قبل سنوات، أصدر الناقد ابراهيم العريس كتابه “الحلم المعلق”، وهو محاولة أولية لقراءة أفلام مارون بغدادي في ارتباطها بحياته القصيرة (1950 – 1993). وبغض النظر عن مضمون الكتاب، فعنوانه يحمل أكثر من تيمة، تيمة حلم السينما المعلق، وتيمة حلم اليسار المعلق أيضاً. فالمخرج عاد في كانون الأوّل 1993، من باريس إلى بيروت، حاملاً فكرة فيلمه “زوايا” (سيناريو الروائي حسن داوود) الذي تدور أحداثه حول طبيب لبناني كان في باريس يعود إلى بيروت لينتقم من قتلة أبيه. لكن خلال رحلة بحثه عن القتلة، يزور صديقه ورفيقه السابق في منظمة العمل الشيوعي، زياد، الذي قرّر العودة إلى طائفته (الدرزية). يقول زياد لمروان إنّ بحثه عن القتلة ليس إلا “مراهقة رومانسية”، وسرعان ما يكتشف الطبيب استحالة مشروعه الانتقاميّ في فيلم كان ليبدو منسجماً مع أجواء الغفران والاعتذار والنسيان في بيروت الخارجة لتوّها من حروبها. 


مارون بغدادي الذي عاد ليصور فيلماً في بيروت، قيل أنه تعثر على الدرج وسقط في غرفة المصعد، ليبقى غيابه كما بداياته محفوفا بالألغاز والتكهنات خصوصاً بعد ما أورده صديقه جوزيف سماحة، عن ملابسات موته في كتاب “قضاء لا قَدر”(دار الجديد).

بعد 15 عاماً على نهاية الحرب، وفي اغسطس/آب 2005 في ذكرى أربعين اغتيال الشيوعي جورج حاوي، وقف الراحل محسن ابراهيم ليقول إن “الحركة الوطنية اللبنانية” في معرض دعمها لنضال الشعب الفلسطيني، ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل. واعتبر أن الخطأ الثاني “هو استسهالها لركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى تحقيق التغيير الديموقراطي”. بمعنى آخر كانت الحرب بالنسبة للحركة الوطنية “قضاء لا قدراً”، بعكس ما كانت أدبيات بعض الحزبيين اليساريين تقول إن “الحرب فُرضتْ علينا”.

على أن رحيل محسن ابراهيم، يجعلنا نستذكر جيلاً من اليساريين في السبعينات، كانوا في منظمة العمل والحزب الشيوعي والمجموعات الاخرى وحتى في الحركة الوطنية… محسن ابراهيم الذي آثر الصمت طوال مرحلة ما بعد الحرب، باستثناءات قليلة، كإطلالة من هنا أو بيان من هناك، وجورج حاوي استقال من الأمانة العامة للحزب الشيوعي وذهب في تيه آخر الى أن اغتالوه بالقرب من بيته. لا يبتعد صمت محسن ابراهيم عن اغتيال جورج حاوي، كلاهما (الصمت او الإسكات بالاغتيال) يأتيان ضمن منظومة “السجن العربي الكبير” كما كان يسمه كمال جنبلاط… وكثيرون حاولوا استنطاق محسن ابراهيم، أو طلب كتابة مذكراته، لكنه آثر الصمت والهروب. ويمكن قراءة هذا الصمت أو السكوت أو الإسكات بأكثر من وجه، من الجانب السياسي…

لكن السؤال الأهم لماذا غادر معظم “مشاهير” منظمة العمل الشيوعي تنظيمهم، بل لماذا عاد الكثير من اليساريين إلى طوائفهم؟ ينسب “بعضهم” المشكلة في المنظمة (مثلاً) الى شخص محسن ابراهيم، لكننا لم نقرأ تجارب توضح المشكلة، ربما كُتبت في مرحلة وسهونا عنها… وهناك من يعتبر أن حروب اليسار والخلفيات الطائفية هما المشكلة، يكفي أن يتحدث محسن ابراهيم عن “استسهال ركوب سفينة الحرب” لندخل في تأمل جوهر المأزق… بالطبع من السهل انتقاد تجربة الماضي والحديث عنها، لكن هل هناك محاسبة فعلية؟ هل هناك من يتحمل النتائج؟ هل “يمضي الماضي”؟… في الجوهر كانت الحرب الأساس في تدمير لبنان ونواة اليسار، وقد أعادت إفراده الى مستنقعات الطوائف والمصالح الشخصية والأهواء الايديولوجية المتشعبة في مرحلة كانت الأعاصير ولعبة الأمم تعصف بلبنان…

