المثنى الشيخ عطية

“نحيلةً، ومائلةً إلى القِصَر”، مثل مثيلتها “معشوقة” الشاعر السوري حسين بن حمزة، الذي يفضّلها هكذا، تأتي قصائدُ نثر مجموعته الشعرية “قصائد دون سنّ الرّشد”؛ ولا يخدعنّك بن حمزة بهذا التصريح المتراكب بين المعشوقة والقصيدة، والذي يشير إلى وعيه بما يخالف من تفضيل. كما لا يخدعنّك قصر القصائد التي تراها فعلاً هكذا على الصفحات في عطش القراءة، ناقةً تتلاعب بها أمواج السراب من بعيد. فالنحيلة المائلة إلى القصر باقترابك منها أو اقترابها منك، سوف تحتلّ كامل الصفحة، وربّما ستحجب عنك إن لم تحذر أفق رؤية ما بعدها من صحراء. ولا يخدعنّك أيضاً تصريحه الآخر في مفتتحه للمجموعة بأنّه: “وحشةُ الكلمات الزائدة /التي يحذفها الشعراء /لكي تصبح قصائدهم أجمل”. فالمجموعة البالغة القصر بصفحاتها وأطوال قصائدها، والمجموعة التي تعاني كلماتها الزائدة مرارة الوحشة، والمجموعة التي تبدو درويشاً بوذياً متقشفاً بالأسمال وطاسة الصدقات، هي المجموعة ذاتها الخارجة حرّة طويلة ًعلى قدميها، بعد ثبات جلوسها المتشابك الطويل لسنوات مع جذور شجرة المعرفة.

مخالفاً أساليب قصيدة نثر ما بعد الحداثة التي يكتبها الآن معظم شعراء قصيدة النثر، بنهج السّرد القصصي، يعود الشاعر السوري المقتصد في نتاجه الشعري، كما قصائد مجموعته، بقصيدة نثره إلى أصول قصيدة النثر، في الحفاظ على طابع السطر الشعري النابض، ولكن باختلافٍ أيضاً عن طابع روّاد هذه الأصول، بقصديّة واعيةٍ، تتخلّل القصيدة خلال جريانها النابض والمختفي كإشراقاتٍ لا تدع الوعي قائماً كوعي بدون أن تصهره بعصف الشعر. وتبرز أسلحة هذا العصف ماضيةً بابتسامة الاختزال الذي يقود إلى ماهيّة الشعر، وبضحكة تركيب الجملة الشعرية الساحر الذي يقود إلى عوالم الكتابة الآلية الحلمية، بأرفع ما أنتجته السوريالية من كتابة:

“لو أنني أتخفَّف من حياتي

فلا يبقى منها

إلا قميصٌ خفيف

كالذي يتنزَّه به المصطافون

خارج حياتهم”.

“قصائد دون سن الرشد”، كما هو عنوانها المعبّر عنها بقوة، تُفضي بنا مع متعة قراءتها، واختزالها المتقشّف حدّ الثراء، إلى التفكير في ماهيّة الشعر، الموزون وإن كان نثراً بميزان ذهب:

ـــ حيث لا زيادة ولا نقصان في تجلّي الجوهر، كما الرياضيات، كما الموسيقى، كما الأثير، وكما تراكب الكائنات في خلقها سيمفونية “انطواء العالم الأكبر في الجرم الصغير”.

ـــ وحيث البكورة التي لا تقبل تكرار ما اعتيد عليه، حينما “ليس لديكَ سوى هذه الكلمات المستعملة، وعليك أن تكتب شيئاً جديداً”، وحينما هذه الغيوم/ رأيتُها من قبل/ الخريف مستعمل”.

ـــ وحيث الشيخوخة التي تكتشف نمو طحالبها فيك، لتخطيها إن كنت من بين:

“الذين ما عاد بإمكانهم أن يعودوا أدراجهم /مكتفينَ بأكثر من الثلاثين بقليل /ولم تعد الأربعون وما يليها /سبباً كافياً للمُضيّ /الخاسرون دائماً /الموهوبون في الندم /البارعون في صناعة الذكريات /مقتنو الوحشة ومربّو جِرائها /الذين ما أن يكونوا وحيدين /حتى يضعوا ملح الماضي على أصابعهم ويلعقوها”.

“قصائد دون سن الرشد”، كما صيغت برشدِ تداخل الشعر المتدفّق بدون وعي، مع وعي علاقة موضوع الشعر بأسلوب الكتابة، تُفضي بنا كذلك إلى تلمّس بنيةٍ موحّدة لا تفصح مباشرة عن توحّدها، وتتكشف ظاهراً عن أربع قصائد نثر، تضم الأولى منها تحت عنوان “نقود الوحدة” ثلاثاً وعشرين قصيدةً ثانوية قصيرة تتراوح بين سطرين وثمانية أسطر؛ ويجمعها التمحور حول الوحدة التي تأكل أطراف الإنسان ويحاول الردّ بنحرها شعراً، دون أن يغيب تداخل أسلوب كتابة القصيدة، والشعور بثقل مرور الزمن، وعجز الكلمات عن الفعل، وضرورة كتابة الجديد الطازج المختلف، والمرأة المعشوقة، عن الوحدة في هذه القصيدة: حيث: “أحببتُك /لأن ذلك كان يجعلني وحيداً / بطريقة أفضل”. وحيث: “سيأتي يوم /أقتلُ فيه هذه الوحدة /وأعيشُ /وحيداً”.

