منعت المقاومة المحلية ضدّ هيئة تحرير الشام في إدلب اختراق هذه المجموعة لشرائح كبيرة من المجتمع، ومن الممكن أن تلعب أيضاً دوراً في التصدي لأي محاولة للسيطرة على المحافظة من قبل أي طرف فاعل في المستقبل.

صدر: 22 أيار/مايو 2020

مقدّمة

في الأعوام القليلة الماضية، باتت هيئة تحرير الشام، وهي تنظيم جهادي سلفي تقوده جبهة النصرة، أي فرع تنظيم القاعدة سابقاً في سورية، تحتل مكانة بارزة في محافظة إدلب شمال غرب البلاد. وإدلب هي آخر ماتبقّى من معاقل مهمة يسيطر عليها الثوّار في سورية، علماً بأن النظام السوري بدأ باستعادة مناطق شاسعة من المحافظة أواخر العام 2019. يبلغ عدد سكان إدلب نحو ثلاثة ملايين نسمة نصفهم من النازحين داخلياً، وهيئة تحرير الشام هي الفصيل الأقوى هناك. وحتى قبل أن يتمكّن النظام السوري وحلفاؤه من استعادة السيطرة على جزء كبير من إدلب في هجوم بري مؤخراً، لعبوا على الربط بين إدلب والإسلاميين المتشددين لتبرير شنّ حملة جوية عنيفة ضد المحافظة. وقد وافق العالم بمعظمه على هذا التقييم الذي وضعه النظام وقبِل بسلوكياته، والدليل على ذلك التلكؤ عن التحرك إزاء الهجمات الجوية الواسعة النطاق التي تشنّها القوات الجوية السورية والروسية على إدلب، ما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا المدنيين وقد مهد ذلك الطريق . أمام شنّ النظام هجمات برية ناجحة إلى حدّ كبير.

لكن، في ما يتعلق بتأثير الإسلاميين المتشددين، كانت الأوضاع على الأرض في إدلب وخارجها أشدّ تعقيداً بكثير مما بدت عليه. فقد أخفقت هيئة تحرير الشام، أولاً، في اختراق شرائح واسعة من المجتمع بسبب عملها في إطار مجموعات مغلقة. إضافةً إلى ذلك، ترجم السكان المحليون معارضتهم لهيئة تحرير الشام، ولا سيما ممارساتها الاقتصادية الاحتكارية وتجسيدها لاتجاهٍ متشدد في الإسلام، إلى خطوات ملموسة. ففي عامي 2017 و2018، أجرت بلدات سراقب ومعرة النعمان والأتارب انتخابات لاختيار المجالس المحلية في  تحدٍّ  علني لهيئة تحرير الشام التي تعتبر أن هذه الممارسات تتنافى مع الإسلام. كذلك نظّم سكان هذه البلدات وكذلك بلدات سرمدا وكفرتخاريم وأريحا، تظاهرات أدانوا فيها علناً هيئة تحرير الشام وطالبوا بالتخلص منها. وقد سعت هيئة تحرير الشام على نحوٍ مطّرد إلى تجنّب المواجهة المباشرة مع السكان المحليين، خشية تعرُّض مكانتها إلى مزيد من الإضعاف.

كيف خسر الجهاديون في إدلب بصمتهم

مع اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011 وتحوّلها نزاعاً مسلحاً، أبدى عدد كبير من الأشخاص في شمال سورية تعاطفهم مع المجموعات الإسلامية المسلّحة التي تحارب النظام. وانضوى عددٌ من هذه المجموعات، مع مرور الوقت، تحت مظلة جبهة النصرة التي تولّت، منذ 2012 حتى منتصف 2013، تأمين الخدمات الأساسية التي تشكّل حاجة ماسّة للسكان، ورأت فيها وسيلةً لكسب ودّهم. وفي هذا الإطار، قامت جبهة النصرة بتشغيل أفران، وتوزيع وقود التدفئة، وإنشاء محاكم شرعية لتسوية النزاعات. وعمد كوادرها أيضاً إلى تأسيس شبكة من مراكز التلقين العقائدي لنشر عقيدة التنظيم.

