بهاء أبو كروم
التوجه نحو تحقيق تقدم سريع باتجاه الرقة يشكل واحداً من القضايا التي تهدف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استثمارها لكي تُسجَّل في رصيد أرباحه الإستراتيجية، وقد بات واضحاً بحث ترامب عن مكاسب في السياسة الخارجية للتغطية على إخفاقاته في تحقيق الوعود التي أطلقها في الشؤون الداخلية. وكما بدأت معركة الموصل قبل تبيّن معالم المرحلة التي تلي القضاء على داعش، كذلك تسير المعركة في الرقة من دون الاتفاق على اليوم التالي هناك، أو على الأقل ظهور ملامح العملية السياسية في سورية ومصير نظام الأسد حيث لا تزال إدارة ترامب منكفئة عن إعادة الانخراط في ترتيباتها بقوة.
يتوقف الأمر إذاً على تفعيل الجهد الذي يقوم به التحالف الدولي لمحاربة داعش على المسارين السوري والعراقي انطلاقاً من التوجهات الجديدة التي فرضها ترامب وبعد فترة من الركود أتاحت لروسيا مد نفوذها نحو الشرق والشمال السوري والدخول إلى ملف الأكراد ومناطق نفوذهم.
القضاء على داعش في الرقة قد لا يترك فراغاً هذه المرة، وذلك مع التزاحم والتسابق بين الروس وحلفائهم من جهة وقوى التحالف الدولي من جهة ثانية، لكن لا شك في أن ذلك يترك تساؤلات حول خارطة النفوذ التي تتشكل بعد ذلك ولهذا الأمر اتصاله بعدد من المعطيات. أولاً، الشروع في معركة الرقة من دون تفاهم مع تركيا وتغييب كامل لإيران يترك اثنتين من الدول الإقليمية الفاعلة خارج إطار المكاسب المُحققة ما يعني أن إطالة أمد المعركة ستكون في مصلحتهما.
ثانياً، أن عدم التوصل إلى نزع أسباب التطرف في المنطقة سيضم عملية القضاء على داعش إلى مثيلاتها التي سبق وخبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة بعد احتلال العراق، وأولى هذه المسببات معالجة التوازن الطائفي والإثني بين العراقيين وإزاحة بشار الأسد عن رأس الدولة في سورية وسحب الميليشيات التي تنشرها إيران والحد من تدخلاتها.
ثالثاً، أن التداخل الديمغرافي العربي- التركماني- الكردي في مناطق الموصل والرقة يفترض ترتيب مرحلة ما بعد داعش بدءاً من القوى المحلية التي تتكفل بالتحرير وصولاً إلى الذين يمسكون بالإدارة وإعادة الإعمار، بخاصة أن الإخفاقات العسكرية التي ظهرت في الموصل والكلفة الباهظة على المدنيين تفترض التعويل على الأدوات المحلية في تغيير المعادلة أكثر مما تستوجب اتباع سياسة الأرض المحروقة.
بالتوازي مع ذلك فإن مقاربة ترامب لمحاربة «التطرف الإسلامي» تقوم على المواجهة العسكرية والإيديولوجية المستدامة والحضور العسكري المباشر الذي يحوّل الوجود الأميركي في شمال سورية إلى أمر واقع طويل الأمد ويحرّره تدريجياً من الحاجة اللوجستية لتركيا في ظل التحولات التي تشهدها داخلياً وعلى صعيد علاقاتها الدولية.
وبخلاف الموقف في العراق، فالانتهاء من داعش في سورية يساوي حسابياً ضرورة التفاهم الدولي حول نموذج الكيان الكردي في الشمال وصيغة التعايش مع العرب، وهو ما لم يعد شأناً داخلياً سورياً أو يترافق مع مسارات الحل السياسي، بخاصة أن الأكراد وضعوا في جعبتهم إمكانية التعاون العسكري المزدوج وإقامة قواعد لكل من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت ذاته.
روسيا لا تخفي نواياها الحقيقية تجاه القبول بكيان كردي في سورية، هذه فرصتها التاريخية لكي تؤسّس لحقبة تُضعِف تركيا من جهة الشرق وتُشغلها في شكل مستدام. إضافة إلى أنها المدخل لكي يجري تبرير وجودها الطويل الأمد على قسم من الأراضي السورية في إطار الحل الفيديرالي. وقد أتى كلام مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف واضحاً حين تساءل: «لماذا توافق تركيا على كردستان العراق ولا توافق على كردستان سورية؟»، أو حين عاد ليؤكد أن ذلك «ليس من شأنهم إنما هو شأن سوري»، وأن «الشعب السوري يقرر شكل الدولة والقيادة». الأطروحة الروسية لا تنتبه إلى أن المسألة السورية برمتها باتت خارج إرادة السوريين!
تأتي هذه المقاربة في وقت تبحث موسكو عن ملاقاة الإستراتيجية الأميركية في سورية لتشريع دورها في الحملة على الإرهاب. الرسالة الحاسمة من كل ذلك تكمن في أن تركيا باتت تقف أمام كيان كردي أضحى حقيقة واقعة وهو يحظى بتوافق أميركي روسي له ركائز على الأرض هذه المرة! والأكراد أجادوا تشبيك علاقاتهم ومصالحهم مع كل الأطراف المؤثرين إضافة إلى أنهم لم يتورطوا في الانزلاق إلى مسألة التطرف الإسلامي ما أهّلهم للعب أدوار مهمة في الحرب على الإرهاب.
تركيا تتخوف من تناغم مُطرد في العلاقات بين الأكراد والعلويين تبدو تباشيره واضحة في الساحة السورية وامتداداته في الداخل التركي لديها أسس موجودة. وبالتالي فإن إبقاء تركيا خارج إطار التفاهم في الرقة لن يسهل العملية حتى لو وضع التحالف الدولي كل ثقله في المعركة، بل يُعقّدها إلى حدود بعيدة ويدفع اردوغان إلى التصرف بانفعال مع هذا التحدي. بخاصة أن في عقل العدالة والتنمية التركي أن ما يجري في سورية قد يستهدف تركيا في مرحلة لاحقة، وهذا ما أدركه «مُعلّم» أردوغان ومُؤسّس الحركة الإسلامية الحديثة نجم الدين أربكان الذي كان يردد أنه «عندما يفكر الغرب في الدخول الى سورية فهدفه الأساسي إنما يكون تركيا بالدرجة الأولى». ونشوء كيان كردي تتقاطع في داخله مصالح روسيا والولايات المتحدة ونظام الأسد لن يترك خياراً أمام أردوغان إلا مواجهته.
إمكانية أن تنجح إدارة ترامب في التوفيق بين مصالح تركيا وهدف القضاء على داعش تفترض التفاهم على معالم المرحلة المقبلة وسلّة التطمينات التي تضع ضوابط لعملية تحريك الجغرافيا السورية باتجاه الفدرلة، بخاصة أن استقرار المناطق المحررة من داعش لا يمكن فصله عن مسار العملية السياسية الجارية في جنيف ومصير نظام الأسد وميليشيات إيران واتضاح الدور الذي تلعبه روسيا في شمال سورية.

* كاتب لبناني.

“الحياة”