صفوف المعارضة: كان حافظ أسد عاملنا ” كلاشات “، يلبسنا متى يريد ويخلعنا متى يريد).

جاءت جريمة مدرسة المدفعية لحلب في 16 / 6 / 1979، لتقرع جرس الخطر، وتشير إلى عمق الجرح في الوطنية السورية، الذي أحدثته سياسات البعث وحافظ الأسد. خاصة وأن مرتكب الجريمة الأول النقيب إبراهيم اليوسف، ضابط الأمن والتوجيه السياسي ورئيس الفرقة الحزبية في المدرسة. أقدم المذكور على إدخال عناصر من خارج المدرسة، وقام بفرز طلاب الضباط العلويين، ثم أمر بإطلاق النار عليهم، فقتل العشرات وجرح مثلهم، في جريمة طائفية سافرة ومستنكرة، ذات ابعاد دلالية مرعبة.

بعد عام من هذه الواقعة، نفذ رفعت الأسد في 27 / 6 / 1980 في سجن تدمر العسكري جريمة مماثلة في البشاعة والدلالات الطائفية التي تحملها. حين حمل العشرات من جنوده في سرايا الدفاع (وهو تشكيل عسكري طائفي لحماية السلطة) بحوامات إلى سجن تدمر العسكري، وقتل 1200 من السجناء المسلمين السنة المحسوبين على الإخوان المسلمين وهم داخل الزنازين.

في التفاصيل

كان الاندماج المجتمعي الضحية الأولى لممارسات النظام والمخططات المدروسة للمتنفذين فيه وأصحاب القرار. وكانوا دائماً من العصبة الأمنية السياسية التي تمسك بتلابيب السلطة من جميع جوانبها. ومن الطبيعي أن تكون الدولة الوطنية الوليدة الضحية الثانية لعهد البعث، حيث تم انتهاك الدستور والقوانين، واستبدالها كيفياً بسهولة ويسر. وصارت المؤسسات غطاء لسياسة الفساد والإفساد ووسيلة للتعيش والخدمة الخاصة، عوضاً عن أن تكون بخدمة الشأن العام. باختصار تعرض الاندماج المجتمعي والدولة الوطنية لانتهاكات فئوية، أدت إلى تهتكهما. ففقد المجتمع تماسكه ووحدته وعلاقاته البينية، وخسرت الدولة موقعها واحترامها ووظيفتها كسلطة عمومية، تفتح الأفق أمام تطور سورية كوطن والسوريين كشعب. وتحت ستار كثيف من الشعارات القومية واليسارية الجوفاء، نمت الفئوية جهاراً نهاراً. ولأن السلطة بقوتها ونفوذها من بدأ ذلك، وسمح به، وشجع عليه، فقد أتاحت للطائفيين والفئويين من كل الجهات ومن جميع مكونات الشعب أن تعلن حضورها المقابل. وبدأت تظهر تدريجياً بعض الظواهر الدالة والفاقعة، التي تعلن التمايز الطائفي والانتماءات ما قبل الوطنية بوقاحة واستعراض سافر، لأنها استجابة لنهج السلطة وتحقيق لمأربها. فكنت تعرف دين صاحب السيارة ومذهبه في دمشق وريفها دون أن تخمن، أو تكلف نفسك عناء السؤال. فالمسيحي يعلق الصليب أمامه. والدرزي يثبت النجمة الخماسية بألوانها المعروفة على واجهة السيارة، والعلوي يشهر ” ذو الفقار ” سيف علي على الزجاج الخلفي. أما السني فما أسهل من أن يضع لصافات ” الله – محمد ” ليعلن انتماءه. وفي مناطق تواجد الأكراد، بدأت تظهر أعلام كردستان. وبهذا يتم استحضار المسيحي والمسلم، العلوي والدرزي والشيعي والإسماعيلي والسني، وكذلك العربي والكردي والسرياني الآشوري والتركماني والشركسي والأرمني. الخ، على حساب تغييب السوري، الذي تضاءل وجوده، وتراجع دوره، حتى اكتفى بالبقاء حبيساً في الوثائق الرسمية وبين الأوراق.

