لوموند- le monde

الخلافة كانت أكثر بكثير من مجرد خيال، فى تفكير أبو بكر البغدادي وأقرانه من داخل تنظيم الدولة الإسلامية.

عند إعلانهم عنها في 28 حزيران 2014 على الأراضي التي استولوا عليها في سوريا و العراق، كان المجاهدون قد خططوا مسبقاً لمشروع دولة حقيقية ذات إدارة دقيقة و صارمة ليتمكنوا من فرض مذهبهم الاستبدادي على الأرض وسكانها لفترة زمنية أطول.

 

ازدهار هذه المؤسسة يكشف كذبة الدول الغربية والعربية الذين حاولوا أن يظهروا الدولة الإسلامية كقزم مصغر عن القاعدة محكوم عليه بالفشل، وفي أيلول 2014 قال باراك أوباما بلهجة ساخرة:

“اذا كان فريق من الشباب يضعون قميص Lakers، فهذا لا يجعل منهم Kobe Bryant” وهو نجم كرة سلة أمريكي.

في تشرين الثاني 2015،  كان الرئيس الأمريكي مجبراً على الاعتراف بالخطأ، لا تزال مجموعة المجاهدين تسيطر على ثلث سوريا والعراق ويبلغ عدد سكانها 10 مليون نسمة تقريباً. كما أنها تضع يدها على سلة مالية كبيرة وعلى موارد طبيعية، جعلت منها أكثر منظمة إرهابية ثراءً في العالم. وقد استدرجت نحو 30000 مجاهداً إلى أراضيها، وتمكنت من الحصول على مبايعة جماعات جهادية في بلدان عدة،  كما قامت بتبني العديد من الهجمات الخارجية ومن بينها اعتداءات باريس في 13 تشرين الثاني الذي ذهب ضحيتها 130 قتيلا.

 

قامت الدولة الإسلامية بوضع مشروع الولاية في حيز التنفيذ منذ بداية الأشهر الأولى لتسمية الخليفة بشكل ذاتي، متمعناً في أدق التفاصيل،  كما تم الكشف عن وثيقة مسربة مؤلفة من 24 صفحة فيها 10 فصول تعنى بشؤون وأسس تدريب الكوادر الإدارية، والتي استطاع الباحث أيمن جواد التميمي الحصول عليها ونشرتها صحيفة “ذا غارديان” في السابع من كانون الأول الماضي.

من المرجح أن تكون هذه الوثيقة قد كتبت بين شهري تموز وتشرين الأول 2014  وأن يكون أبو عبدالله المصري من قام بإعدادها، “الأسس الإدارية لتنظيم الدولة الإسلامية” هي آخر وثيقة تم الحصول عليها بواسطة الباحث البريطاني من رجل أعمال متعامل مع الدولة الإسلامية|، وفي غضون السنة والنصف وعن طريق مصادر غير مباشرة،  قد تم جمع أكثر من 300 وثيقة على شبكات التواصل، صادرة عن التنظيم بخصوص سوريا والعراق،  ترجمت إلى الانكليزية و نشرت على مدونته.

إرشادات دينية وإدارية، تصريحات علنية، مقتطفات من كتب الحساب… تلك النزعة البيروقراطية للدولة الإسلامية تعتبر مادة قيمة للبحث والدراسة، وفي تعليق ل أيمن التميمي يقول:

“هذا النوع من الوثائق يوفر فرصة حقيقية لاستمرارية تنظيم الدولة الإسلامية وانتشار الدعوة دون انقطاع.  فعلى سبيل المثال عندما نقول إن الدولة الإسلامية زودت بعص الصور أو الفيديوهات، هذا يفسر لم كل تلك الضجة أو لم كل ذلك الصدى”

 