لم يدم شهر العسل طويلاً. فإلى جانب الممارسات المتكررة من سرقة ونهب وخطف وقتل للمدنيين على أيدي جبهة النصرة، خاض التنظيم معارك – اعتُبِرت على نطاق واسع أنها جاءت بنتائج عكسية – مع فصائل الجيش السوري الحر المناهضة للنظام. وفي أواخر العام 2013، نصّبت جبهة النصرة نفسها فرعاً لتنظيم القاعدة في سورية. فأثار هذا نفور عدد كبير من المواطنين السوريين السنّة الذين أبدوا استياءهم من السلفية الجهادية التي تجسّدها جبهة النصرة ومجموعات مماثلة. وكان هذا المزاج ملموساً حتى عندما سيطر التنظيم المسمّى الدولة الإسلامية على إدلب (طُرِد من المحافظة في العام 2014)، وقبل ظهور هيئة تحرير الشام بوقت طويل.

في مطلع العام 2017، اندمجت جبهة النصرةمع أربعة تنظيمات ثورية إسلامية لإنشاء هيئة تحرير الشام. وفي بداية العام 2019، سيطرت هيئة تحرير الشام على إدلب والمناطق المحيطة بها إثر خوضها معارك مع تحالف من الفصائل الثورية المعروفة بالجبهة الوطنية للتحرير ومع حركة نور الدين الزنكي، وهي مجموعة إسلامية انضمت في الأصل إلى جبهة النصرة لإنشاء هيئة تحرير الشام لكنها انشقّت عنها لاحقاً. وبعدما فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها، أرست شكلاً قاسياً من أشكال الحكم في المناطق الخاضعة لها. وعمد التنظيم إلى التضييق على التجّار المستقلين لمصلحة التجار الذين كسب ولاءهم، وفرض ضرائب مرتفعة على المزارعين والتجار وغيرهم من المهنيين. وزاد أسعار الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء والاتصالات الهاتفية، وصادر أملاك المسيحيين الذين فرّوا من مدينة إدلب. لقد حاولت هيئة تحرير الشام، بحسب مختلف الروايات، السيطرة على جميع جوانب الحياة الاقتصادية في المنطقة والإفادة منها.

تسبّبت هذه التدابير، كما كان متوقَّعاً، بتأجيج الاستياء، ولاسيما على ضوء التجارب السلبية التي خبرها السكّان مع جبهة النصرة والدولة الإسلامية. وتجلّى هذا السخط في الانتخابات المحلية التي أُجريَت رغماً عن هيئة تحرير الشام في العامين 2017 و2018، وكذلك في التظاهرات التي اندلعت ضد التنظيم في نواحٍ مختلفة من محافظة إدلب. فعلى سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2019، وبعد فترة من الهدوء النسبي، اندلعت تظاهرات في بلدات سراقب ومعرة النعمان والأتارب وسرمدا. وفي الآونة الأخيرة، نُظِّمت احتجاجات أيضاً في كفرتخاريم وأريحا. وكانت هيئة تحرير الشام تمارس سيطرة اسمية على جميع هذه البلدات، لكنها لم تفلح في ترويع الناس أو حتى منعهم من التنديد بها في العلن.

لم يحصر معارِضو هيئة تحرير الشام في هذه البلدات انتقادهم للتنظيم بالكلام عن ممارساته الاحتكارية، وفساده المالي، وقمعه للحريات، بل أثاروا أيضاً المسألة المتفجّرة المتمثلة بتعامله مع النظام. ففي ممارسةٍ أحدثت صدمة لدى عدد كبير من المراقبين الخارجيين للنزاع السوري كونها منافية للمنطق، جمعت روابط تجارية واضحة بين هيئة تحرير الشام والنظام من خلال الشبكات الاقتصادية التابعة لكل منهما. وفي إحدى المناسبات، وجّه المحتجّون حتى انتقادات علنية لزعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، متهمين إياه بتسليم محافظة حماه شمال البلاد فعلياً إلى قوات النظام من خلال عدم إظهار مقاومة كافية هناك.