نجح النظام في مخططه التخريبي ذاك بفضل الترابط الوثيق الذي أحكمه بين المؤسسات الأيديولوجية (دينية وسياسية) والأمنية والعسكرية والإعلامية، لتعمل كجوقة واحدة في توضيب الرأي العام والتأثير عليه. ففي كل فرع من الفروع الأمنية يوجد قسم يدير هذه العمليات وأشباهها يسمى (قسم الأديان)، يقوم بربط المؤسسات الدينية والعملاء والمخبرين فيها بشبكة تعمل بتوجهات محددة وفق خطط متفق عليها. والنتيجة سلوكيات وتصرفات دون وطنية، مذهبية وعشائرية ومناطقي وعائلية، تعمل على تعبئة الجمهور وتحشيده، وشحن الجمهور المضاد وإبعاده واستبعاده. حتى صار الوجود الاجتماعي حالة تساكن وتجاور، يخيم عليها الحذر والتوتر والشكوك المتبادلة. فنشطت ” مدارس الأحد ” و” مدارس تعليم القرآن ” وجمعيات ومنظمات دعاويه دينية مثل ” القبيسيات “. وصار للدروز نشاطهم الخاص وكذلك للاسماعيليين والعلويين وغيرهم. ومثل ذلك للإثنيات بغض النظر عن حجمها ودورها. لكنه مسعى لتأمين الاحتضان والحماية والوجود الآمن المتضامن في وقت تفككت فيه عرى المجتمع، ولم تعد الدولة دولة الكل الوطني لتلعب هذا الدور وتوفر البيئة الآمنة للجميع، بعد أن أصبحت دولة فئة.

أنتجت تصرفات السلطة هذه تبدلات في نوعية البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في البلاد. وتم ذلك في ظروف قمع شديد في الداخل وخنق للحريات العامة والخاصة، وإغلاق الباب أمام تشكيل فضاء وطني عام. فضاق صدر السلطة بالمنتديات الثقافية والاجتماعية ذات الرسالة الوطنية السورية. وحاصرت الجهود الاجتماعية المحلية البسيطة التي تحيي العمل الوطني العام وتعلي من شأنه. كما حصل في مدينة داريا خلال فترة ربيع دمشق. عندما تنادى بعض شبابها (خارج أي طموحات أو أهداف سياسية) لتنشيط الوضع الاجتماعي العام، فقاموا بحملات لتنظيف المدينة ومحاربة الرشوة والفساد وتشجيع الشفافية والعمل العام المفتوح لخدمة الشعب. فلم يجدوا من السلطة غير الاعتقال وخنق الظاهرة وكأنها حالة انقلاب سياسي. مما يبرهن على أن إيصال المجتمع إلى مرحلة التبدد والفوات كان من بين أهداف السلطة وفي الأس من نهجها، ولا تسمح بأي جهود معاكسة.

تم ذلك في ظل ضجيج إقليمي عن دور سورية – التي لم تعد غير ” سورية الأسد ” – الصاعد في المنطقة بتوكيل دولي ووظائف محددة، ليكون أداة ضبط وربط على الساحات السورية واللبنانية والفلسطينية، وتقديم المساعدة على الساحات الأخرى في المنطقة.

