بإقراره موعد انتخابات مجلس الشعب للدورة القادمة يوم الاثنين 20 تموز/يوليو، لا يضرب النظام بالتحفظ الروسي “المعلن” عرض الحائط وحسب، بل وكذلك يتجاهل التخوف من انتشار وباء كورونا على الرغم من تزايد عدد الإصابات المسجلة في سوريا منذ بداية هذا الشهر.
يتجاهل النظام كذلك رسائل الولايات المتحدة التي ما برح يبعث بها المسؤولون في واشنطن منذ بدأ تطبيق قانون العقوبات الأميركي المشدد “قيصر” قبل شهر، والتي كانت تؤكد على عدم الرغبة بإسقاط النظام بل بتحسين سلوكه فقط، ومن جملة المعايير التي وضعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب كدلائل على تغيير السلوك، الدخول بمفاوضات مع المعارضة وفق قرار مجلس الأمن 2254 بما يؤدي إلى التشارك معها في السلطة.
لكن بمضيه قدماً في إجراء هذه الانتخابات، لا يبدو النظام مهتماً بالنظر في تقديم أي تنازل، ليس لخصومه الغربيين أو لحليفته روسيا أو للمعارضة، بل ولا حتى للشعب الذي أمضى تسع سنوات من الحرب الطاحنة بهدف إحداث أي تغيير مهما كان بسيطاً في هذا النظام.
يتابع النظام وصفته في الحكم التي يطبقها منذ تسلم حزب “البعث” السلطة بعد انقلاب عام 1963، عندما عطّل البرلمان ومنح سلطاته لمجلس قيادة الثورة، ثم ما أحدثه حافظ الأسد من تعديل شكلي على هذه الوصفة، عندما جعل من البرلمان السوري مؤسسة شكلية منزوعة السلطات والصلاحيات لصالح النظام الرئاسي المطلق، تاركاً لمجلس الشعب وظيفة “ديكورية” لا أكثر.
لم ينتزع الأسد الأب صلاحيات السلطة التشريعية من ممثلي الشعب في البرلمان وحسب، بل ومن حزب “البعث” ذاته، ف”البعث” ورغم أن له الأغلبية المطلقة في مجلس الشعب منذ العام 1972، بواقع 166 مقعداً من أصل 250، إلا أن جميع القرارات المصيرية والتشريعات الرئيسية والقوانين المؤثرة بقيت حكراً على رئيس الجمهورية الذي منحه دستور عام 1971 صلاحيات مطلقة، بما في ذلك حق التشريع وإقرار القوانين وتعيين الحكومة والوزراء، بل ورد القوانين التي يقرها البرلمان، وصولاً إلى الحق بحل المجلس عندما يريد.
لم يحدث طبعاً أن لجأ الرئيس إلى مثل هذا القرار في أي يوم، إذ لم يحدث، وليس من المتصور أن يحدث أصلاً، أي شكل من أشكال النزاع بين الرئيس والبرلمان منذ تسلم الأسد الأب ومن بعده ابنه بشار الحكم في البلاد، بعد أن أصبح مجلس الشعب واحة لتجميع ممثلي المكونات الإثنية والطائفية ووجهاء المجتمع الجدد، وجنة الوجاهة التي لا يسمح بدخولها الاستعراضي إلا لمن يثبت أكبر قدر من الولاء والتبعية للنظام ورئيسه.
وعليه لم يعد الشعب السوري “السياسي بالفطرة” وصاحب أول تجربة برلمانية عربية، والذي تمكن من التصويت العام منذ سنة 1928، ومنح المرأة حق الانتخاب حتى قبل الكثير من الدول الأوروبية، مهتماً بمعرفة طبيعة البرلمان البعثي-الأسدي، من حيث نظامه الانتخابي الذي يعتمد الدائرة الكبرى (المحافظة) أو لجهة عدد أعضاء كل دائرة ( مقعد عن كل 80 ألف مواطن) ولا حتى الأحزاب الممثلة فيه، منذ تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية وحصر العمل السياسي بأحزابها السبعة التي لم تعد أقل “ديكورية” من البرلمان ذاته، ناهيك عن عدد الحزبيين من الأعضاء وعدد المستقلين الذي توقف عند 66.