إدارة صارمة

على الصعيد الايديولوجي (العقائدي)، الدولة الإسلامية هي نتيجة تقاليد موروثة من فكرة الجهاد عن طريق (حمل السلاح باسم الدين)، جاءت من نظرية للمصري سيد قطب سنة 1964 من خلال كتابه (معالم على الطريق)؛ وانتشر هذا الفكر في أفغانستان ومن ثم العراق والشيشان؛ وإن تفكك الخلافة العثمانية فى عام 1924 وعودتها – بهيئة تنظيم – لم يكن فى عام 2014 بل كان منذ عام 2006 من خلال انشاء أبو مصعب الزرقاوي للدولة الإسلامية في العراق، وظهور خلافة أبو بكر البغدادي الذي لقب بالخليفة ابراهيم تعتبر دليلا على فشل الحركة الجهادية وبالأخص الدولة الإسلامية في العراق، من خلال محاولتها إثبات وجودها عن طريق نصوص ضعيفة واستنادها على قاعدة غير متوازنة، وادعاء تسمية “منافقين” للولايات المتحدة وحلفائها الذين تمكنوا من إظهار حقيقتها. وكما أن النصوص تؤكد على أن رؤية الخلافة لا تقتصر فقط على حمل السلاح (باسم الدين) وإنما أيضا على توحيد طائفة المؤمنين كافة (الأمة)  ودمجهم تحت راية واحدة، حيث ينبغي أن يكون هناك (نظام واحد كامل ومتكامل) يهدف إلى تغيير المجتمع وتعليم التعاليم القرآنية للأجيال القادمة ليتمكنوا من خلالها أن يحرروا أنفسهم من تبعيتهم “غير المقبولة” للغرب وللقومية العربية وللقبلية الرجعية.

 

والهدف فيما يلي من إنشاء إدارة صلبة وقوية هو إيجاد موطئ قدم للدولة الإسلامية على الأرض -من خلال التنسيق وترشيد استخدام الثروات- وفيما يتعلق بالسكان من خلال الدعوة التي تقع في المركز الأساسي وتخضع بشكل مباشر لإدارة الدولة الإسلامية، وأيضاً من خلال تعليمهم والدمج بين المهاجرين والسكان المحليين. عملياً، مشروع الدولة هذا نجم عنه إنشاء إدارة مركزية مؤلفة من 16 وزارة، كل قطاع يخضع لسلطة أمير، وتتجسد المبادئ العامة في آلاف القواعد والأنظمة التي تتحكم في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإلى التنظيم الثقافي والاجتماعي.

 

خطة لم تطبق بشكل حرفي ولم ترق َإلى مستوى الرسالة

ولكن بشكل مستمر يطرح التميمي مسألة الفجوة فيما بين النظرية والتطبيق ، والتكيف مع هذه المفاهيم في واقع وبيئة  تنتج التطور. فبغض النظر عن رفضها للميليشات العشائرية أو الانتماءات القبلية، كانت المنظمة ملزمة في قبول رعاية العشائر على الدوام وحمايتها عندما افتتحت إدارة خاصة بهم، وحقيقةً على الرغم من إلغاء الدولة الإسلامية للحدود التى رسمتها اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 لازالت الحدود الفاصلة بين الأراضي السورية والعراقية  موجودة إلى حد ما . فيما بقيت العلاقات مع الدول الأجنبية التى تحترم المسلمين، وكذلك سيادة وحدود الخلافة معلنة بشكل نظري على الأقل في هذا التصريح .

وعلى الصعيد العسكري، تبين الوثيقة بالتفصيل كيف سيكون دور المنظمة في تأهيل المقاتلين المحليين والأجانب ليس فقط عسكرياً بل أيضاً تأهيلهم دينياً ولغوياً، ويبدأ هذا اعتباراً من الفئة العمرية الأصغر سنا من خلال معسكر للأطفال بغية التشجيع على الارتقاء بمستوى الاختلاط العرقي.

يقول أيمن جواد التميمي:

“عملياً تم تأسيس هذا التنظيم، وقد كان هناك جهود مبذولة للإطاحة بسرايا المقاتلين الأجانب التي لديها انتماءات عرقية أو قومية، بما فيها كتيبة البتّار الليبية، ولكن يبدو أن هناك أيضاً أدلة نادرة تشير إلى التمييز الذي لايزال موجودا بين المهاجرين والسكان الأصليين وعلى أن المهاجرين يعتبرون من الطبقة المميزة”.

 

الواردات الطبيعية السر وراء بقاء الخلافة

من أبرز الجوانب الأساسية الأخرى التي تم تسليط الضوء عليها في هذه الوثيقة هي إدارة المصادر الطبيعية التي تعتبر السر خلف بقاء الخلافة واستقلاليتها. و تنص الوثيقة على  الاستغلال غير المشروع للموارد الحيوية الهامة، والمساهمة في تدويرها وتولي زمام أمورها: كالنفط والغاز والذهب والمياه والتحف الأثرية ووسائل الإنتاج العسكري والأغذية وطرق الإمدادات.