بدأ السوريون الذين أمضوا سنوات يتحمّلون بصمت القمع على أيدي هيئة تحرير الشام، ولا سيما الذين رأوا فيها خط دفاع أساسي ضد النظام، يدركون أن الهيئة عاجزة عن وقف التعدي المستمر على إدلب من جانب قوات النظام. وما زاد الطين بلة أن الدور البارز الذي أدّاه التنظيم في إدارة المحافظة منح النظام (وروسيا الداعِمة له) ذريعة لشن حملات عسكرية في المستقبل، شملت هجوماً شاملاً ومثيراً للذعر من أجل استعادة السيطرة على المحافظة. والحال هو أن النظام عبّر تكراراً عن رغبته الشديدة في شن هجوم يستعيد من خلاله هذا الجيب المعارِض.

أما هيئة تحرير الشام فقد وجدت نفسها في مأزق. وبدا أن المعارضة المتنامية لحكمها تستوجب لجوءها إلى القمع. ولكن المحاولات التي بذلها النظام السوري لإخضاع بلدات إدلب وقراها التي احتضنت الانتفاضة منذ العام 2011، ارتدّت بنتائج عكسية لناحية أن المعارضة ازدادت حماسة. ونظراً إلى التشنجات التي تعتمل في المحافظة، كان الاحتمال كبيراً بأن تتكرر النتيجة نفسها في حال لجوء هيئة تحرير الشام إلى مجهود قمعي مماثل. لكن منح المعارضة هامشاً للتحرك، وهو ما بدأت هيئة تحرير الشام القيام به، كان من شأنه أن يزيدها جرأةً ويدفع بها إلى تعزيز نشاطها. كانت هيئة تحرير الشام تخشى أن يتكرر معها ما حدث مع تنظيم الدولة الإسلامية الذي طُرد من إدلب في العام 2014. وقد سلّطت هذه المعضلة التي تخبّطت فيها هيئة تحرير الشام الضوء على واقع أوسع نطاقاً في إدلب. لقد أثبت السكان، مراراً وتكراراً، قدرتهم على مقاومة التأثير الذي يمارسه الجهاديون. وهكذا، اضطُرَّت هيئة تحرير الشام، عند النظر في خياراتها، إلى أن تضع في اعتبارها قدرة المجتمع المحلي على ترجمة كرهه للتنظيم إلى معارضة ناشطة.

الأسباب وراء فاعلية معارضة هيئة تحرير الشام

في حين أظهر سكان إدلب شجاعة كبيرة في التصدّي لهيئة تحرير الشام، فإن الهيكليات والشبكات الاجتماعية المعقّدة في المحافظة هي التي مكّنتهم من قطع الطريق على التنظيم ومنعه من اختراق مجتمعهم على نطاق واسع. واشتملت هذه الهيكليات والشبكات التي تبيّن أنها على قدر كافٍ من التماسك الذي يتيح لها مقاومة الاختراق من التنظيم المتشدد، على أحزاب سياسية عُرِفت على مر تاريخها بمعارضتها للنظام السوري، وعلى التركيبة الاقتصادية والاجتماعية لبعض البلدات وقوة طبقتها الوسطى، والجاذبية التي يتمتع بها تيار مناطقي يرأسه زعيم ديني كاريزماتي، وحتى السياسة القبلية. وأدّت هذه العوامل مجتمعةً دوراً حاسماً في إحباط المحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام كي تتوغّل عميقاً في إدلب.