في زمن الثورة / أمل وآلام

كل الخدوش والجروح السابقة في الوطنية السورية، لم تكن شيئاً أمام القتل الممنهج والمدروس الذي مارسه نظام آل الأسد على جسد الوطن وروح الوطنية في سورية خلال أربعين عاماً. ورغم ذلك، بل بسببه، أعلنت الثورة وطنيتها منذ اليوم الأول. وأعادت الاعتبار للوطنية السورية بأهدافها (الحرية والكرامة) وشعاراتها التي رفعتها ” واحد. واحد. واحد. الشعب السوري واحد “. وكذلك بأسماء الجمع التي تنادت للتظاهر فيها ” الجمعة العظيمة، جمعة صالح العلي، جمعة آزادي ” وغيرها. كانت الثورة تعرف مواطن الوجع وبواطنه، فأرادت تجاوز الألم والواقع والتعالي على الجراح بكبرياء وطني حقيقي، لأنها تعرف أن لا مخرج من الألم، ولا منقذ مما نحن فيه إلا بالوطنية السورية الجامعة. لكن للأسف لم تقابل جهود الثورة وتضحياتها في هذا المجال بما تستحق من عناية وتفاعل. فاستمر سكين النظام بالانغراس عميقاً في جسد الوطنية السورية وروحها، من خلال أعمال القتل وارتكاب الفظائع غير المسبوقة ضد أكثرية الشعب. فتعمقت الجراح بفعل جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها بحق الشعب جيش بشار الأسد ” الجيش الوطني ” ومنظمات الإرهاب التي استقدمها، والتي لم تتوقف يوماً واحداً ولا ساعة واحدة.

المحنة الكبرى

إن أخطر ما يميز محنة اليوم تضافر العوامل الخارجية مع العوامل الداخلية التي صنعها النظام ويعتمدها. فالعوامل الخارجية التي كانت دائماً العامل السلبي الأكثر تأثيراً وفاعلية، مثلما حصل في بداية القرن الماضي، يزداد دورها اليوم ويتضخم عبر اشتراك عناصر جديدة ولاعبين جدد، بعضها جديد بالوجود (إسرائيل)، وبعضها جديد بالدور والطموح والمشاريع المعتمدة (إيران).

فإسرائيل لا تخفي رغبتها ومصلحتها في طعن الوجود الوطني السوري الواحد وتفتيته إلى كيانات صغيرة، على شكل كانتونات إثنية أو طائفية أو مناطقي. بعد أن صعَّدت نهجها العنصري التمييزي ضد المواطنين العرب داخل الخط الأخضر بمناداتها بيهودية الدولة. وحتى تتمكن إسرائيل من الاستقرار والاستمرار في المنطقة كـ ” دولة لليهود ” لا بد أن يكون شرق المتوسط ميداناً لبروز دول مشابهة، تبنى على أساس إثني أو ديني أو مذهبي. وقد جاءت الفرصة المناسبة، بعد أن حطم النظام سورية ومقدراتها، وعطل قدراتها على مواجهة مثل هذه المخططات وتفشيلها. فلا قوة عسكرية وطنية جامعة، ولا روح تماسك اجتماعي، يمكن أن يرد مشاريع التقسيم أو يردعها. والشعب يغرق أكثر فأكثر بمصاعب توفير سبل الحياة والعمل والعيش الكريم. فما يجري في كل المناطق فوق طاقة التحمل، وإغراق الإنسان السوري تحت حمولة الأعباء اليومية الخاصة والقاتلة خير وسيلة لإخراجه من الشأن العام. وهو ما يهدد بذهاب الأمر إلى غير أصحابه الحقيقيين.