عملياً، تم التأكد من هذا عبر مختلف المستندات التي تمكن أيمن التميمي من الوصول إليها، والتي تكشف عن قيام الدولة الإسلامية بتعيين خبراء أعلنوا الولاء للدولة على رأس منشآت الطاقة و الإتجار بالتحف الأثرية على وجه الخصوص. كما أوصى هذا النص على إبقاء  المسؤولين والعمال المتخصصين الذين تم توظيفهم مسبقاً من قبل الحكومات السورية والعراقية في مناصبهم. ولكن لاحظ أيمن التميمي أن كثيراً من الذين غادروا ومن الذين ظلوا كان يجب عليهم أن يدفعوا ما يقارب ال 2500 دولار للحصول على بطاقة توبة، قابلة للتجديد سنوياً مقابل ما يقارب 200 دولار.

وبالإضافة إلى تولي زمام أمور المصادر الحيوية الأساسية، فالوثيقة تباهت بتقديمها التسهيلات للأمور غير المركزية، من حرية تأسيس الشركات والاستثمارات وإلى حرية التجارة مع الخارج من غير وسيط. كما لاحظ التميمي أنه:

“يوجد قدر ما من الواقعية على الصعيد الاقتصادي، لأن الدولة الإسلامية أدركت أن استمرار تدفق العملات الأجنبية والتمويل مع الخارج هو فرصة لها للبقاء مالياً”.

فاللامركزية في الإدارة تطبق إلى حد كبير. هناك حرية في العمل والاستثمار،  لكن لها ثمنها، مثل: فرض رقابة شديدة وضرائب كبيرة على البضائع و التجار، الزيادة في رفع الضرائب على نشاطات الموصل التجارية شتاء أجبر العديد من التجار وأصحاب المطاعم إلى إغلاق متاجرهم.

 

الوحشية لدى رجال الأمن

هذا ما لم تذكره تلك الوثيقة، هو فرض الخليفة وإدارته على السكان “الالتزام” بشكل قسري و بالإكراه. فرجال شرطة (الحسبة) يطاردون الأشخاص الذين يخرقون القواعد الأخلاقية للدولة الإسلامية وتفرض عليهم (الحدود)، عقوبات وغرامات قاسية، وقد تمت مصادرة ممتلكات أولئك الذين رفضوا البقاء والعيش تحت ظل الخليفة ورفضوا الاستمرارية لوجوده. ويرى أيمن التميمي:

“أن هناك الكثير ليقال حول استمرارية وحشية رجال الدولة الإسلامية منذ حرب العراق في 2006. فالدولة الإسلامية قامت بالتخطيط لدولة ليست فقط متطورة بل ولديها القدرة أيضاً على قمع جميع الفتن الداخلية”

و كما أضاف الباحث:

“الوثائق المسربة تظهر مدى تشديد المراقبة، خصوصاً على إمكانية الوصول إلى الإنترنت. هناك قلق شديد من ثورة الإنترنت داخل الدولة الإسلامية ومن أجل الحفاظ على استقرار أمن الدولة، توجد بعض الوثائق على غرار مرسوم العفو العام عن الهاربين أو المنشقين في تشرين الأول و دراسة لسبل التماسك العسكري”.  ويجب على السكان الذين لديهم رغبة في الانتقال إلى خارج أراضي الدولة الإسلامية أن يطلبوا الإذن من الإدارة و أن يسددوا أجور العودة.

 

اقتصاد قائم على الاستغلال

تؤكد الوثائق وحتى شهادات الأشخاص الذين عاشوا أو مازالوا يعيشون تحت ظل الخلافة المعلنة بشكل ذاتي، أن الدولة الإسلامية بعيدة كل البعد عن الصورة المتوقعة للدولة الراعية للأمة الإسلامية والتي ترغب بتجسيدها، وهي أقرب من اقتصاد حرب باحثة عن أي مصدر لتبقي الخدمات العامة تعمل ولو كان بصورة بطيئة بسبب النقص في العاملين وفي الإمكانيات  – وبالأخص في الأدوية للمراكز الصحية –، فقد تم إغلاق العديد من المدارس، كما تستمر الأسعار والضرائب بالارتفاع، وفي بعض المدن كانت الرواتب منخفضة بمقدار النصف.

يعتمد الاستقرار النقدي للخلافة إلى حد كبير على استغلال السكان بحجة الضرائب. وقد تم نشر دفتر حسابات محافظة دير الزور المؤرخ في كانون الثاني 2015 بواسطة الباحث البريطاني، يظهر أن الإيرادات الشهرية للمحافظة تتألف من ثلتي عائدات الضرائب والممتلكات المرهونة. أكثر من أربعة أخماس الميزانية مخصصة للجنود المقاتلين، ولتدوير القواعد العسكرية، ولمعاشات أسر (الشهداء)،  ولتسيير أعمال الشرطة ووسائل الإعلام.

  • ياسمين دمشقي

newsyrian