كان الانخراط السياسي من العوائق البارزة أمام ممارسة هيئة تحرير الشام نفوذها. فالسكان المحليون الذين عُرِفوا على مر التاريخ بنشاطهم السياسي والذي كان نشاطاً سرّياً في الجزء الأكبر منه بسبب طبيعة حزب البعث في عهد الأسد الأب ثم الابن، أفادوا من خبرتهم في العمل في الخفاء وفي التقدّم خطوةً واحدة على مَن هم في السلطة. ومن الأمثلة على التأثير الذي يمارسه الانخراط السياسي الطويل الأمد بلدة سراقب المزدهرة نسبياً، والتي تشكّل معقلاً لمقاومة حكم هيئة تحرير الشام حيث انضم السكان إلى العديد من الأحزاب السياسية منذ خمسينيات القرن العشرين. وتنوّعت هذه الأحزاب بين منظمات شيوعية مختلفة – الحزب الشيوعي-المكتب السياسي، رابطة العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-جناح يوسف فيصل – وصولاً إلى الإخوان المسلمين. وأظهر سكان سراقب أيضاً دعماً شديد الحماسة لإعلان دمشق، وهو ائتلاف معارض استوحي اسمه من الوثيقة التي وقّعتها شخصيات معارِضة في العام 2005 للمطالبة بالإصلاح في سورية.

وليس مفاجئاً أن الناشطين السياسيين الذين أثاروا غضب السلطات، تعلّموا أيضاً كيف ينشئون شبكات معلومات سرّية، وينظّمون حملات عصيان مدني في الظل، ويحبطون الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية لجمع معلومات استخبارية. وقد استعان أبناء سراقب بهذه المهارات نفسها في تصدّيهم للجهاديين. وعندما سنحت لهم الظروف، أخرجوا أيضاً معارضتهم إلى العلن، من خلال إنشاء مجلس محلي حال، طوال سنوات، دون تمكُّن جبهة النصرة من الحصول على موطئ قدم في البلدة. ولاحقاً، نجح المجلس في التصدّي للمحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام لوضع يدها على إدلب إلى أن تمكّن التنظيم من السيطرة بالقوة العسكرية على المحافظة والمناطق المحيطة بها.

ليس مفاجئاً أن الناشطين السياسيين الذين أثاروا غضب السلطات، تعلّموا أيضاً كيف ينشئون شبكات معلومات سرّية، وينظّمون حملات عصيان مدني في الظل، ويحبطون الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية لجمع معلومات استخبارية.

من الحواجز الأخرى التي اعترضت تقدّم هيئة تحرير الشام في إدلب الهوية والتضامن الطبقيان. فالطبقة الوسطى في المحافظة أبدت ممانعتها لسيطرة هيئة تحرير الشام التي كانت صفوفها مليئة بالشباب الفقراء والمحافظين من الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أن معظم عائلات الطبقة الوسطى في إدلب أظهرت دعماً شديد الحماسة للانتفاضة السورية منذ انطلاقتها تقريباً، إلا أنها أحجمت عن الإلقاء بثقلها خلف هيئة تحرير الشام وما شابهها من تنظيمات. وبعدما اقتطعت هيئة تحرير الشام لنفسها منطقة سيطرة في المحافظة، حاولت إقناع شخصيات مرموقة من الطبقة الوسطى في إدلب بالانضمام إلى حكومة الإنقاذ التي شكّلتها. فجوبِه العرض برفض واسع. ثم انتقلت عائلات معروفة كثيرة في المحافظة من مقاطعة المبادرات التي ترعاها هيئة تحرير الشام إلى التحريض مباشرة ضد التنظيم. وبرزت هذه النزعة بوجهٍ خاص في بلدات الأتارب وسرمدا وحزانو. وقد تولّت عائلات عكوش وعبيد والفج زمام المبادرة في تنظيم مقاومة شعبية ضد هيئة تحرير الشام في الأتارب. كما أدّى آل الشيخ دوراً مماثلاً في سرمدا، في حين أن عائلات الزين والصالح وزكور وحبلص والخطيب كانت في طليعة النضال في بلدة حزانو.1