وتضم القصيدة الثانية تحت عنوان : “أربي اسمك في فمي”، خمساً وثلاثين قصيدة ثانوية قصيرة كما الأولى، ويجمعها التوحّد كنشيدِ إنشادٍ فاتن ومدهش للمرأة المعشوقة التي لا ترتفع إلى مصاف آلهة الخصب والحب والحرب عشتار وفق أساطير السوريين، ولا إلى مصاف نساء فالكيري الجميلات اللواتي لا يعرفن الرحمة وفق أساطير الفايكنغ وقصائد الشاعر كيتس، بأسرهن قلوب الفرسان وقطعهن الرؤوس، ولا مصاف النساء اللعب اللواتي يتحركن حيّات في أسرّة الشعراء الذكوريين، وإنما إلى مصاف نساء الحياة اليومية المتمثلات أكثر بإلزا لويس أراغون، كمعشوقات يحركن الحياة بما يجعلها نابضةً بالحياة والفن والجمال: “الغزلان تسرَحُ في نومكِ /غير مباليةٍ /بالنمور المرسومة على غطاء السرير /قدمكِ /التي انحسر عنها الغطاء /لا ترافقكِ /في المنام /في الصباح /ملائكة بثياب العمل /يجزّون عشباً /ينبتُ /في جهتكِ من السرير /جسدكِ /المتعب من /الواجبات الزوجية /لا يزال /يُديرُ الرؤوس”.

وتضم القصيدة الثالثة تحت عنوان: “شيخوخة”، تسعاً وعشرين سطراً موحّدة تحت محور معنى الشيخوخة. وتضم القصيدة الرابعة تحت عنوان: “غرف”، سبعاً وعشرين سطراً تتمحور كذلك حول الوحدة، والاكتفاء من الحياة بالأقل الذي لا يمس شعور الحياة، ويلخّص فلسفة الشاعر في حياة التقشف، وأسلوب كتابة قصيدته بالتقشف، ولكنْ بالثراء الذي يعيشه القارئ بمتعةٍ الدهشة خلال قراءته لها: “مكتفياًبالحياة القليلة التي استأجرْتُها في تلك الغُرَفْ /بما كان يتسرَّبُ إليها من  درفة نافذةٍ /وحيدة /بتلك الجَلَبة الخفيفة التي تشبه خفقة جناحٍ لطائرٍ في قفص /هناك /حرَّكْتُ أقلَّ ما يمكن من الهواء /وأنا أتجوَّل في الممرِّ المؤدي /الى الشرفة أو المطبخ”.

بالإضافة إلى تخفّفها من الزوائد غير الضرورية التي تمس تماثلها مع شبيهتها المعشوقة كنحيلةً، وتميل إلى القصر، تتكشف البنية العميقة لـ “قصائد دون سن الرشد” عن تناغم وتوحّد هذه القصائد، وإنْ بحرية التوزّع؛ كما يتألق هذا التناغم بلعبة جعل عنوان القصيدة الثانوية جزءاً فاتحاً للقصيدة على الدوام، ويشكل سطرها الأول دون انفصال، ودون أن يفقد ألَقَه كعنوان؛ ويساهم قصر القصائد في نجاح هذا التوحّد بانسيابية متفردة.

كما تتكشف هذه البنية عن أهم ما يميّز الشعراء المتفردين بصورة عامة، وما يميز أسلوب بن حمزة في صياغة قصيدته، وهو تركيب الجملة الشعرية التي تعطي الشعر معناه وشكله وإدهاشه كشعر. بالإضافة إلى لغته البسيطة المتقشفة، لكنْ الراقية، التي استجابت لهذا التركيب وحافظت على مزايا آليّة صياغته، دون اضطرار اللجوء إلى سحر الغموض الذي توفره الكتابة الآلية الحلمية للشعر: “دَعْهُ يهطل بسلام /لا تجرح المطر /بقصيدة رديئة”…  “هذا المطر /الذي يتأنّى في الهطول /كي لا يكسرَ خاطرك”.

“قصائد دون سن الرشد”، في مجموعة الشاعر حسين بن حمزة، تتميّز ختاماً، بكلّ ما يدهش في ما دون سن الرشد، لكنّها تتميز بالنمو أيضاً داخل قارئها إلى ما بعد ثلاثين الرّشد، وتتخطّى “شيخوخة” ما بعد أربعين الوحدة واليأس والندم والعجز التي تعالجها القصائد، بروح الشباب.

قبل هذه المجموعة أصدر الشاعر حسين بن حمزة المقيم حالياً في ألمانيا، مجموعةً شعرية واحدة، عام 1997 عن دار “الجديد” في بيروت، بعنوان “رجل نائم في ثياب الأحد”، وأعاد إصدارها بطبعة ثانية عن الدار التي نشرت هذه المجموعة.

حسين بن حمزة: “قصائد دون سن الرشد

دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام 2019

80  صفحة.