لم تكتف إيران بإعلان دعمها للبنان بعد الانفجار الذي تعرض له مرفأ بيروت في 4 أغسطس الجاري، على نحو بدا جلياً في تصريحات المسئولين الإيرانيين وإرسال مساعدت طبية إلى بيروت، بل إنها تعمدت تسييس الحادث من اللحظة الأولى.

‎وقد ربطت اتجاهات إيرانية عديدة بين الحادث وظاهرة الانفجارات التي تعرضت لها منشآت نووية وعسكرية إيرانية في الشهرين الماضيين، في إشارة إلى أن ما يحدث ليس بعيداً عن التصعيد الإقليمي الحالي.

‎وبدا لافتاً أن هناك تبايناً في مواقف طهران وحزب الله تجاه الحادث وطبيعته فضلاً عن هوية الأطراف الذين يحتمل أن يكونوا مسئولين عنه، حيث حرصت اتجاهات إيرانية عديدة على تبني نظرية المؤامرة في الوقت الذي أصر الحزب على عدم إضفاء طابع سياسي على الحادث.

‎استهداف محتمل:

‎أكدت إيران دعمها للبنان بعد الانفجار الذي تعرض لها مرفأ بيروت في 4 أغسطس الحالي، وسارعت إلى إرسال مساعدات طبية إلى بيروت. ورغم أن تصريحات المسئولين الإيرانيين اقتصرت على الجانب “الإنساني” الخاص بتداعيات الحادث، إلا أن طهران سمحت لوسائل الإعلام الرئيسية بالترويج لنظرية المؤامرة في تعاملها مع الحادث وأبعاده الأساسية، لاسيما ربطه بما تعرضت لها بعض المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، على غرار منشأة بارشين ومفاعل ناتانز، من انفجارات في شهرى يونيو ويوليو الماضيين.

‎ففي هذا السياق، كان لافتاً أن حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة كيهان (الدنيا)، القريبة من مكتب المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، حرص في الافتتاحية التي نشرت في 7 أغسطس الجاري، بعنوان “اتبع هذه الآثار”، على التلميح إلى أن الطرف الذي قد يكون مسئولاً عن حادث “تفجير” وليس “انفجار” مرفأ بيروت، ربما يكون هو الطرف نفسه الذي سبق أن تورط في الانفجارات التي تعرضت لها إيران، في إشارة إلى إسرائيل تحديداً. وفي رؤيته، فإن هذا الطرف قد يكون تعمد عدم تأكيد مسئوليته عن تلك العمليات لتجنب عمليات انتقام محتملة ربما يتعرض لها.

‎اعتبارات عديدة:

‎ربما يمكن القول إن طهران سارعت إلى إبداء ردود فعل منددة بالحادث وداعمة للدولة اللبنانية، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

‎1- درء الشبهات: قد يكون حرص طهران على المسارعة في اتخاذ هذا الموقف مرتبطاً بمحاولاتها استباق أية اتهامات قد تتعرض لها بطريقة أو بأخرى، خاصة أن بعض الاتجاهات رجحت أن يكون الانفجار ناتجاً عن تخزين أسلحة لحليفها حزب الله في المرفأ، فضلاً عن أنها ربطت بينه وبين اقتراب صدور حكم المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، في 7 أغسطس الحالي، والذي تم تأجيله، بسبب الانفجار، إلى 18 من الشهر نفسه، على أساس أن العناصر التي تحاكم غيابياً في القضية تنتمي إلى الحزب.

‎2- تجنب التأزيم: ربما سعت إيران إلى تقديم العون من أجل دعم موقف حكومة حسان دياب، المحسوبة على تيار “8 آذار” القريب منها. ومن هنا، فإنها تحاول في الوقت الحالي تجنب وصول ارتدادات الأزمة الناتجة عن الانفجار إلى حد الإطاحة بالحكومة الحالية التي تواجه أزمة اقتصادية لا تبدو هينة، في ظل أجواء محلية وإقليمية مفعمة بكثير من عوامل الاحتقان والتوتر.

‎3- إشارات مضادة: يبدو أن طهران تسعى إلى استثمار الحادث من أجل توجيه رسائل تفيد أن العقوبات التي تتعرض لها لن تمنعها من تقديم الدعم لحلفائها، على نحو يتوافق مع ما سبق أن أبدته من استعدادات لتقديم مزيد من المساعدات للنظام السوري لتعزيز قدرته على التعامل مع تداعيات قانون العقوبات الأمريكي “قيصر”.