حاولت هيئة تحرير الشام عموماً تجنّب إثارة عداء الطبقة الوسطى في إدلب. وكان السبب وراء هذه المراعاة مرتبطاً، على وجه الخصوص، بإقرار التنظيم بالدور الاقتصادي الذي تؤدّيه هذه الطبقة. فقد تمتعت الطبقة الوسطى في إدلب بدرجة عالية من الاكتفاء الذاتي، ولا سيما بفضل دورها طويل المدى في تشغيل اقتصاد السوق السوداء في موازاة الاقتصاد الذي تديره الدولة. ونتيجةً لذلك، كانت أقل عرضةً للتطويع بواسطة المكافآت المالية التي كانت هيئة تحرير الشام تقدّمها للفقراء والمحرومين مقابل الحصول على ولائهم. وكانت هيئة تحرير الشام، من جهتها، مهتمة باختراق هذه الطبقة أكثر منه بمحاربتها. فالمواجهة كان يمكن أن تؤدّي إلى هروب الطبقة الوسطى، وبالتالي إلى انهيار الاقتصاد المحلي.

وكان التضامن داخل المجموعات، مع اختلاف طبيعته، ظاهراً في المشهد القبلي، وقد تصدّى أيضاً للمحاولات التي قامت بها هيئة تحرير الشام بغية إحكام قبضتها على إدلب. وعلى الرغم من أن الانتماءات القبلية ضعيفة نسبياً في إدلب وشمال غرب سورية عموماً، لا سيما لدى مقارنتها بالروابط القبلية في شمال شرق البلاد، إلا أنها لا تزال تشمل شريحة من السكان. فقبيلة الموالي مثلاً هي الأكثر تماسكاً بين القبائل في المنطقة. وقد حاولت هيئة تحرير الشام كسب ود قيادتها2 التي تنتمي إلى عائلة واحدة وتقيم في قرية قطرة، لكنها لم تفلح في ذلك. ثم سعى التنظيم إلى تقسيم قبيلة الموالي من خلال دعم العشائر المنتمية إليها التي لطالما حلمت بالإطاحة بالقيادة التقليدية وترهيب العشائر الأضعف بهدف إخضاعها. لاقت هذه الاستراتيجية نجاحاً محدوداً في المناطق الواقعة خارج قطرة التي تُعتبَر معقلاً للقبيلة. ولكن هيئة تحرير الشام لم تتمكن من عزل السواد الأعظم من قبيلة الموالي، ولا من تفكيك قيادتها. فقد امتنعت الهيئة عن شنّ هجوم عسكري ضد قطرة على الرغم من لجوئها إلى العنف ضد بعض عشائر الموالي – بما في ذلك ارتكاب مذبحة جماعية في أبو دالي على إثر خلاف مع زعيم قبلي كانت الهيئة متحالفة معه سابقاً، بالإضافة إلى تنفيذ عملية قتل وخطف استهدفت عضويَن في فرع الصياد التابع للقبيلة في باريسة. وفي مختلف الأحوال، كان السبب في ذلك أن هيئة تحرير الشام تعلّمت درساً من تجربة جبهة النصرة التي تعاطت في البداية بأسلوب عنفي مع الموالي، ما دفع بالقبيلة إلى الرد عبر توجيه تحذير اتخذ شكل عرض شبه عسكري في العام 2014، من جملة ردود أخرى.