ويأتي الدور الإيراني الذي استفاد من ” سورية الأسد ” كموقع هيمنة ومركز انطلاق إلى المناطق الأخرى في لبنان وفلسطين واليمن، وخلال هذه الفترة عمل على إنهاك الوطنية السورية واختراقها بفعل تسهيلات النظام الممنوحة، ونهج الاستبداد والقهر الذي يمنع الاعتراض. فقام بمشاريع التشييع التي لم تكن خافية على أحد، وعمل على اختراق الوطنية السورية بالتحركات والمصالح الطائفية بهدوء من قبله وصمت وتجاهل من قبل النظام. أسس الجمعيات الطائفية كـ ” جمعية المرتضى الخيرية ” التي ترأسها جميل الأسد، وبدأ يجدد الأضرحة ويبني الحسينيات والمدارس ويستملك الأراضي حول المزارات في مختلف المدن، كالسيدة زينب في ريف دمشق ومقام السيدة رقية في قلب العاصمة والسيدة سكينة في داريا وغير ذلك كثير من المواقع الشيعية التي أعاد إحياءها. ويتصرف بسورية اليوم تصرف المالك بملكه ، فهو صاحب الرأي والموقف والقرار . وعندما لا يستطيع الاستمرار ببسط نفوذه على سورية (ولن يستطيع)، فسوف يكون مسروراً بالاحتفاظ بموقع نفوذ مؤثر في كانتون طائفي ومقتنعاً بالاكتفاء به، لتشكيل حالة ميليشياوية سياسية وعسكرية على شاكلة حزب الله، تكون إسفيناً إيرانياً، يعيق أي رد على الاحتلال المتعدد الأشكال الذي تفرضه إيران عبر تصدير ” ثورتها ” ونهجها ومذاهبها في الشريعة والحياة.

ومخططات التقسيم وخرائطها متعددة وجاهزة من أطراف خارجية أخرى. بعضها بعيد وعبر المحيطات، وبعضها على تماس يومي ومباشر خارج الحدود السورية وداخلها. فتحركات وأفعال صالح مسلم وحزبه الاتحاد الديمقراطي الكردستاني PYD تشير إلى هذا المنحى بقوة صارخة. فالصلات والعلاقات الدولية التي يقوم بها، ومشروع ” الإدارة الذاتية ” الذي أنشأه والإجراءات التي يقوم بها في محافظة الحسكة، وما فعله أخيراً في تل أبيض، تشكل الوجه الآخر لما يفعله النظام في طعن الوطنية السورية.

تعرضت سورية خلال نصف قرن من حكم البعث لسلسلة من المحن والنكبات ومجموعة من الحماقات والارتكابات، قامت بها السلطة الفئوية ضد المجتمع، وأدت إلى تكسير الوحدة الوطنية للشعب، التي أنجزها خلال معركة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية. ومن خلال معارك الدفاع عن الوطن والشعب ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. كذلك من خلال المعارك القومية على الصعيد العربي، التي كان للسوريين دور ومشاركة فيها. مثل حرب التحرير الجزائرية 1954-1961، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، وقضية فلسطين ومعاركها المختلفة، التي كانت باستمرار قضية سورية منذ نشوئها 1948.

الآن. هنا

الطائفة العلوية ليست مسؤولة عن سياسات النظام وارتكاباته، فهي أيضاً من ضحاياه وضحايا سياساته التخريبية على الصعيد الوطني. رغم أن أحداً لا يستطيع أن يعفي نخب الطائفة ورجالاتها من مشايخ ومثقفين وسياسيين وأكاديميين من مسؤولية التخلف عن لعب دور في مواجهة ما يجري وفضحه، وفي ملاقاة ثورة السوريين التي نهضت لأسباب وطنية، تخص السوريين جميعاً، مثلما تخص العلويين كجزء منهم. دون أن نهمل دور المئات من أبناء الطائفة العلوية الذين أمضوا سنوات طويلة من أعمارهم في سجون آل الأسد نتيجة مواقفهم الوطنية والديمقراطية المعارضة. وعلى رأسهم الصديق عبد العزيز الخير الذي تغيبه السلطة، وتخفيه حتى اليوم في أقبية النظام.

ويعلم الجميع أن للنظام رصيداً من أدوات القمع والفساد والإجرام في جميع الطوائف الأخرى وعلى كل المستويات. كانوا دائماً من الفاعلين والمنفذين لسياساته بمعرفة أو بغير معرفة. لذلك فإن الرد الوطني اليوم، بعد ما أوقعه النظام بسورية والسوريين، مهمة الجميع باتجاه الجميع. والعلويون في قلب المعادلة.