يكتب القيادي السابق في منظمة العمل الشيوعي، فواز طرابلسي، عن صديقه جوزف سماحة: “تعرفت الى جوزيف سماحة العام 1972 من ضمن مجموعة شباب دخلت في حوار مع منظمة العمل الشيوعي قصد الانضمام، وكنت مكلّفاً بالمتابعة معهم. ضمت المجموعة حازم صاغية ووليد نويهض وغانم أبو غانم وآخرين. جوزيف وحازم قادمان من علاقة بحزب العمال الثوري العربي الذي أسسه ياسين الحافظ، وقد اختلفا مع ياسين على الموقف من المقاومة الفلسطينية. اما وليد وغانم، فمن شباب الحزب السوري القومي الاجتماعي الذين كانوا يثيرون قضايا الديموقراطية الداخلية في الحزب ويطالبون بموقف عملي مشارك تجاه المقاومة الفلسطينية وبالانحياز يساراً في العقيدة الاقتصادية والاجتماعية”.

يضيف طرابلسي: “في خريف العام 1976، عندما طلبتْ مني قيادة المنظمة ان أغادر الى باريس، لدواعٍ قيل لي وقتها انها أمنية، تسلّم جوزيف مسؤولية الإشراف على لجنة الإعلام التي استدرجت مشاركة كوكبة من الشباب المندفع والموهوب، شكل الفوج الثاني من مثقفي المنظمة وإعلامييها، ومن أسف أنهم ما لبثوا ان تفرّقوا أيدي سبأ. إني أتحدث عن: زهير هواري، سعد محيو، جورج ناصيف، نصير الأسعد، نهلة الشهال، سليمان تقي الدين، عبدالله اسكندر، نجاة طاهر، شربل داغر، رودولف القارح، وليد نويهض، احمد قعبور، زينب شرف الدين، سعدى العبدالله، حسن ضاهر، وفي الاخراج السينمائي، مارون بغدادي ورندة الشهال، وفي التصوير الصحافي، رمزي حيدر وبلال قبلان، وغيرهم”. يضيف طرابلسي: “غادر جوزيف منظمة العمل الشيوعي في ظروف لا تشرّف المنظمة ولا قيادتها. عند انهيار مشروع الحركة الوطنية، وتخلي يسارها عن البرنامج الديموقراطي الجذري والعلماني، كان لسان حال جوزيف: إذا لا تغيير، فالمصالحة بين الفرقاء النزاع أجدى والعمل في سبيل استعادة وحدة لبنان. كتب جوزيف سلسلة مقالات انتقد فيها تخلي الحركة الوطنية عن العلمانية، وتماهيها مع الإسلام السياسي، فصدر قرار تنظيمي بفصله. ولكن من أسف أن جوزيف عبّر عن مراجعته تلك باتخاذه موقفاً ملتبساً من حكم أمين الجميّل والمفاوضات الاسرائيلية-اللبنانية التي أفضت الى اتفاق 17 أيار”. على ان جوزف في سنواته الأخيرة بدأ اكثر جذرية في حب فلسطين واعتبارها قضيته الأساس.
الزميلة ثناء عطوي سبق أصدرت كتاباً بعنوان “حوارات في المسارات المتعاكسة” (دار بيسان) عن تقلبات المثقفين في الأحزاب السياسة من بينهم اليساريون. حازم صاغية مثلاً يعلن قائلاً: “لستُ فخوراً بماضيّ السياسي”، وهو تقلب في أكثر من اتجاه، من قومي سوري في البدايات الى عروبي الى يساري فخميني ثم ليبرالي. هاني فحص يشير الى أن “كل المثقفين المتعصبين للشيعة اليوم، كانوا شيوعيين، فهؤلاء مسكونون بستالين ويبحثون عن ستالين آخر دائماً..”. وتوفيق الهندي الذي مر باليسار قبل ان يكون مستشار القواتي سمير جعجع، اكتشف ان “الأممية والقومية كانتا وهماً مستحيلاً وحلماً..” ويقول: “أنا لم أذهب الى تموضع ميلشيوي طائفي، بل الى الكيانية اللبنانية”. أما عبد الحميد بيضون الذي انطلق من اليسار مروراً بالإمام الصدر ووصولاً للاندماج الكامل في حركة أمل، وشغل منصب الوزير المستشار للرئيس نبيه بري، يعتبر أن انتماءه الى حركة أمل “كان زواجاً فاشلاً.. ومرحلة اليسار كانت دخولاً في الطريق الخطأ..”. وانتقل سعود المولي من يسارية ماوية متشعبة وفلسطينية الى مستشار أو مساعد للإمام محمد مهدي شمس الدين، وتنقل الراحل سمير فرنجية بين اتحاد الشيوعيين ومنظمة العمل الشيوعي والحركة الوطنية وبشير الجميل ورفيق الحريري. وهذا غيض من فيض عن أهواء اليسار ووديانه وتشعباته وانهياراته.