إذا استمرّت الحكومة اللبنانية وبقيّة المؤسسة السياسية المتحكّمة بلبنان في رفض التحقيق الدولي وتعطيل مشاركة مجرد فريق تقني دولي في التحقيق، يجب على الاتحاد الأوروبي، بقيادة فرنسا، القيام بتشكيل مجموعة دول بخبراء قانونيين عالميين لدرس وسائل محاسبة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة التابع لأمرة حزب الله حسان دياب ووزرائه على رفض وعرقة التحقيق الدولي في جريمة ضد الإنسانية. هؤلاء الرؤساء الثلاثة وكل من سبقهم في السماح بتخزين المتفجرات في مرفأ بيروت وسط المَدنيين وترك هذا المرفأ تحت سيطرة حزب الله ورهن استخدامه خارج الدولة، يجب أن  يكونوا موضع المحاسبة والعقاب بقدر ما يجب محاسبة حزب الله والقيادات الإيرانية التي تصدر اليه التعليمات وتستفيد من تصنيع الصواريخ وزرع المتفجرات في جثث اللبنانيين الأبرياء. لعل إسرائيل هي التي بادرت الى عملية غامضة-على نسق عملياتها المجهولة داخل إيران- ضد عنبر معين في مرفأ بيروت سبق واتهمت حزب الله باستخدامه لتصنيع الصواريخ الإيرانية وإخفاء المتفجّرات، ثم فوجئت بتلك المادة التي حوّلت العملية “المحدودة” في الانفجار الأول الى كارثة وجريمة حرب في الانفجار الثاني. فإذا أثبت التحقيق ان إسرائيل فعلاً شاركت في نكبة بيروت، هي أيضاً يجب ألّا تفلت من العقاب مهما نفت ونفى حزب الله ولبنان معها انها ليست جزءاً مما حدث يوم 4 آب )أغسطس( في تنسيقٍ غريب بين هؤلاء الأعداء. بالتأكيد ان المعونات الإنسانية للمنكوبين ضرورية والناس في أشد الحاجة اليها، إنما هذا يجب ألاّ يحوّل الأنظار أبداً عن أهمية عدم الافلات من العقاب، وإلاّ فالجريمة ضد الإنسانية والجرائم الإرهابية وجرائم الحرب ستتكرّر في لبنان.

المسؤولية الأخلاقية تتطلّب من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن يجرؤ على رفع صوت المطالبة بإرسال فريق تقصّي حقائق فوراً قبل فوات الأوان وطمس الأدلّة. مجلس الأمن سيتقاعس لأن دولاً فيه لن تسمح بإصدار مواقف تطالب بتحقيق دولي أو بإيفاد فريق تقصّي حقائق. المحكمة الجنائية الدولية لن تتمكّن من التدخّل لأن لبنان وإسرائيل وسوريا رفضوا الانتماء الى هذه المحكمة. 

إنما هناك وسائل أخرى، إذا توفّرت العزيمة. الجمعية العامة للأمم المتحدة لن تنعقد تحت شعار “متحدون من أجل السلام” الذي يخوّلها صلاحيات تشبه صلاحيات مجلس الأمن. إنما في وسعها حشد الدعم وراء مطالبة الدولة اللبنانية بالخضوع لمطلب مشاركة فريق دولي في التحقيق في جرائم ضد الإنسانية، وكذلك دفع الأمين العام الى دعوة مجلس الأمن للانعقاد ضغطاً عليه لإيفاد لجنة تقصّي الحقائق. 

في الوقت ذاته، يجب على الدول القادرة ان تتجمّع تحت سقف القانون الدولي وحشد الخبراء القانونيين في وسائل انهاء أنماط إفلات من العقاب لأولئك الذين رفضوا الشفافية وانصبّوا على اخفاء الأدلة، وزراء كانوا أو رؤساء، موظّفون كبار أو صغار في مختلف أجهزة الدولة، أو قادة قوات خارجة عن الدولة.

 حان وقت انهاء الإفلات من العقاب لأن عدم انهائه في السابق ساهم جذرياً في تكرار الجرائم رهاناً من طرف مقترفيها على التملّص من المحاسبة، لأن العالم ينسى بسرعة ولا يحاسب، ولأن الصفقات السياسية لطالما ضَمَنت إسقاط العدالة أو تأجيلها.

 الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سجّل أحد أهم مواقفه لربما في تاريخه عندما زار لبنان في اليوم التالي للكارثة التي وقعت فيها بيروت. لم يكتفِ بغمر امرأة تبكي تعاطفاً معها حتى وهو في زمن الكورونا، بل انه وبّخ وعنّف المسؤولين كافة عندما تحدّث عن “الأموال المفقودة” من الهبات الدولية للبنان وأصرّ على تقنين المساعدات عبر منظمات غير حكومية. قال انه دعا عون ودياب وبري الى تحمّل المسؤوليات وإعادة بناء الثقة وتحدّث عن ميثاق سياسي جديد مع اللبنانيين. قال لا شيك على بياض لنظام لم يعد يحظى بثقة شعبه. وعد بحشد الدعم عبر مؤتمر دولي لكنه أوضح ان هذه لن تكون هبة بلا شروط وبلا مراقبة بل إن عنوانها هو الشفافية والمحاسبة.

هناك كلام عن أرجحية استخدام الزمرة الحاكمة في لبنان لهذه المعونات والهبات لتعويم نفسها وقلب الأمور لصالحها فيما تستمر هي في تجنّب الإصلاحات وفي ترقيع الأمور بما يخدم مصالحها. هنا أيضاً يجب المحاسبة على الأيادي الدولية لأن هذا الكارتيل المتحكم في لبنان قد اعتاد على العهر السياسي والمالي والنهب والرقص على جثث الناس.

اللبنانيون أنفسهم عليهم الانقلاب على طائفيتهم وقادتهم والنظام السياسي الذي يتحكّم بالبلاد. ليكن هناك حكم الجيش اللبناني لإنقاذ لبنان مما ألمّ ببيروت. لتكن هناك وصاية دولية تساعد الجيش اللبناني على لملمة ما تبقى من لبنان الممزّق بفعل قياداته. كلّن. يعني كلّن. ولينصبّ القانونيون اللبنانيون الآن على حشد القانونيين الدوليين بصورة منظّمة وبراغماتية للعمل على خيارات ووسائل المحاكمة والمحاسبة. فلا للإفلات من العقاب.