في خطابه الأخير (آب 2015) يعلن بشار الأسد أنه لم يعد معنياً بسورية كما يعرفها الجميع. بل صار معنياً بمنطقة يريد الدفاع عنها، ويتمكن من ذلك. والمنطقة المقصودة معروفة للجميع. فهل يوافق أهالي طرطوس واللاذقية – والعلويون منهم على وجه التحديد – على هذه الخطة وهذا المعزل الذي يرتبه لهم مدمر سورية وقاتل شعبها؟ وهل يقبل الأحفاد اليوم ما رفضه الأجداد قبل حوالي قرن من العيش بمعزل عن سورية في كانتون طائفي، وهم الذين كانوا حاضنة للفكر القومي والوطني والتقدمي؟ وماذا سيقول في قبورهم: سعد الله ونوس وممدوح عدوان وأحمد سليمان الأحمد والعشرات من عيون الثقافة العربية، التي أهدتهم الطائفة لسورية؟

يصعب على المرء أن يتخيل أن أحفاد صالح العلي وسليمان الأحمد وأحمد نسب وعبد الرحمن الخير، أصبحوا تلاميذ عند ولاية الفقيه وقاسم سليماني، ولم يعودوا يهتمون لصوت دمشق وحمص وحماة وحلب.

ليس لجهود التقسيميين أن تنجح. فجميع السوريين يعرفون هذه الحقيقة. لكنها محنتهم وامتحانهم في الوقت نفسه. وأبناء الطائفة العلوية أنفسهم من يتوجب عليهم تسجيل العلامة الأعلى في النجاح بهذا الامتحان، خدمة للطائفة أولاً ولسورية والسوريين تالياً.

سيقول قائل: ألا ترى التطرف والإرهاب والرايات السوداء التي تعم البلاد وتنتقل من مكان إلى آخر، تحمل فتاوى العنف والإكراه والموت، وتتحزم بالخناجر والحقد والمتفجرات؟ أقول: بلى، لكن بشار الأسد ونظامه من أوجدها، وسوف تكون ” باقية وتتمدد ” دولة داعش البربرية ما بقي بشار الأسد على سدة الحكم. وليس من الحكمة والعدل والصدق التترس وراء هذه المقولة للحؤول دون الخلاص السريع لبلدنا من المحنة. فالإرهاب إرهاب وهو مرفوض لأنه كذلك، ولا فرق بين أن يكون تحت العلم الأسود أو العلم الأصفر. وضحايا الإرهابين أساساً هم من المسلمين، أو لنقل من السوريين كل السوريين والمسلمون السنة في المقدمة. فعلى الجميع أن يخشى الإرهاب، لأنه عدو الجميع. وللإرهاب جهة أخرى لا تخطئها العين. إلا إذا كان ما حدث في دوما يوم 16 / 8 / 2015 لم يبلغ السمع والبصر، وفي زملكا قبل عامين عندما قتل أكثر من ألف ضحية بالكيماوي ليس عملاً إرهابياً. وما جرى ويستمر في سورية من قبل النظام وحلفائه وميليشياته منذ أكثر من أربع سنوات له اسم آخر.

المراجع:

  1. سورية والانتداب الفرنسي: تأليف يوسف الحكيم 1991.
  2. مئوية المؤتمر العربي الأول في باريس 1913: سيار الجميل 2013.
  3. المؤتمر السوري العام: ماري ألماظ شهرستان / الجامعة الأردنية 1993.
  4.  سورية صنع دولة وولادة أمة: وديع بشور 1994.
  5. الدستور السوري لدولة سورية 1930 / مجلس الشعب السوري 2014.
  6. الحكومات السورية في القرن العشرين: سعاد جمعة وحسن ظاظا.
  7. أوراق شامية من تاريخ سورية المعاصر: غسان حداد 200

ا .