ظهرت المعارضة لهيئة تحرير الشام أيضاً في صفوف الأعضاء السابقين في حلف الفضول أو المتعاطفين معه. والحلف كناية عن ائتلاف محلي المنشأ لم يُعمّر طويلاً وكان يتألف من فصائل إسلامية التوجّه قامت بطرد الدولة الإسلامية من إدلب في العام 2014. كان حلف الفضول بقيادة الشيخ صلاح حبلص، وهو شخصية دينية مسلمة جذابة كانت تمارس نفوذاً واسعاً في شمال إدلب والمنطقة المحاذية الواقعة غرب محافظة حلب. لطالما عارضت عائلة حبلص نظام الأسد. وقد توفّي شقيق الشيخ صلاح في سجن تدمر السيئ السمعة، في حين أخلي سبيل شقيقه الثاني بعدما أمضى أكثر من عشرين عاماً في السجن. وأدّى حبلص دوراً أساسياً في تنظيم تظاهرات ومظاهر عصيان مدني ضد النظام بعيد اندلاع الانتفاضة في العام 2011. وتبعاً لذلك، كان مناسباً تماماً لقيادة تيار يركّز على محاربة المجموعات الجهادية.

بعد قيام حبلص بإنشاء حلف الفضول وشنّه حراكاً مستمراً ضد الدولة الإسلامية، حاول هذا التنظيم اغتياله في أواخر العام 2013. وقد تعرّض حبلص لإصابات بالغة وانسحب من السياسة لتمضية فترة نقاهة. وأطلق حلف الفضول حملة عسكرية شاملة ضد الدولة الإسلامية في مطلع العام 2014 ونجح في طردها من إدلب في وقت لاحق من العام نفسه. ومع خروج الدولة الإسلامية من المشهد وفيما كان حبلص لا يزال يتعافى من الإصابات التي تعرّض لها، انهار حلف الفضول بعد بضعة أشهر.

ولكن عندما نظّم السكان المحليون تظاهرات في مطلع العام الجاري للتنديد بالهجمات التي شنّتها هيئة تحرير الشام ضد تنظيمات معارِضة مسلّحة أخرى، عاد حبلص إلى المشهد السياسي. وبثّت عودته الثقة لدى المواطنين.3 يعتبر كثرٌ في إدلب أن الإرث الذي تركه حلف الفضول يتمثل في ترسيخ الاقتناع بأنه يمكن إلحاق الهزيمة بالمتطفلين، على غرار الدولة الإسلامية وهيئة تحرير الشام، مهما بلغت درجة عسكرتهم وهمجيتهم. وقد شجّعهم ذلك على اعتماد مقاربة ناشطة في معارضتهم لهيئة تحرير الشام، أي مقاربة تتّسم بالتظاهرات والعصيان المدني وأعمال التخريب المتفرّقة. إضافةً إلى ذلك، سرت شائعات في أوساط السكان المحليين مفادها أن حبلص سيعمد، إضافةً إلى تنظيم التظاهرات، إما إلى إعادة إحياء حلف الفضول وإما إلى إنشاء تحالف عسكري جديد.4 ومن شأن ذلك أن يتيح له شن هجوم ضد هيئة تحرير الشام، مثلما فعل ضد الدولة الإسلامية.

وضع عسير

وجدت هيئة تحرير الشام نفسها، منذ لحظة استيلائها على إدلب في مطلع العام 2019، في موقف صعب. فمن الواضح أنها أرادت ترسيخ سيطرتها على المحافظة لكنها كانت تخشى التسبب بمزيد من النفور لدى السكان الذين يعانون أصلاً من التململ. وفي الوقت نفسه، لم تكن المعارضة جاهزة لطرد التنظيم من إدلب. فدخلت المحافظة في حالة من التوازن الحذر، الأمر الذي منح هيئة تحرير الشام والمعارضة متنفّساً. لكن النظام السوري مدعوماً من روسيا اعتبر أن الوضع الذي آلت إليه الأمور هو أقل من مرضٍ، فقد أراد استعادة السيطرة على البلاد بكاملها.