هذه القنبلة الأكبر منذ هيروشيما وناغاساكي التي فجّرت عاصمة الشرق الجميلة أدت الى كارثة. هذه ليست كارثة طبيعية. انها جريمة ضد الإنسانية. نقطة على السطر.
  فليُحاسب الجميع. لتُحاسب إسرائيل إذا كانت متورّطة. ليُقال لإيران كفى ولتتخذ الإجراءات الدولية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية إذا كانت هي التي خزّنت تفجيراتها في مرفأ بيروت المدني، فهي بذلك ارتكبت جريمة ضد الإنسانية، وكذلك حزب الله.
  عيبٌ ألاّ يُقدم حسان دياب ووزراؤه على الاستقالة. مَن أتى بهذا الرجل الذئب الذي كان في لباس نعجة؟ كان يوماً لي صديقاً ولم أعهده خالياً من الضمير كما أثبت نفسه بعد كارثة بيروت. بات موظّفاً لدى “حزب الله” على حساب الشعب اللبناني. فليرحل. لكنه لن يستقيل لأنه لا يجرؤ، لذلك يجب أن يُرحّل اما بالعقاب والمحاسبة أو عبر الناس الذين سيجرّونه من السراي مرغماً.
  نبيه برّي يفتخر بأنه أكثر السياسيين حذاقةً. إنما الحكمة ليست في الحذاقة والشطارة. بعدما شاهد ما حلّ ببيروت، هو أيضاً يجب أن يرحل ما لم يتوقّف عن توفير الغِطاء الى حزب الله عبر “الثنائي الشيعي” ويقوم فعلاً بتفكيكه. شيعة لبنان لا يستحقّون وصمة تدمير بيروت لأن قادتهم إما شاركوا أو غضّوا النظر عن تخزين متفجّرات ضخمة في مرفأ مدني.
  ميشال عون ليس “بيّ الكل” وإلا لما تمشّى في مرفأ بيروت وكأنه من كوكبٍ آخر. عهده ليس العهد القوي وإنما هو العهد الفاشل. مصلحته أن يبادر الى الاستقالة قبل أن يُقال. لقد بات اسمه مرتبطاً في أذهان وعلى لسان الناس بـ”النحس”. فلينفض السمعة هذه عنه ويقدّم استقالته الى الناس ليودّعوه بما يقدرون عليه من احترام.
  هذه الدولة التي كانت غائبة عن ذعر الناس يجب أن تتفكّك لأن رائحة عفن النظام فيها لا تطاق. المتطوّعون هم الذين نزلوا الى الشارع في مار مخايل، والجميزة، والأشرفية لمساعدة الناس. هؤلاء الشباب والشابّات هم الذين حملوا المكانس ووضعوا الكمّامات وهم يبحثون عن الجثث او يُزيلون الزجاج والحطام. أدامكم الله يا أولادنا الرائعين. أدامكم الله.
  كلمة أخيرة – شخصية. جارتي في الطابق ذاته من المبنى الذي عشت فيه ويضم 60 شقّة باتت اليوم مُجوّفة وأصبحنا جميعاً مشرّدين، تلك المرأة الجميلة قُتِلت أمام ابنتها دون سن الـ15 وابنها دون العشر سنوات. جارنا في الشقة المحاذية كان يهرول الى الطابق السفلي بعد الانفجار فوجد الولدين في صراخ للاستغاثة إزاء الإصابة البالغة لوالدتهما. فأخذ نبض الجثّة الهامدة وأصرّ على الولدين أن يرافقاه وهما يصرخان ويقاومان رافضين ترك جثّة والدتهما. اضطر سلطان لاتخاذ قرار من أصعب القرارات وهو سلخ الولدين بالقوّة عن والدتهما الميّتة لإنقاذ حياتهما وارغامهما على تركها. تلك الصورة المروّعة للولدين يجب أن تسلب النوم من عيون أيٍّ وكلّ مسؤول عمّا حدث.
  لكنهم لا يعرفون العيب لأنهم مجرمون بامتياز. اعتادوا الإفلات من العقاب مهما ارتكبوا من جرائم ارهابية أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
معظم سكان بناية سكاي لاين التي باتت أيقونة المرفأ هم شباب وشابات في الأربعينات من العمر، خرّيجوا جامعات عالمية، يشتغلون ليلاً نهاراً لتأمين حياة طبيعيّة يستحقّونها. معظم أولئك الأكبر سنّاً عادوا من الغُربة شوقاً الى بيروت وحملوا معهم حصيلة سنوات من الشقاء، فاستثمروا في أيقونة المرفأ التي كان المجرمون يخبِّئون المتفجرات في إهراءاته. أسقطوا أحلام الشباب بلا رمشة عين. فهم كانوا يعرفون ماذا يفعلون وهم تعمّدوا الموقع لتدمير هذا النمط من الحياة الطبيعية والحق بالرفاهية بعرق الجبين.
حسودين كانوا، جشعين، عقائديّين، موظّفين، قادة قرار أو منفذّين، هؤلاء يجب ألاّ يفلتوا من العقاب. فلقد ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. وإسرائيل أيضاً يجب ألاّ تفلت من العقاب إذا كان لها أي دور في جريمة مرفأ بيروت، فعلت ذلك عمداً أو عن طريق الخطأ. 
  شخصياً، قدرة الرب هي التي حمتني وحمت ابنتي وفريق “بيروت انستيتيوت”. لا غير. فمن هناك من الطابق العاشر، ولوحة يحيا الورّاق الرافضة لكتم الصوت ورائي، قمت ببث الحلقة 13 والأخيرة للموسم الأول للدائرة الافتراضية لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي وذلك يوم الأربعاء بتاريخ 29 تموز  (يوليو) كي يكون شهر آب (أغسطس) شهر عطلة. فقط مشيئة الله أرشدتني الى وقف البث في آب، وإلاّ لكنّا قُتلنا جميعاً. فقط إرادة الله شاءت أن أكون في البترون وليس في بيروت يوم الثلثاء 4 آب. 
  لكني وفريق بيروت انستيتيوت لن نرضخ أمام التشريد والتعجيز. فمن مكانٍ ما، حتى ولو كان من شارع مهجور أو بين الأنقاض، ستعود الحلقات الافتراضية لقمة بيروت انستيتيوت في 9 أيلول (سبتمبر) بلا تلك اللوحة الآن، ستبقى لغة الاعتدال والعصرنة مهما ازدادت وقاحة التطرّف والفساد والإفلاس. 
صرختنا اليوم للعالم ستبقى: لا للإفلات من العقاب.