مناف الحمد

لم يكن مفاجئًا تصريح محمود الزهار في كلمته الأخيرة ووصفه لمن فرحوا بمقتل قاسم سليماني بأنهم شواذ هذه الأمة، ولا إشادته بسليماني ووصفه بأنه كان رجلًا يبحث عن حرية الإنسان وكرامته، وأن مقتله في العراق هو -في نظر الزهار- تعبير عن إيمان سليماني بوحدة بلاد المسلمين. كل هذا لم يكن غريبًا لأن أسرى البنى الأيديولوجية المصمتة لا ينتظر منهم أن يفعلوا فعلًا يخرق محددات تلك البنية ولا ينضبط بجوهرها.

الغريب أن القيادي الحماسي، وهو يشجب الشواذ ويشيد بالقتيل، يصر على تجاهل ضحايا المشروع الذي يمثله ذلك الرجل، كما يصر على دفعهم إلى نبذه وفقدان الثقة بمشروعه المقاوم. وليس وصف هذا السلوك بالغريب منطلقًا من استغراب من يعجز عن التفسير، ولكنه استغراب يجد أسبابه في القِحة التي فاقت الحدود عند من يصرون على ممارسة دور الوصاية على الناس.

بالطبع لا يمكن -مهما حاول المتعاطفون مع حماس أن يفرضوا على أنفسهم من الغفلة- أن يفترضوا أن الزهار لم يسمع بالمجازر التي كان سليماني مسؤولًا عن ارتكابها، وهي جرائم موصوفة بحق أبرياء في أكثر من مكان، ولا يستقيم بأي حال افتراض أن القيادي الحماسي لا يدرك دور سليماني التخريبي في العراق مهما لُفقت لهذا الدور التبريرات الأيدولوجية أو السياسوية.

ولأجل هذا، فإن المستغرب ليس تجاهل كل هذا والقفز فوقه، وإنما المدهش أن الرجل الملتحي يصر -بجرأة مستهجنة- على أن يمنح نفسه الحق في تصنيف الناس إلى شواذ وأسوياء وفقًا لمعايير يخترعها هو، وانطلاقًا من مصالح يقرر هو أنها مصالح الأمة.

والمثير للدهشة أيضًا أنه وهو يعلم -حتمًا- عدم توافق الداخل الفلسطيني على شرعية وجوده، على صغر الحيز الذي يوجد فيه، يتحدث عن أمة يفترض أنها محددة المعالم في تعبير مثير للشفقة عن الوهم الذي يستند إليه، ولا يكتفي بذلك بل إنه يمارس وصايته على أبناء هذا الكيان المتخيل انطلاقًا من معطيات شديدة الذاتية تخصه هو.

ليس تحجر القلب ووقر الأذن عن سماع أنات الثكلى وصرخات الأطفال من ضحايا مجازر سليماني هما ما يثيران الدهشة، فقد دأب المؤدلجون على تبخيس قيم الحياة الإنسانية الحية عندما تتعارض مع مشاريعهم ومقولاتهم الأيديولوجية، ولكن المدهش أن الرجل يبدو قادمًا من غفوة طويلة في كهف، فهو يصر على التعامل بعملته الكاسدة في سوق لم تعد تنفق فيها عملات أكثر جدة منها.

الغريب أن حلفاءه من نظام الملالي قد عاثوا في الأرض فسادًا انطلاقًا من رؤية تجديدية -بمقاييس منظومتهم- فهم أصوليون تمردوا على الإخباريين ممن يتمسكون بحرفية النصوص وخرقوا المنصوص في منظومتهم باختراعهم لما يسمى بولاية الفقيه، وهم يستفيدون -بمهارة- من سيولة المكان والزمان في عصر العولمة، بينما يصر حليفهم الصغير القابع في إمارته على اجترار مقولات قديمة وبالانطلاق من تصور عتيق لزمان ومكان مطلقين لا وجود لهما إلا في خياله.

لقد فاق الإجهاد الذي تمارسه هذه البنى المغلقة المستبدة كل حدود الطاقة، ولعل تصريحات كهذه تنفع في إزالة اللبس ورفع الغشاوة عن أعين من لا يزالون يتوسمون خيرًا بأمثال هؤلاء.

نعلم أن المزايدة باسم مقاومة الاحتلال هي حجر الأساس، وهي مقاومة نؤمن بشرعية من يتصدى لحمل مشروعها عندما يحترم حرية الإنسان وكرامته وحقه في الحياة، فليس ثمة أوضح في التناقض من مقاومة تريد -كما تدعي- أن تسترد الحقوق من جهة، وتتحالف مع أنظمة مستبدة تصادر على حقوق لا تقل أساسية  في كل لحظة من جهة أخرى.  

كما نعلم أن اتهامًا جاهزًا بالقبول بالكيان الصهيوني سيتهم به كل من ينتقد حماس، ولكن هذا الاتهام يرتد على صاحبه؛ لأنه لا معنى لمقاومة كيان غاصب من جهة والتحالف بل والتزلف لأنظمة اغتصبت السلطات وابتلعت دولها ومجتمعاتها من جهة أخرى.

إن فعل المقاومة فعل نبيل وإن لبقائه في عالم الطهر شرطًا هو بقاء صلته الراسخة بحقوق الناس الأساسية التي لا يمكن استرداد أي حقوق أخرى قبل تحقيقها.

لك الحق أيتها الفراشة أن تنوسي حول ضوء خافت تستمدين منه الدفء الذي تفتقدينه في عالم موحش ساهمت في تحويله قفرًا، ولكن ليس من حقك أن تستصرخي من حولك لكي يواجهوا مصيرك المحتوم وأنت تحترقين.