وقد سعت المعارضة إلى تلافي هجوم يشنّه النظام، وذلك من أجل الحفاظ على وجودها، إنما أيضاً تجنّب وقوع كارثة إنسانية. وهكذا، كان لطرد هيئة تحرير الشام أهمية مضاعَفة في نظر المعارضة. فهذه الخطوة لم تكن لتؤدّي إلى التخلص من تنظيم يعتبره معظم السكان المحليين قمعياً واستغلالياً وحسب، بل كانت لتحرم النظام أيضاً من ذريعته الأساسية لشن هجوم عسكري شامل على المحافظة. فضلاً عن ذلك، لم يعد السكان ينظرون إلى هيئة تحرير الشام على أنها تشكّل رادعاً لهذه الهجمات بعدما فقدوا ثقتهم برغبتها الحقيقية في محاربة النظام.

كانت المشكلة في نظر معارضي هيئة تحرير الشام أن الشبكات الاجتماعية في إدلب تفتقر إلى القدرة على طرد التنظيم من المنطقة. وكان هذا الأمر بغاية الأهمية نظراً إلى أنه لم تكن ثمة مؤشرات في الأفق عن إعادة تكوين حلف الفضول أو إنشاء ائتلاف مماثل. وعلى الرغم من أن بعض الشبكات، على غرار الموالي، كانت مسلّحة، لكن قدرتها على الهجوم بقيت محدودة؛ ولذلك ظلّت في موقع دفاعي. وأقصى ما استطاعت المكوّنات المختلفة في مجتمع إدلب تحقيقه من تلقاء نفسها كان إحباط المحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام للاندماج في البيئة المحلية.

أسقط النظام السوري التوازن الحذر بين هيئة تحرير الشام والمعارضة – ولم يحدث ذلك لمصلحة فريق دون الآخر، بل حدث على حسابهما معاً. فعندما شنّ النظام، المدعوم من روسيا، هجومه البري أواخر العام 2019، تغلّب باطّراد على المقاومة المسلّحة، وتسبب بنزوح حوالى مليون مدني، وقضى على المعادلة المحلية التي كانت قائمة بين هيئة تحرير الشام والمعارضة. ولم يعد الصراع بين هيئة تحرير الشام والمجتمع المدني مسألة ذات أهمية إلى حدّ كبير. وعلى الرغم من تدخّل الثوار السوريين المدعومين من تركيا والجيش التركي بحدّ ذاته لوضع حدّ لتقدّم النظام، تمكّن هذا الأخير بحلول آذار/مارس 2020 من السيطرة على نصف المحافظة على الأقل، وقد ينجح في استعادة السيطرة على المزيد من الأراضي في حال فشل وقف إطلاق النار الأخير في الشهر المذكور. مع ذلك، لا تزال الصورة ضبابية جداً في ما يتعلق بالتداعيات السياسية التي يمكن أن تترتب على الوضع. الوقت وحده كفيلٌ بأن يكشف ما إذا كانت الهيكليات والشبكات الاجتماعية المختلفة التي تطرقنا إليها في هذا المقال سوف تنجح في صدّ المحاولات التي يبذلها النظام ليس فقط من أجل إخضاع إدلب، إنما أيضاً لاختراق نسيجها الاجتماعي.

عن الكاتب

منهل باريش صحافي وباحث سوري في “مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سورية” ضمن برنامج مسارات الشرق الأوسط في مركز روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. يركّز على الديناميكيات المحلية والإقليمية في الأزمة السورية، ويتمحور عمله، في جزء كبير منه، حول الخرائط العسكرية، والمجموعات المسلّحة، والمجالس المحلية، والإدارة المدنية في شمال غرب سورية.

هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).

هوامش

1 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى مقابلات مع ناشطين في الأتارب وسرمدا وحزانو.

2 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى أحاديث مع مسؤولين في قبيلة الموالي.

3 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى أحاديث مع أشخاص مقيمين في حزانو وسرمدا والأتارب التي تشكّل معاقل لدعم حلف الفضول.

4 المصدر السابق.