‎ومن هنا، كان لافتاً أن طهران أعلنت، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية عباس موسوي، في 7 أغسطس الجاري، استعدادها لبناء مرفأ بيروت، رغم أن التقديرات تشير إلى أن التكلفة المحتملة لذلك قد تصل إلى 5 مليار دولار، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول مصداقية تلك التصريحات، في ظل الضغوط والعقوبات التي تتعرض لها والتي أدت إلى تراجع احتياطياتها من النقد الأجنبي.

‎وربما تعمدت إيران تقديم إجابة غير مباشرة في هذا السياق عبر السماح لبعض المؤسسات غير الرسمية بالانخراط في الجدل الذي أثاره الحادث، من خلال إبداء الاستعداد لتقديم الدعم للبنان لمساعدتها على مواجهة تداعيات الانفجار. ففي هذا السياق، أعلن مركز إدارة الحوزات العلمية في إيران التعاطف مع لبنان حكومة وشعباً، مؤكداً الاستعداد لإرسال أى نوع من المساعدات إلى هذا البلد.

‎تباين واضح:

‎اللافت في هذا السياق، هو أن تعمد بعض الاتجاهات الإيرانية إضفاء طابع “سياسي” على الحادث وتبني نظرية المؤامرة لم يتوافق مع الخطاب العام الذي تبناه حزب الله إزاءه. ففي الوقت الذي حظيت نظرية المؤامرة باهتمام وزخم خاص داخل إيران فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الحادث، فقد كان الحزب حريصاً على الإشارة إلى أن الأبعاد الأساسية للحادث ربما تكون صحية واجتماعية واقتصادية قبل أن تكون سياسية.

‎وبدا أيضاً أن الحزب يتخذ موقفاً دفاعياً ليس فقط فيما يتعلق بالإشارة إلى أنه لا يمتلك مخازن أسلحة في تلك المنطقة، التي اعتبر أنها تقع خارج نطاق نفوذه، وإنما أيضاً بالإشارة إلى أن إسرائيل لم تكن الطرف المسئول عن الانفجار، باعتبار أن عدم وجود أسلحة للحزب في المنطقة لا يستدعي في الوقت نفسه هجوماً إسرائيلياً عليها.

‎كما أنه اعتبر أنه يمكنه، كما جاء في خطاب الأمين العام للحزب حسن نصرالله في 7 أغسطس الجاري، معرفة ما هو موجود بمرفأ حيفا أكثر من بيروت لأن “هذا الأمر هو جزء من معادلة الردع”، وهى إشارة لها مغزاها، ومفادها أن الحزب لم يكن مسئولاً عن ما يحتويه المرفأ من نترات الأمونيوم وأن التهديدات السابقة التي وجهها نصر الله ضد إسرائيل في عام 2016 ومفادها إمكانية استهداف شحنات الأمونيوم في حيفا لم تدخل حيز التنفيذ وإنما تأتي في إطار سياسة الردع التي يحاول الحزب اتباعها في تفاعلاته مع الأخيرة.

‎ومن دون شك، فإن الحزب يسعى من خلال ذلك إلى تحقيق هدفين: أولهما، تحصين حكومة حسان دياب واستباق الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها من جانب بعض القوى السياسية والأطراف الإقليمية والدولية، بتحميلها المسئولية عن الحادث، من خلال التأكيد على أن الحادث ليس له أبعاد سياسية، وهو ما انعكس في خطاب نصر الله الذي قال فيه: “إننا أمام فاجعة كبرى بكل المعايير، وأمام حادث له نتائج إنسانية كبيرة وتداعيات اجتماعية وصحية واقتصادية تحتاج إلى تعاطي استثنائي على كل الصعد”.

‎وثانيهما، تقليص الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها في الوقت الحالي، باعتبار أنه ليس طرفاً في الحادث الأخير، بأى شكل من الأشكال، على نحو ما حاولت اتجاهات عديدة الترويج له، في سياق محاولات حصار وكبح الدور الخارجي الذي يقوم به الحزب، لاسيما في سوريا، في إطار التماهي مع السياسة التي تتبناها إيران إزاء التطورات التي تشهدها الساحة الإقليمية.

‎من هنا، يمكن القول في النهاية إن ما يحدث ربما يمثل مرحلة جديدة سوف تعاد فيها صياغة أنماط التفاعلات السياسية داخل لبنان، والتي ستكون مرتبطة، من دون شك، بارتدادات التطورات التي تشهدها الملفات الإقليمية المعنية بها ولاسيما الملف السوري والتصعيد الإيراني- الأمريكي.