عامل الجذب الوحيد الذي تبقى للمجلس النيابي بالنسبة للسوريين، أنه ومنذ أول دورة له بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين عام 1973، يتلخص بأن الوصول إليه بات المؤشر الرئيس على درجة قرب من يحظى بذلك من النظام، وبالتالي اعتباره شخصاً ذا مكانة، وبالعكس طبعاً، يعتبر عدم التجديد لأي عضو مؤشراً على تراجع مكانة هذا الشخص وفقدانه الحظوة لدى السلطة، أو ربما الغضب عليه.
ومن هنا يبدو الاهتمام بانسحاب بعض المرشحين التقليديين لعضوية مجلس الشعب من السباق الانتخابي الحالي مفهوماً، حيث أصدر عدد من الأعضاء السابقين في المجلس بيانات يعلنون فيها سحب ترشيحهم بشكل مفاجئ. أبرز هؤلاء المنسحبين كان رجل الأعمال الدمشقي محمد حمشو، والسياسي الكردي عمر أوسي، اللذان أصدرا بياني الانسحاب الجمعة.
يعتبر حمشو المولود عام 1966 أحد أهم رجال الأعمال الذين ظهروا على السطح بقوة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وبعد وفاة باسل الأسد، الذي منح حمشو هذه الفرصة، تعهّد كل من بشار الأسد وشقيقه ماهر، رجل الأعمال المنحدر من أسرة دمشقية صناعية ومنحاه مكانة استثناءات تحول بموجبها إلى الواجهة الاقتصادية الثانية للنظام بعد رامي مخلوف.
يمتلك حمشو شراكة رئيسية (أي المالك الأكبر) في 13 مجموعة اقتصادية وشركة كبرى في سوريا، بالإضافة إلى شراكته في عدد كبير من المؤسسات الأخرى بنسب أقل، ويكاد نشاطه التجاري يشمل جميع القطاعات الاقتصادية، ومنذ منتصف العقد الماضي بات حمشو معروفاً بأنه رجل ماهر الأسد، لكنه لم يدخل مجلس الشعب إلا عام 2012، واستمر فيه لدورة ثانية عام 2016.
ومع ترشحه للدورة الجديدة ، بدا طريق محمد حمشو سالكاً بسهولة نحو مقعده في البرلمان، قبل أن يفاجأ الجميع بإعلانه سحب الترشيح، الأمر الذي رأى فيه الكثيرون أنه دليل على تراجع دور حاشية ماهر الأسد لصالح الدائرة المقربة من شقيقه بشار وزوجته أسماء الأخرس، خاصة وأن المعلومات المتداولة تؤكد أن هذا الانسحاب كان لصالح المرشح الصناعي سامر الدبس، رجل بشار الأسد وزوجته الأول في ما يتعلق بالصفقات التجارية وإدارة الأعمال والأموال.
أما السياسي الكردي عمر أوسي، المولود عام 1958 والذي دخل البرلمان أيضاً عام 2012 في خطوة كانت لافتة من قبل النظام، فإن انسحابه من الترشح للدورة القادمة يطرح أسئلة عديدة حول توجهات النظام القادمة في ما يتعلق بالملف الكردي.
فأوسي الذي يعتبر بنظر الكثيرين من المعارضين والأكراد السوريين، ممثل حزب “العمال” الكردستاني في مجلس الشعب السوري، كان وصوله للمجلس مؤشراً إضافياً على توطد العلاقة بين النظام والحزب الكردي الذي تسلّم من دمشق سلطة إدارة المناطق ذات الغالبية الكردية شمال شرق سوريا عبر حزب “الاتحاد الديموقراطي”، بعد تفجر الثورة الشعبية عام 2011، والتي لم تجعل النظام يقدم أي تنازل خلالها سوى الإقرار بأحقية الكرد السوريين بالحصول على الجنسية التي كانت الغالبية العظمى منهم محرومة منها.
وعليه يبدو انسحاب أوسي من الترشح للدورة القادمة مؤشراً مهماً على تطورات سلبية في العلاقة بين الحزب الكردي والنظام، وبغض النظر عن أسباب هذا التطور ومن بادر به، فإن ما سيترتب عليه سيكون مهماً بكل تأكيد.
تسع سنوات مرت على انتفاضة الشعب السوري من أجل المطالبة بالتغيير السياسي، دفعت خلالها البلاد أثمان باهظة من الأرواح والمقدرات، دون أن يكون ذلك كافياً بالنسبة للنظام من أجل تقديم أي تنازلات مهما كانت بسيطة، إلا إذا كان هذا النظام يعتبر أن منح أعضاء حزب “البعث” حق الاستئناس في اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية القادمة تغييراً سياسياً يستحق الاهتمام.